يبقي البعد السادس من الوضع الكارثي للثقافة المصرية بمعناها الخاص هذه المرة, وهو المعني المتصل بالثقافة من حيث هي إبداعات وميراث حضاري, وأعترف بأنني كنت أحد قيادات وزارة الثقافة, ومسئولا نسبيا عما حدث فيها سلبا وايجابا, رغم أني لم أكن صاحب القرار الأخير أو الأعلي. وذلك بحكم البناء الهيراركي الذي لايزال قائما في الدولة المصرية. ولكن بما اننا نتحدث عن تحديث جذري, فما الذي يمنع من البدء بالنقد الذاتي, فأسجل عجزي عن تغيير سياسات ثقافية, لاتزال تعلو وتهتم بمركزية القاهرة أكثر من الامتداد إلي كل المدن المصرية, ولاتزال تتجاهل الريف وقراه التي هيمن عليها فكر ديني متعصب وقمعي. صحيح أن الوضع تغير وأصبح الهدف إرضاء الجماهير لا إرضاء الحاكم, لكن السياسات الثقافية المركزية السائدة أدت إلي تعميق الهوة بين النخبة الثقافية المنتجة للثقافة (أدب, فنون, علوم إنسانية, سينما ومسرح) والجماهير التي أسلمت لتيارات الإسلام السياسي منذ السبعينيات الساداتية التي شهدت تزايد المد الرجعي في الثقافة المصرية بمباركة الزعيم المؤمن الذي حاول أن يبني دولة العلم والإيمان, فسقط العلم وتحول الإيمان السمح إلي تعصب مقيت, ترتب عليه حدوث فتن طائفية للمرة الأولي في تاريخ مصر الحديثة, التي ورثت شعار ثورة 1919 االدين لله والوطن للجميعب وقد تراجع الفكر الليبرالي الذي لازم الحقبة الذهبية للفكر المصري الذي انقطع باختيار الاستبداد في أزمة مارس.1954 ولكن ظل المشروع القومي للعهد الناصري يفتح آفاق الثقافة إلي أن سقط هذا المشروع عام 1967, نتيجة تحالف غير معلن بين استبداد الصوت الواحد والفساد الذي تخفي وراء أوجه منتفعة ومنافقة. ولأن مباديء دولة المشروع القومي لم تتجذر في وعي الجماهير, كي تجد ملايين تحميها, فظلت نخبوية فوقية, ولولا ذلك لما كان سهلا علي السادات أن ينقلب عليها. وأن يتوجه بمسار الأمة وثقافتها إلي النقيض. وكانت النتيجة هجرة للعقول الرافضة لما سماه لطفي الخولي, رحمة الله عليه, بالساداتية التي نجحت في تكوين ايديولوجيتها الخاصة التي أقامت تحالفا بين الدين والسلطة, تطبيقا للقاعدة القديمة, الدين بالملك يبقي, والملك بالدين يقوي, وأصبح االرئيس المستبدب هو االرئيس المؤمنب الذي استبدل شعارات بشعارات, فانتهي أمره بأن قتله حلفاؤه الذين استعان بهم لبناء دولة العلم والإيمان, فتحول الإيمان إلي تعصب, وظل العلم شعارا فارغ المحتوي, وشهدت مصر أكبر نزوح للمثقفين اليساريين والقوميين منذ ثورة 1952 ومن لم يفر بشخصه فر بقلمه إلي مجلات وصحف الخليج أو إلي الصحف التي أسستها أموال النفط في دول أوروبا. ولولا استعادة الفكر التنويري والدفاع عنه, ومحاولة تجديده والإضافة إليه, لفقدت الثقافة المصرية ما تبقي لها من ميراث تنويري وامتداد للتيارات العقلانية التي تقصف عدد بارز من أقلامها بسبب ازدواج القمع الذي جعل المثقف المصري, للمرة الأولي في تاريخه الحديث, محاصرا بين مطرقة الإرهاب الديني وسندان الاستبداد السياسي, وظل الوضع ممتدا في سنوات حكم مبارك المتطاولة التي ختمها بئس الختام بكارثة التوريث. ولن ينسي التاريخ أن زمنه شهد اغتيال فرج فودة بعد اغتيال رفعت المحجوب, كما شهد طعن نجيب محفوظ بسكين صدئة, كادت تودي بحياته, وشهد زمنه غير السعيد الحكم علي نصر أبوزيد بالتفريق بينه وزوجه, ولولا الضغوط القوية من المثقفين لما صدر قانون الحسبة الذي أمسك العصا من المنتصف, ولكنه ترك الباب مفتوحا لمشايخ التطرف لرفع قضايا علي المثقفين, ووصل الهزل إلي أن أحد هؤلاء جعل من هذه القضايا مصدرا للكسب, خصوصا بعد أن نجحت جماعة محاميه (الإسلاميين) في الحصول علي أحكام ضد عشرات الكتاب, منهم أحمد حجازي وابراهيم أبوسعدة وجمال الغيطاني ومحمد شعير وكاتب هذه السطور وغيرهم, الأمر الذي دعاني إلي كتابة مقالين في هذه الجريدة بعنوان اهل نحن دولة مدنية حقا؟!ب وثالث بعنوان انستجير من القضاء بالقضاءب,وحتي عندما قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطلقت سراح المعتلقين السياسيين بمن فيهم تيارات الإسلام السياسي, نسي هؤلاء أن ما حررهم وأخرجهم من السجون هي ثورة الشبان والشابات, فأدانوا محرريهم بالتكفير الذين هم أولي الناس بالاتهام به. والحق أن اية مقارنة بين ما ادعاه أغلب تيارات الإسلام السياسي من عداء للرئيس السابق, لم تخل من مناطق منفعة متبادلة مسكوت عنها, فقد وقفوا إلي جانبه سرا في انتخابات 2005 وحصلوا علي الثمن, أكبر نسبة أتيحت لهم في كراسي مجلس الشعب, ولكن التحالف السري انقطع مع جرائم تزوير انتخابات أحمد عز التي ستبقي وصمة عار وجريمة كبري في حق الشعب المصري, مع مشروع التوريث الذي أدانته كل القوي الوطنية. وعندما انفجر شباب مصر وابتدأ ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة, ظلت جماعات الإسلام السياسي, وعلي رأسها الإخوان تراقب إلي أن وجدت الفرصة فدخلت ميدان التحرير لا لكي تكون واحدة من القوي الوطنية التي جمعتها الثورة, وإنما لكي تكون القوج التي تسطو علي الثورة, وتتصدرها علانية مع مجيء القرضاوي وإلقاء خطبة الجمعة الشهيرة في التحرير. ولم يكن من المصادقة أن يتقربوا إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة بكل السبل, وبدا الأمر للبعض كما لو كانوا يساندونه ضد الثوار من الشباب الزائغ عن العقيدة!. وفهم كثيرون أنهم يكررون ما فعلوه مع ثورة يوليو 1952, لكن أصبح من شبابهم من نادي بالدولة المدنية, فأجير بعض قياداتهم المستنيرة علي إقامة حزب للعدالة والحرية علي غرار نظيره التركي بقيادة أردوغان. واللافت للانتباه أن جماعة الإخوان المسلمين هي القوة السياسية الوحيدة التي صاغت برنامجا ثقافيا, تعمل علي تنفيذه في صبر ودأب علي امتداد سنوات حكم مبارك الثلاثين التي أكملت ما منحه لهم السادات منذ السبعينيات, ومع المتغيرات انقسم الإخوان في السجون الناصرية والساداتية وتولدت تنظيمات وتجمعات كثيرة, عرفت طريقها إلي الإرهاب, أما البعض الأكثر مراوغة فاستعان بأموال النفط, وأنشأ محطات فضائية, في ظل التحالف المضمر مع مبارك, فظهرت قنوات دينية, لا تكف عن نشر ثقافة دينية تقليدية جامدة, سرعان ما تحولت إلي إرهاب إعلامي للمخالفين, وقد انضم إلي اللاعبين في هذا المجال سلفيون خرجوا من مكمنهم الذي اختبأوا فيه طويلا, وانضموا إلي فريق الإسلام السياسي, مدعومين بأموال نفطية, ولا أزال أري في ذلك علامة علي كارثة ثقافية فكرية, غير منفصلة عن السياسة بالقطع, خصوصا ما يتصل بالبعد السياسي من الثقافة المصرية, وهو وضع يدفع إلي السؤال الممرور: هل هانت الثقافة المصرية علي نفسها وأهلها وحكوماتها, حتي بعد الثورة إلي هذا الحد؟! وهل تحولت الثقافة المصرية في كل أوضاعها إلي تابعة بعد أن كانت رائدة ومتقدمة دائما, رغم كل شيء, إلي أن حلت السبعينيات الساداتية التي واصلها نظام مبارك فوصل بها إلي أقصي درجة من الانحدار الثقافي؟ أسأل هذا, وأنا علي يقين من أن ثروة مصر الحقيقية لاتزال في ميراثها الثقافي, وفي فكر مثقفيها الوطنيين الشرفاء الذي لا يزالوان قابضين علي الجمر حتي تظل شعلة الثقافة المصرية متوهجة لا تطفئها نفايات النفط, ولا ظلاميات المعادين للتنوير والدولة المدنية أيا كانت أزياؤهم, وأخيرا: طفيليو الثورة الذين التصقوا بها كالقراض. المزيد من مقالات جابر عصفور