ما أكثر ما تحدثت عن أن الثقافة المصرية تعاني من وضع كارثي, وقد كتبت عن ذلك في هذه الجريدة, وتحدثت عنه في وسائل الإعلام المرئي, ولم أتردد في توضيح أفكاري عن هذا الوضع الكارثي, أمام الرئيس السابق نفسه. وكان شهودي ما لا يقل عن عشرة من المثقفين المصريين الذين لم يكونوا أقل صراحة مني في عرض هموم الوطن في كل مجال وأذكر أن أحد مقالاتي عن كارثة الثقافة المصرية لفت نظر رئيس الوزراء الأسبق أحمد نظيف, ففهم أني أهاجم وزارة الثقافة التي كنت من قياداتها, وظن فاروق حسني أني أهاجم وزارة الثقافة, ولم أكن أعني وزارة الثقافة في ذاتها, رغم أنها تستحق النقد إلي اليوم, فاضطررت إلي توضيح أفكاري في هذه الجريدة بعنوان وزارة مظلومة اسمها الثقافة فلم يكن قصدي من وراء مقولة كارثة الثقافة المصرية وزارة الثقافة, وإنما كان تفكيري منصبا علي العمليات الحتمية اللازمة لإعادة تثقيف الشعب المصري, ودور وزارة الثقافة دور محدد, رغم أهميته القصوي, في صياغة عمليات التثقيف العام والإسهام الفاعل في تطويرها بواسطة توجيه أنشطة المثقفين المصريين لإشاعة أفكار الحق والخير والجمال التي تستلزم جعل التنوير شعارا في التعامل الفكري مع الجماهير العريضة, وإشاعة ثقافة الدولة المدنية الحديثة التي هي دولة وطنية دستورية ديموقراطية, تؤكد لدي مواطنيها الشعور بالأمن والأمان. وما كنت, ولا أزال, أقصد إليه من معني كارثة الثقافة المصرية هو معناها الأوسع الذي يشمل أشكال التعليم بكل أنواعه ومستوياته, والأفكار والقيم التي يشيعها ويشمل المعني العام كل أشكال الوعي والسلوك والأفكار والعادات الموروثة التي لا تزال تفعل فعلها, وتترك تأثيرها في عقول الناس, سلبا في الأكثر وإيجابا في الأقل, فضلا عن أشكال الإبداع الجمالي, أدبا وعمارة وموسيقي إلخ, موروثة أو محدثة, بل حتي أنواع الرؤي الدينية للعالم بكل ما تنطوي عليه من عناصر تشيع ثقافة التخلف, وقد خصصت لتحليلها ونقدها واحدا من كتبي عندما تتحول الرؤية الدينية إلي رؤية سلفية, تقليدية, مغلقة ومتطرفة, تشيع التعصب الديني, وتؤسس للاحتقان الديني أو العداء الطائفي, مدمرة مبدأ ثورة1919 الجليل والحقيقي الأصيل إلي اليوم الدين لله والوطن للجميع ويعني ذلك كله أن الثقافة تشمل كل أشكال الوعي المجتمعي القديمة والجديدة, الأصيلة والوافدة, ما ظلت فاعلة في إنتاج وإعادة انتاج الأفكار وأنواع السلوك والاستجابات التي تحدد مسار حركة المجتمع صوب ماضيه وحاضره ومستقبله وليس هذا بغريب عن القول بأن الثقافة هي رؤية العالم التي تراكم خبراته ومعارفه فتدفعه إلي الحركة إما إلي الأمام حيث التقدم الذي لا حدود له, أو التخلف الذي لا قاع له والثقافة بمعناها العام, علي هذا النحو, هي أهم دوافع المجتمع وأشملها وأعقدها في الحركة والتأثير الذي يتحول إلي أفعال, تتجلي مظاهرها في كل مجال, ابتداء من الصناعة والعلم المعاصر متسارع الإيقاع الذي لا يمكن أن نمضي في ركابه إلا إذا كانت ثقافتنا من جنس ما هو عليه, وما يحتاج إليه من تطور متواصل وحرية لا نهاية لها في الفكر والتجريب المقترنين بمساءلة كل شيء, وعدم الركون إلي المسلمات والموروثات ورؤي العالم التي إما أن تشدنا إلي الوراء, أو تجعلنا في وضع محلك سر علي الأقل وهو وضع لم يعد يتناسب مع عالم الكومبيوتر و النت اللذين أسهما في إنجاح ثورة25 يناير وتفجيرها. وتمتد مظاهر الثقافة المتقدمة من وعي التفكير العلمي إلي الوعي الاستثماري لثروة المجتمع وحسن استغلالها وإدارتها, فضلا عن التجارة التي لا تزدهر إلا بالتفكير في نظريات اقتصادية غير تقليدية, فضلا عن المرونة اللازمة للإفادة من كل التجارب الناجحة علي امتداد العالم كله, ومنه القسم الذي أطلق عليه المفكر محبوباني اسم نصف العالم الآسيوي الجديد الذي لم يعد نموذجا بالغ النجاح في التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي والتجريبي, بل أصبح نموذجا لما يمكن أن تفعله إعادة النظر في عمليات التثقيف المجتمعية, أي تجديد وتحديث الثقافة بمعانيها الخاصة والعامة لكي تتقدم وتزدهر, كما حدث فعلا في هذه البلاد ماليزيا والصين وكوريا وغيرها إلي الاتجاه الذي حسمت تركيا الإسلامية أمرها في اللحاق بركبه متسارع الإيقاع, فحققت معدلات عالية من التنمية في كل مجال واتجاه, لم يمنعها من ذلك مانع ديني, بل دفعها الفهم الرحب للدين الإسلامي إلي التسريع من وقع خطاها, خصوصا بعد أن فهم حزب العدل والتنمية والحق أن كل الحكومات المتقدمة في العالم تعي هذه الأمور التي أصبحت في حكم البديهيات, ولذلك تجعل للثقافة بمعناها العام الأولوية القصوي في أي تخطيط للمستقبل الذي لا يمكن تحقيقه وما يترتب عليه إلا بتحويل الوعي الثقافي العام للأمة, أو إقامة علاقة جدلية علي الأقل بين السياسات الثقافية بمعناها العام وعمليات تحديث المجتمع, أو المضي في تطويره إلي ما لا نهاية له من آفاق التقدم الذي تتجدد مظاهره في كل مجال ومستوي, ابتداء من التطوير المستمر لاختراعات العلم, مرورا بتحديث أبنية القيم الجمالية والأخلاقية, مرورا بتحرير عمليات الإبداع العام والخاص وتشجيعها ماديا ومعنويا, وانتهاء بمظاهر السلوك في الشوارع والمنازل, بما في ذلك عادات التعامل مع النفايات التي يعاد تدويرها, وعادات النظافة التي نفتقدها في كل مجال من حياتنا بمعنييها المادي والمعنوي. أما الحكومات المتخلفة, علي اختلاف درجات تخلفها, فهي الأقل اهتماما بالثقافة, سواء بمعنييها العام والخاص, فهي دول ثابتة علي ما هي عليه من موروثات وعادات وأفكار وقيم أنزلتها منزلة المقدسات التي لا سبيل إلي مساءلتها أو إعادة النظر فيها, وهي دول يقترن التسلط السياسي فيها بالتعصب الديني والبطرياركية الاجتماعية بالهيراركية السياسية, واضطهاد هذه الفئة أو تلك من المجتمع بالتمييز ضد المرأة التي هي نصف المجتمع, والانحياز إلي عالم الكبار من الكهول ضد الشباب الذي هو مصدر الحركة في المجتمع, فتتوقف عملية تدوير النخب السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها, فنري حاكما يلتصق بكرسي الحكم حتي بعد الثمانين, ورؤساء أحزاب جاوزوا السبعين وكل هذا من مظاهر التخلف للوضع الكارثي للثقافة. وعندما أتحدث عن الوضع الكارثي للثقافة المصرية بمعناها العام, فإني أشير إلي سبعة أوجه, تترتب بترتيب الأوضاع التي آلت إليها الثقافة المصرية بمعناها العام في هذه المرحلة العسيرة من تاريخها الذي هو تاريخنا وعلامة تخلفنا في آن, أول هذه الأوضاع يتمثل في وعي ديني سلفي تقليدي جامد في الأغلب, يرفض التجديد وإعادة فتح أبواب الاجتهاد الجسور, حتي علي طريقة محمد عبده أو علي عبدالرازق أو غيرهما في السلسلة التي تشمل نهاياتها أحمد الطيب ومحمود زقزوق وأحمد كمال أبو المجد وغيرهم ممن يمثلون الانحياز إلي العقل دون تنكر للنقل, والاجتهاد بدل التقليد, والقياس علي الحاضر المختلف لدول التقدم, تطلعا إلي المستقبل الواعد لأوطاننا التي لا تزال معادية لدعوات التقدم الذي يتطلب التغيير الجذري لا الترقيع في كل مجال. ويتصل ثاني هذه الأوضاع بالبعد السياسي الذي لا يزال مشبعا بطبائع الاستبداد التي تمنع الحوار الحقيقي, وتكتفي بالشعارات لا الأفعال, وتميل إلي الإقصاء, وواحدية الصوت لا تعدديته وتنوعه الذي يعني عدم تقبل الاختلافات, وغياب التسامح, ناهيك عن بث الفرقة وزرع الفتنة بين الحاكمين والمحكومين, وافتقاد روح التكامل والتعاون, وعدم العمل الصادق المخلص من أجل الغد, وذلك نتيجة ضغط الأوضاع الآنية الصعبة التي تصرف العقل عن التفكير فيما بعدها,وللأسف, فإن خصائص الفكر السياسي الذي ترتب علي هذا الوضع انتقلت إلي غيره من أوجه أوضاع الثقافة المصرية, ومنها الوجه الاجتماعي الذي تباعدت فيه كل البعد المسافة بين النخبة والجماهير, فأصبح كل منهما لا يتحدث لغة الآخر, وغاب التسامح والتكافل والتساند الاجتماعي بسبب صعود ثقافة العنف, وبدأت نذر التفاوت الطبقي الظالم تتجسد في أشكال عصابات النهب التي نسمع أخبارها وأصبح من المعتاد الاعتماد علي السلاح أو الذراع بدل الحوار والتفاهم وشاعت ثقافة عنف البلطجة والسرقات بالإكراه, وانقلب الشعور بالأمن إلي خوف وعزلة, يلجأ إلي قوقعتها الباحث عن الأمن والأمان سدي, واقترن ذلك كله بغياب الحراك الاجتماعي الصحي, خصوصا بعد أن حل محله حراك الانتهازية وانتزاع كل شيء بالقوة, وشيوع التعصب الديني الذي أصبح كالوباء. المزيد من مقالات جابر عصفور