لم يكن شعار المصريين العظيم' الدين لله والوطن للجميع' وليد ثورة1919, بل كان أساس تكوين مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة, حين أقام المصريون رغم تنوع معتقداتهم أول دولة مركزية وأمة موحدة في التاريخ. فقد كان قبول واحترام الآخر المختلف دينيا ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا, أو ما اسماه الآباء المؤسسون' القطرين' أو' الأرضين', وتجسد قبول واحترام الآخر في عبادة وبناء معابد آلهة كل منهما علي أرض الآخر. ورغم تعدد' المعتقدات المصرية القديمة' فقد استمرت وحدة تاجي قسمي مصر لا تنفصم, وكان تعايش أصحاب تلك المعتقدات هو الأساس المتين لرسوخ وحدة مصر الفريدة, سياسيا ووطنيا وثقافيا. ونقرأ في كتاب' ديانة مصر القديمة' لعالم المصريات الألماني الرائد أدولف إرمان, أنه قد سبق تكوين الدولة المصرية الموحدة مع بداية عصر الأسرات تكوين دويلات صغيرة أو مقاطعات, تألفت عادة من مدينة كبيرة مضافا إليها ما يحيط بها من أراض واسعة. وفي البدء كان سكان كل دويلة أو مقاطعة يرون معبودهم في مستوي يعلو كثيرا عن معبودات المقاطعات الأخري, ثم انتشر تقديس بعض هذه الآلهة المحلية بين الناس في أماكن بعيدة عن مواطنها الأصلية. وبفضل النيل الذي مكن جميع السكان من اجتياز مصر من أقصاها إلي أقصاها دون أي عائق, انتشرت عبادة العديد من الآلهة المحلية وتغلغلت في نفوس عدد أكبر من المصريين. وإذا ذاعت قصص أو أساطير عن إله في منطقة ما, لا تلبث هذه القصة أو الأسطورة أن تنتشر في البلاد, وتمتزج بقصص الآلهة في غيرها من المناطق, ويصبح بعضها مشاعا بين جميع المصريين. وتوقيرا لمعتقدات بعضهم البعض, كانوا يضيفون صفات ومناقب تلك الآلهة إلي الإله المحلي, حتي صارت الآلهة محلية النشأة في مصر القديمة تحمل صفات بعضها البعض. وإذا حدث أن اتحدت آلهة بعضها مع بعض الآخر دون أن يربط بينها أي رابط فإن الاندماج لا يحدث غالبا بأن يسطو إله قوي علي جاره الضعيف, بل يكون الإله المتغلب من الذين أصبحوا_ لأمر ما_ محبوبين بين الشعب. ومثل ذلك إيزيس زوجة أوزيريس التي ادمج الناس فيها منذ عصور مبكرة إلهة مختلفة. ومع اتحاد مقاطعات الدلتا ومقاطعات الصعيد في مملكتين, قبل تكوين المملكة المصرية الموحدة, كان الإله القومي للدلتا هو' حورس', وقابله الإله القومي' ست' لمصر العليا, وتمثل في هذين الإلهين حاكما مصر أرضي مصر قبل وحدة الأرضين. وكان الإله' ست', معبود الوجه القبلي, كائنا يخافه الناس ولا يحبونه, واعتبر العدو الأكبر لحورس, وربما عكست هذه العداوة ذكريات ترجع إلي عصر كان فيه ملوك مصر السفلي يتحاربون تحت حماية إلههم حورس مع ملوك مصر العليا الذين كان يحميهم الإله' ست', واعتبر حورس إله الدولة المتحدة. فقد كان توحيد القطرين بمثابة بدء عصر جديد للديانة المصرية اختلطت فيه المعتقدات الدينية, ولقد اختلف الحال مع آلهة القطرين, إذ تضاءل مركز' ست' معبود مصر العليا مقارنة' بحورس' معبود مصر السفلي! وبعد الوحدة تمثل في حورس وحده حاكم مصر الموحدة, وهو ما يراه البعض تأكيدا لنظرية الاتحاد الأول لمصر, حين حكمت مصر السفلي مصر العليا في وقت ما قبل توحيد مينا للقطرين. وقد بني أقدم معبد لحورس في مدينة دمنهور الحالية, ولكن ما دام قد أصبح إلها للقطرين, فقد صار واجبا بناء مدينة ومعبد له في مصر العليا, فكانت' هيراكونبوليس', أي مدينة الصقر, حيث بني معبد حورس في إدفو الحالية. ولأن الشمس أهم ما استرعي نظر المصري حين يتطلع إلي السماء, فقد عرف أهل مصر في الشمال والجنوب إله الشمس' رع', الذي أعتبر ممثلا للعدالة. وكانت' ماعت', أي الصدق أو العدل( وهما كلمة واحدة تعني أحد المعنيين) ابنة' رع', الذي يخاطب المصري القديم:' قل الصدق وأفعل ما يقتضيه, فهو العظيم القوي'! وبالرغم من إيمانهم الأساسي بمبدأ التنوع, فقد كان المصريون القدماء يرون أن الخير- أي نظام ماعت- ينتصر دائما, وتضمن اليقين بهذا النظام المثل الأعلي لدي المصريين القدماء, وهذا ما يكون الدولة المتحضرة, كما يسجل أدولف إرمان. ومهما أوغلنا في القدم نجد المصريين القدماء وقد عاشوا كشعب يسيطر النظام علي علاقاته الاجتماعية, ويعتبرون اضطراب هذا النظام جرما. وليس الأمر مصادفة أن تكون الأسطورة المحببة لدي المصريين ذات طابع سلمي, وهكذا, كان أوزوريس أميرا للسلام, لا أعداء له, ويضع حدا للتناحر, وحين يطالب ابنه حورس بدمه فإن الأمر لا يسير إلا عن طريق العدالة. وفي أصلها كانت' الآلهة' الكثيرة التي ظهرت برأس أسد أو لبؤة كائنات مخيفة تبيد الأعداء, ولما كانت مصر بلدا يسوده السلام فقد فقدت هذه الكائنات رويدا رويدا صفاتها السالفة. وقد مكن موقع البلاد الجغرافي المحصن أهل مصر أن يعيشوا حياة هادئة. ومن البديهي أنه قد حدثت حروب ومعارك اعتبرها المصري مصائب حلت بالأمة ولم يهتم بها كثيرا. ولم يتعطش المصريون نحو الأخذ بالثأر كان كانت الحال في الشعوب الأخري, وبقيت تلك العادة غريبة عنهم, ولم يكن في مصر مكان لآلهة ظمأي للدماء, ولا طقوس دينية تسرف في السرور أو الشراهة. وإن وجدت استثناءات فإنها لم تلعب أي دور في العبادات المصرية, وبقيت الديانة المصرية القديمة خلوا من الطقوس المخيفة التي تحيد بالديانات الأخري عن طريق الاعتدال. وامتازت الديانة المصرية بين الديانات القديمة بالجمع بين الحديث والقديم من المعتقدات, وهو دور توفيقي قام به الكهنة, الذين استطاعوا أن يحافظوا علي معتقدات شعبهم طوال آلاف السنين, لأنهم لمسوا طبيعة المصري, التي تدفعه باستمرار ألا ينسي شيئا مطلقا. وقد واتت الشعب المصري الفرصة بأن يخترع الكتابة في أول عصوره, فاكتسب مزية علي الشعوب الأخري, لكنه دفع لذلك ثمنا غاليا. فقد أنتجت كل مرحلة من مراحل تاريخه الطويل معتقدات دينية جديدة عاشت بجانب القديمة دون أن تؤثر عليها. ولا غرابة في ذلك, لأن القديم محفوظ في مدوناته وكتبه كتراث مقدس, وإذا أدت بعض الظروف لأن يتواري في الظلام, فإن ذلك لم يكن إلا فترة قصيرة لا يلبث بعدها أن يظهر ويأخذ مكانه اللائق بين المعتقدات الجديدة. وأخذت عبادة الشمس تنتشر منذ عصر الدولة القديمة, ولعل السبب في ذلك أن ملوك الأسرة الخامسة بناة الأهرامات كانوا ينتمون إلي كهنة هذا الإله. وعلي مدي الألف سنة التالية أضاف المصريون في كل مكان اسم' رع' علي أسماء الآلهة القديمة ليضفوا عليها نصيبا من القوة التي تمتع بها إله الشمس, الذي كان في اعتقادهم متصرفا في مقادير العالم أجمع. ثم يدعو اخناتون في ثورته إلي التوحيد, والي أن الله واحد لا شريك له للعالم بأسره:' الإله الطيب الذي يحب الحق سيد السماء والأرض.. آتون الكبير الحي الذي ينير القطرين'.. لا يعرف إلا العدل نحو الغير حتي إذا كان من شعب غريب, وكان هذا حدثا عجيبا نادرا في العالم آنذاك. ومع اخناتون, أول الموحدين, تنفجر فجأة ثورة عاصفة ضد آمون نري آثارها إلي اليوم في كل أنحاء مصر, فحيثما يوجد اسم آمون علي جدار معبد ومقبرة نراه مشوها. ويصعب تصديق أن هذا كان من صنع الملك اخناتون وحده, وإنما كانت هناك من غير شك مجموعات متعصبة لآتون اقتحمت كل المعابد والمقابر لمحو اسم آمون, لأنه ما دام آتون قد أصبح في اعتقادهم الإله الواحد' خالق كل شئ', ومن الكفر الاعتقاد بوجود غيره, فقد صار مستحيلا أن تقوم إلي جانبه آلهة أخري. وعقب الثورة دمر كل ما كان يذكر بما اعتبر هرطقة إخناتون, ثم صار يتجنب ذكر اسمه, ولم يعد الحديث يجري عنه إلا ويذكر مصحوبا بلقب مجرم تل العمارنة. لكن المعتقدات القديمة التي استعادت مكانتها وتعززت لم تعد كما كانت, وكما يوجز سيمسون نايوفتس في كتابه' مصر أصل الشجرة' فقد آمن المصريون أكثر من أي شعب آخر, بالتنوع في إطار التوافق, وهكذا, اخترعوا آمون رع الإله أو الرب الواحد, الذي صارت كافة الآلهة والقوي التي تمثلها صورا له! ليواصلوا وحدتهم الوطنية رغم تنوع معتقداتهم.