ليست قراءة التاريخ هروبا من الواقع, لكنها ضرورة حين تؤجج نيران التعصب بترديد أساطير ليست سوي تشويه لحقائق تاريخ مصر باعتبارها نموذجا للتعدد والتسامح الديني. وحين يتصور البعض أن مسلمي مصر غزاة للوطن أو أن مسيحيي مصر ضيوف علي الوطن! تزيد ضرورة بيان وحدة أصل المصريين كما أثبت علماء الأنثروبولوجي والتاريخ. ولأن جريمة نجع حمادي النكراء قد ارتكبت عشية عيد الميلاد المجيد للمسيح عليه السلام, فإنه يمكن تفهم ولا أقول تبرير حدة الغضب المشروع للإخوة المسيحيين, لكنه غضب لا يبرر الخلط بين الانتماء المسئول للوطن والاستقواء الانتهازي بالخارج. ولأن دماء بريئة لإخوة وشركاء في الوطن قد أزهقت بعدوان إجرامي علي بيت من بيوت الله, فقد كان طبيعيا أن تجمع الأمة, شعبا وقيادة, علي ضرورة بحث أسباب ما جري وسبل معالجته, وهو ما يستحيل بغير التعلم الإيجابي من دروس التاريخ. ولعل أول ما نتعلمه دروس التاريخ أن المصريين القدماء بتعايشهم الحضاري وتسامحهم الديني علي الرغم من تعدد معتقداتهم( وهم أجداد أكثر من تسعين في المائة من مسلمي ومسيحيي مصر المعاصرة) قد جسدوا فعلا لا قولا وقبل آلاف السنين أن' الدين لله والوطن للجميع'!! وكان الاستثناء علي امتداد تاريخ مصر الألفي حين تهددت وحدتهم الوطنية بثورة اخناتون, الذي حارب كل المعتقدات لفرض عقيدة آتون التوحيدية. لكن الآباء المؤسسين لأول دولة قومية وأول أمة موحدة سرعان ما أعادوا بناء وحدتهم الوطنية علي أساس جديد, يتلخص جوهره في أن الله واحد وإن تعددت صوره في أذهانهم وتنوعت سبل عبادته! وكما يخلص جمال حمدان في عمله الموسوعي شخصية مصر, فقد كانت النزعة الدينية العميقة والأصيلة للمصريين أساس تقبلهم للأديان السماوية تباعا. ولكن كما استغرق تحول أغلبية المصريين إلي المسيحية عدة قرون, فقد استغرق تحول أغلبهم إلي الإسلام بضعة قرون. وزعم أن المتحولين إلي الاسلام هم أساسا الفقراء, هربا من الجزية أو هربا من الاضطهاد, أي لدوافع نفعية وانتهازية فاقعة, ليس سوي تفسير مادي للدين ونظرية انتهازية متهافتة. ويقينا ليس بحد السيف تحولت غالبية أقباط مصر للإسلام, لأن توسع الدولة الاسلامية بقوة الفتح أمر والإيمان بالدين الجديد أمر آخر. ويعترف جمال حمدان ببعض حالات فردية عابرة فرضت التمييز في الملبس والمظهر وما أشبه علي أقباط مصر, ويسلم بوقوع بعض' حوادث مؤسفة' انتقامية نتيجه انفلات الأعصاب أثناء الحملات والغارات الصليبية علي بعض المدن المصرية, لكن هذا كله لم يكن إلا الشذوذ النادر, وفي فترة كانت لا تزال مرحلة انتقال وتحول إلي الإسلام, وفيما عدا ذلك فإن صلابة الوحدة الوطنية حتي إبان الصليبيات هي مضرب المثل بشهادة المستشرقين أنفسهم. ولأن شهادة جمال حمدان قد لا يعترف بها من أعماه التعصب, أعود لشهادة عزيز سوريال: عضو المجلس الملي, بكلية اللاهوت في نيويورك, وصاحب الفضل في المبادرة إلي تأسيس' المعهد العالي للدراسات القبطية' وإصدار الموسوعة القبطية. وقد كتبت في مقالي السابق نقلا عن مؤلف' المسيحية الشرقية' أن الفتح العربي لمصر قد حرر الأقباط( أي المصريين) من العنت والاضطهاد الديني من جانب السلطات البيزنطية وبطاركتها, وأن حكام ممثلي الخلافتين الأموية والعباسية قد أبدوا تسامحا كريما مع جميع الطوائف المسيحية علي مختلف انتماءاتها في المنطقة, فشهدت الثقافة القبطية انتعاشا هائلا, واندمج الأقباط كعنصر إيجابي فعال في جسم الأمة العربية الإسلامية, دون أن يفقدوا هويتهم الدينية أو تراثهم العريق. وما وقع للبطريرك القبطي ميخائيل الثالث من متاعب في عهد أحمد بن طولون فقد كان نتيجة لمؤامرة حاك خيوطها أحد الأساقفة انتقاما من قرار حرمان ضده أصدره البطريرك!. ويسجل أستاذ تاريخ العصور الوسطي أن المشكلات التي واجهها الأقباط لم تكن نتيجة' سياسة عامة', وإنما كانت ترجع إلي' تصرف فردي' من جانب بعض الولاة, وإن الحالات الاستثنائية من الضيق, من قبيل ما حدث علي عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله مثلا, كان مرجعه تقلب طبعه ومزاجه مع المصريين مسلمين ومسيحيين دون استثناء. ويشهد أستاذنا بكلية اللاهوت أن الخلفاء الفاطميين الأولين كانوا متسامحين تماما مع المسيحيين واليهود, وأصبح القبطي اسمه قزمان بن مينا نائبا للخليفة في بلاد الشام! واستمر الخليفة العزيز(976-996 م) علي سياسة أبيه المعز من التسامح الزائد, حتي أنه تزوج من نصرانية ملكانية المذهب, وعين أقباطا كثيرين في مناصب هامة بالدولة, وأعفي الأقباط من كثير من الضرائب, وسمح للبطريرك بإعمار الكنائس القديمة وبناء كنائس أخري جديدة. وقد تعكر صفو هذه الأحوال في عهد الحاكم بأمر الله الذي كان متقلب الطباع وراح يعذب ويقتل النصاري واليهود والمسلمين دون رحمة أو هوادة. كما أنه أصدر قرارا بأن يرتدي المسيحيون زيا خاصا وأن يحملوا علي صدورهم صليبا وزنه خمسة أرطال, أما اليهود فكان عليهم أن يعلقوا جرسا حول أعناقهم, ثم أعلن الحاكم أنه' تجسيد إلهي' علي الأرض, وتوقع من أتباعه أن يعبدوه! وأما الخلفاء الفاطميون الذين أعقبوا الحاكم فقد أعادوا السلام والطمأنينة إلي نفوس المصريين, وعاد الجميع يتمتعون بحرياتهم الدينية كالتي من قبل, وأعيد إعمار الكنائس التي هدمت, وانتقل مقر البطريركية القبطية من الإسكندرية إلي مدينة دمرو في محافظة الغربية, التي وصفها الكاتب ساويرس بن المقفع بأنها' القسطنطينية الثانية', التي تعمر بسبع عشرة من الكنائس المهيبة. ثم استقر المقر البطريركي في مدينة القاهرة, علي مقربة من مقر حكم الخلفاء وتحت حمايتهم, وعادت الاحتفالات الدينية القبطية إلي سابق عهدها. ورغم سياسة الفاطميين المتسمة بالتسامح تجاه الأقباط, إلا أن هذا لم يحل دون فرض بعض الضرائب الإضافية عليهم لمواجهة الخطر الصليبي في بلاد الشام. كذلك كانت لدي الفاطميين مخاوف وشكوك في موقف الأقباط تجاه الصليبيين الذين احتلوا الأراضي المقدسة وباتوا يهددون مصر نفسها. وكان من الضروري مراقبة سلوك الأقباط عن كثب من جانب السلطات الفاطمية طيلة الفترة المأساوية للعدوان الصليبي علي المنطقة. ثم نجح صلاح الدين الأيوبي في وضع نهاية للخلافة الفاطمية الشيعية في مصر, وفتح صفحة السلاطين الأيوبيين, التي تزامنت مع العدوان الصليبي علي كل بلدان الشرق الأدني. وبالنسبة للأقباط كانت الحملات الصليبية تمثل أشد الكوارث هولا علي المجتمعات المسيحية الشرقية. والواقع أن الحملات الصليبية قد جرت البلاء الكثير علي المسيحيين الشرقيين وبينهم أقباط مصر, حيث نظر الصليبيون إليهم علي أنهم أشد سوءا من الهراطقة, وقاموا بمنعهم من الحج إلي القدس وكنيسة الضريح المقدس, وعندما هجم الصليبيون علي مدينة دمياط قاسي سكانها المسيحيون الويلات علي أيدي الصليبيين. وقد انتهي العصر الفاطمي بكارثة إحراق مدينة الفسطاط حتي لا تقع في أيدي ملك بيت المقدس الصليبي فتكون قاعدة ينطلق منها للسيطرة علي مصر كلها. وقررت السلطات الأيوبية هدم مبني كاتدرائية القديس مرقص المطلة علي المرسيين البحريين للإسكندرية حتي لا يتخذها الصليبيون قاعدة للاستيلاء علي المدينة. كما أرسل صلاح الدين حملة علي عناصر الشغب من الأقباط في صعيد مصر والنوبة, فتهدم دير القديس سمعان في أسوان, ودير آخر في بلدة إبريم في النوبة. لقد كانت فترة العدوان الصليبي محنة حقيقية للأقباط. وقد اتخذوا موقف الحياد في بادئ الأمر, ثم شاركوا في الدفاع عن تراب الوطن ضد المعتدي الصليبي في صف واحد مع إخوانهم المسلمين في مصر. وبعد أن زالت غمة الصليبيين عن البلاد انتهت موجة التشدد نحو الأقباط في مصر, ومنحهم السلطان صلاح الدين الأيوبي ديرا مجاورا لكنيسة الضريح المقدس في بيت المقدس لا يزال حتي اليوم تحت أيديهم, كذلك أعاد إلي البعض مناصبهم الحكومية, وإلي البعض الآخر ثرواتهم المصادرة. [email protected]