حكمة الله في لغة كتابه العزيز, أن تتساوي كلمتان في حروف كل منهما, وتتطابقان, ومع ذلك فإن اختلاف ترتيب حرفين (الكاف والفاء), يفرق بينهما فرقا كبيرا... كيف؟ هذا ما ندعو الله أن يوفقنا إلي بيانه.. فإن شئت أن تلخص قيمة الإنسان بين سائر خلق الله, فسوف تجد أنها تكمن في قدرته علي التفكير, ومن هنا تجيء المواقف عديدة في كتاب الله الكريم لتؤكد هذا وتدعمه: فإبراهيم عليه السلام, وهو يجول بناظريه في السماء بحثا عمن خلق هذا الكون, حيث كان يبدو له أن هذا الكوكب, مثلا, هو الإله, لكنه إذ فكر, وجد أنه يستحيل أن يكون كذلك, ويتكرر ذلك مع عدة كواكب, حين أمعن التفكير, انتهي إلي الحقيقة التي لا حقيقة غيرها وهي أن الخالق هو الله الذي لا إله إلا هو.. وعندما عرض سبحانه وتعالي في كتابه العزيز عدة مواقف للكافرين الذين كانوا يحتجون بأنهم وجدوا هكذا آباءهم يعبدون الأصنام, كان يسجل استنكاره هذه الطريقة في البرهنة والتفكير... أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (المائدة:104). ووبخ المولي سبحانه وتعالي في سورة الأعراف من هؤلاء الذين, وهبهم أدوات التفكير والمعرفة, لكنهم لا يحسنون الإفادة منها فشبههم بالأنعام, بل حكم عليهم بأنهم أسوأ, لأن الأنعام حرمت نعمة التفكير, فمعها عذرها, بينما هؤلاء المعطلون لعقولهم لا عذر لهم, ومن هنا فقد حشر هؤلاء المعطلون لتفكيرهم في جهنم, قال سبحانه: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (الأعراف:179). ومن أشد صور العذاب التي يذيقها المولي لبعض الناس الذين يعاندون الحقائق أن تنغلق الطرق بينهم وبين الفهم والتفكير الصحيح, قال تعالي في سورة الأنعام: وجعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتي إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (الأنعام:25). وربما احتاج الأمر منا إلي كتاب كامل حتي نمضي في بيان هذا الإلحاح والتأكيد من المولي عز وجل علي ممارسة التفكير, بأشكاله المنطقية الصحيحة, ومن هنا أدرك عملاق الفكر العربي في العصر الحديث عباس محمود العقاد قيمة التفكير, فكان كتابه الشهير( التفكير فريضة إسلامية), مؤكدا بهذا وجوب رشد التفكير. ولو شئت أن تنتقي مفردة واحدة تفرق بين الشخص المتخلف والشخص المتقدم, فسوف تقع في خطأ فاحش, لو بحثت بين ثنايا المسكن والملبس والمأكل, وتقنيات الاتصال, وأجهزة الاستهلاك المختلفة, أو معرفة لغة أجنبية أو أكثر, إلي غير هذه وتلك من مظاهر, لها أهميتها بطبيعة الحال, لكنها تتصاغر جميعا إزاء مظهر حاسم ألا وهو طريقة التفكير, وهو الأمر الذي فصله بامتياز ليفي بريل في كتابه (العقلية البدائية). وإذا كنا قد نفضنا عن كاهلنا نظاما مستبدا قاهرا, فإن ما تم الكشف عنه من صور نهب وسرقة, ربما يهون, إزاء ما فعله في عقول الكم الأكبر من المواطنين, عندما طارد أصحاب الفكر المتعمق الجاد الذين لا ينافقون, وأبرز وأظهر أشباه المثقفين, ليبوئهم مقاعد متقدمة في العمل الفكري والثقافي والإعلامي, فضلا عن سد جميع المنافذ التي تتيح جدلا وطنيا واسعا, متحررا من قيود الخوف والرهبة, حتي ساد ما سميته منذ عدة سنوات في عدة مقالات, وأصبح عنوانا لأحد كتبي (تجريف العقول). وانتشر هذا التجريف الفكري إلي شتي المناشط, فسعي إلي عزل الإسلام عن الالتحام بمشكلات الحياة, وقصره علي العبادات, مع أن فهمه الفهم الدقيق, لا يستقيم إلا بقرن العبادات بالمعاملات, التي تتطلب الاشتباك مع هموم الحياة. وشاعت الأفلام السينمائية التافهة, حتي ينشأ شبابنا علي تفاهة التفكير, وسذاجة الاهتمامات, فضلا عن الأغاني الهابطة, وبدلا من أن تتعود أذن المواطن علي ولد الهدي وسلو قلبي وهمسة حائرة والجندول إذا بها تتعود علي ما يعف القلم عن الإشارة إليه!! وسوف يقفز إلي الذهن تساؤل وجيه: كيف تقول هذا, وها هو العقل المصري قد استطاع أن يمارس تفكيرا صحيحا, فكانت الثورة, وحطم الأسطورة, وكسر الأغلال, وها هي آيات مفرحة بحوارات تجري ليل نهار, وبرامج في الإعلام تقول ولا تخشي, ومقالات تنشر في الصحف, تناقش وتنقد, بغير أسقف لحرية التفكير. وأقول.. هذا واضح لا ينكره أحد, لكن, سنوات القهر, لابد أن تترك آثارها, التي من السذاجة تصور أنها يمكن أن تختفي في عدة أشهر.. انظر إلي أم كانت تحذر ابنها وهو طفل من أن يقف تجاه نافذة, حتي لا يسقط, ولا يخرج إلي الشارع خوفا من أن تدهسه سيارة, ولا يلعب مع أصحابه, خوفا من أن يعتدي عليه أحد, بل حبذا لو لم يخرج إلي الشارع, ففيه صور شتي من التلوث, وينبغي ألا يتكلم, فاللسان يمكن أن يخطئ بكلمة من هنا أو من هناك... وهكذا, ثم تموت الأم, ويصبح الطفل متحررا مما فرضته عليه من قيود, فيستطيع أن يخرج, ويلعب, ويقابل الأصدقاء, ويتكلم, وهكذا يمارس صور الحرية المفقودة, فماذا عسي أن يحدث؟ سوف يتخبط بالتأكيد, وسوف يخطيء في حق هذا وذاك, وغالبا ما سوف يصاب ببعض الأضرار, فالتكوين الإنساني لا يكتمل إلا من خلال التجربة, ومن خلال الممارسة, وبقدر حصيلة التجربة, وبقدر طول الممارسة, يكون النضج, وتكون الحكمة. هكذا نحن الآن, فما من قضية تثار, إلا وتجد مناقشات محتدمة, وبرامج الحوار التليفزيونية الليلية, تدهشك بمن يسوق البراهين مؤكدا أن الشاي مثلا مضر بالصحة, وآخر يسوق براهين أخري ساعيا إلي بيان أهميته لجسم الإنسان.. وهكذا إلي درجة أن المرأ انصرف عن هذه البرامج, مللا, بعدان كان يتوق شوقا إلي متابعتها. مربط الفرس في كثير من المناقشات, وصور الجدل المحتدمة الآن, أنها تبث بعض القلق, لأن الطابع الغالب علي كثير منها هو التكفير, وليس التفكير.. نقول التكفير دون أن نقصد معناه الشهير ذا الطابع الديني الذي ينبئ بأن صاحبه يخرج عن أساسيات الدين, ولكن أقصد كذلك صورا أخري منه, مثل التكفير السياسي, والتكفير الثقافي والتكفير الاقتصادي, والسمة الغالبة في كل هذه الصور, هو الاعتقاد الجازم لدي المتحدث أو الكاتب بأن ما يراه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وأن ما يقوله خصمه, هو الباطل بعينه, الذي يجب تدميره, أو علي الأقل محاصرته, حتي لا يؤذي الناس, وحرمانه من أية حقوق قد يزعمها لنفسه, درءا لشره, وحماية للوطن وللناس منها! لقد جرت العادة أن يرمي بعض حاملي الراية الدينية, بعض الكتاب والمتحدثين بما يضعهم في خانة الكفرة. وهو أمر يحدث بالفعل أحيانا, وهو ما لا نقره ونستنكره, فليس لأحد أن يحمل صكوك الغفران والبراءة, والإيمان, يوزعها علي الناس, إلا إذا جاء الكفر صريحا علنا من صاحبه, وحكمت بذلك جهة شرعية رسمية جماعية, أو حكم محكمة, بناء علي تحريات وتحقيق ومحاكمة. إن هناك كتابا قد لا أميل إلي ما يكتبون, وقد أشعر بيني وبين نفسي برغبة عارمة في أن أري بعض الكتاب وقد اختفوا من الدنيا, ولكني لا أقاوم هذه المشاعر, ولا أسمح لنفسي بسب هذا وذاك, ولكني, أنتهز الفرصة لبيان رأيي المناقض, ربما بغير إشارة إلي هذا الكاتب أو ذاك حتي لا تتشخصن المسألة.. أركز علي الأفكار المطروحة, والآراء المنشورة, ولا أنتهي أبدا بأن ما قاله هذا أو ذاك يخرجه عن دائرة الإيمان, أو دائرة الوطنية. والمصيبة الكبري حقا أن الذين يصرخون مما يصورونه إرهاب المتدينين لهم, بالتكفير, يفعلون الشيء نفسه, لكن بصورة مختلفة, مثل الحكم علي تنظيم مثلا به مئات الألوف من الأعضاء, بناء علي قول صدر من فرد عضو في التنظيم, لا ينطق باسمه رسميا, مع أن منطق التفكير العلمي ألا يتم التعميم من أمثلة فردية, وكذلك القول بأن هذا الفريق أو ذاك سوف يقود البلاد إلي الخراب والتخلف إذا وصل إلي السلطة, أو إلصاق كل نقص أو عيب أو شر إلي جملة فريق, في كل الأحوال لا في بعضها, وفي كل الأزمنة.. ماذا يمكن أن نصف هذا وذاك إلا بأنه أيضا يحمل صكوك الوطنية والبناء والهدم والتدمير والخيانة ليوزعها علي الناس, وكأن الله عز وجل, أو الوطن قد نصبه قيما علي خلق الله! ولعل عددا غير قليل من الفقراء في مصر, يمكن أن يلاحظوا بكل يسر أن جريدة ما لم تضبط يوما تنشر خبرا طيبا عن فريق بعينه من الناس, وفي الوقت نفسه, لا تترك شاردة أو واردة مما يمكن أن يسيء لهذا الفريق إلا وأبرزته وألحت عليه ونفخت فيه, فهل هذا الفريق الذي يتعرض للهجوم علي هذه الدرجة من الشر تصل إلي مائة بالمائة؟ ألم يحسن واحد منه أبدا شيئا جيدا لله وللوطن, وللناس؟ وإذا كانت هذه صورة من صور التكفير السياسي والظني يناقض الديمقراطية, فهنا أيضا يخطئ الطرف المجني عليه, بمناداة أتباعه بمقاطعة الجريدة, فبيان الحقيقة, هو الذي سيقلص مصداقية الجريدة, لكن المقاطعة, إن تمت بناء علي أمر, وبصورة جماعية, عدت صورة من صور التكفير الوطني. هنا يجيء الخلل في منهج التفكير, الذي هو المنطق للحركة والعمل, فإذا أصيب المنهج بالخلل والعوار, اختل العمل, واهتز الإنتاج, وتراجع المسير. كم أتمني لو أن كل صاحب رأي, اقتصر علي شرح رأيه وبيان أدلته, من غير أن يخون هذا أو ذاك, ومن غير أن يحاسب علي النيات, وأن يتيقن من أن من العسير تصور فريق من الناس ملائكة أطهر مائة بالمائة, أو أنهم شياطين مائة بالمائة. المزيد من مقالات سعيد اسماعيل على