آداب ينبغي على الحاج التحلي بها في المناسك .. تعرف عليها    محافظ الغربية يتابع استمرار الأعمال بمستشفيي طنطا العام والأورام    الفريق أول محمد زكى يلتقى قائد القيادة المركزية الأمريكية    أماني ضرغام: تكريمي اليوم اهديه لكل إمراة مصرية| فيديو    سفير مصر ببوليڤيا يحضر قداس عيد القيامة بكاتدرائية السيدة العذراء بسانتا كروس|صور    بدء تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء بالمراكز التكنولوجية بالبحيرة    معيط: العجز الكلى للموازنة يتراجع سنوياً.. ونستهدف خفضه ل 80%    زراعة عين شمس تستضيف الملتقى التعريفي لتحالف مشاريع البيوتكنولوجي    تحقق العدالة والكفاءة.. ننشر مبادئ الوثيقة المُقترحة للسياسات الضريبية «2024 2030»    الأمم المتحدة: مخزون الوقود يكفى يومًا واحدًا.. وتحذيرات من «كارثة إنسانية»    فرنسا تعرب عن «قلقها» إزاء الهجوم الإسرائيلي على رفح    الأهلي يقسو على الاتحاد السكندري برباعية في الدوري    «عبدالمنعم» يتمسك بالإحتراف.. وإدارة الأهلي تنوي رفع قيمة عقده    إخماد حريق داخل سور الإذاعة والتلفزيون بالإسماعيلية    تكريم لبلبة في ختام مهرجان بردية لسينما الومضة    تعرف على موعد حفل نانسي عجرم ب باريس    مأساة الشعب الفلسطينى حاضرة فى مهرجان «كان» السينمائى    منفذ عملية الاستطلاع لمواسير النابالم، رحيل اللواء خضر محمد خضر أحد أبطال لواء العظماء    خالد الجندي: الحكمة تقتضى علم المرء حدود قدراته وأبعاد أى قرار فى حياته    كيف خلق الله الكون؟ رد قوي من محمود الهواري على المنكرين    نائب رئيس جامعة الأزهر السابق: تعليم وتعلم اللغات أمر شرعي    مراقبة الأغذية بالدقهلية تكثف حملاتها بالمرور على 174 منشأة خلال أسبوع    في اليوم العالمي للربو.. مخاطر المرض وسبل الوقاية والعلاج    طريقة عمل السينابون، حلويات سويسرية بنكهة القرفة المميزة    جامعة القاهرة تعلن انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض الطويلة    البورصات الخليجية تغلق على تراجع شبه جماعي مع تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    وفد النادي الدولي للإعلام الرياضي يزور معهد الصحافة والعلوم الإخبارية في تونس    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل الرئيس التنفيذي لجمعية "لأجلهم"    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    البرلمان العربي: الهجوم الإسرائيلي على رفح الفلسطينية يقوض جهود التوصل لهدنة    وضع حجر أساس شاطئ النادي البحري لهيئة النيابة الإدارية ببيانكي غرب الإسكندرية    محافظ جنوب سيناء: مصر تطور مناطق سياحية في نويبع وسانت كاترين ودهب    «الداخلية» تستجيب ل«المصري اليوم»: ضبط المتهمين في مشاجرة أسوان    وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلًا غنائيًا بأمريكا في هذا الموعد (تفاصيل)    بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع الدولية «GDR»    وزير الدفاع البريطاني يطلع البرلمان على الهجوم السيبراني على قاعدة بيانات أفراد القوات المسلحة    9 أيام إجازة متواصلة.. موعد عيد الأضحى 2024    الرئاسة الفلسطينية تحمل واشنطن تبعات الاجتياح الإسرائيلي لرفح    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة ال32 من اللجنة العليا المشتركة المصرية الأردنية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    انطلاق فعاليات المؤتمر السادس للبحوث الطلابية والإبداع بجامعة قناة السويس    أسامة جلال يخضع لعملية جراحية ويغيب عن بيراميدز 3 أسابيع    بعد الإنجاز الأخير.. سام مرسي يتحدث عن مستقبله مع منتخب مصر    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    حفل met gala 2024..نجمة في موقف محرج بسبب فستان الساعة الرملية (فيديو)    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    ضبط نصف طن أسماك مملحة ولحوم ودواجن فاسدة بالمنيا    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه.. وسبب لجوئه لطبيب نفسي    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    هجوم ناري من الزمالك ضد التحكيم بسبب مباراة سموحة    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دلالات جوائز الشيخ زايد الأخيرة.. قراءة بعين مصرية
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 04 - 2009

ذهبت الأسبوع قبل الماضى إلى أبوظبى ضيفا على مؤسسة جائزة الشيخ زايد للكتاب العربى التى أصبحت من أرفع الجوائز العربية قدرا وأهمية على امتداد ثلاث سنوات من عمرها، وذلك لحضور حفل توزيع جوائز الكتب الفائزة الذى يقام موازيا لمعرض كتاب أبوظبى الدولى الذى تقوم بتنظيمه المؤسسة الألمانية التى تقيم معرض فرانكفورت الدولى وقد سبق الاحتفال إعلان جائزة البوكر العربية التى لاتزال تثير الكثير من النقاش الذى لا يقلل، قط، من قيمتها وأهميتها وقد شعرت بالكثير من الفرحة الممزوجة بالفخر لأن عدد فروع جائزة الشيخ زايد سبعة فروع، تجمع بين الآداب، والفنون، والمؤلف الشاب، والترجمة.
والتنمية وبناء الدولة، والنشر والتوزيع، وشخصية العام وقد فاز بالجوائز أربعة مصريين هم: جمال الغيطانى بروايته «رن»، وماهر راضى بكتابه «فكر الضوء»، وسعد مصلوح بترجمته كتاب «نظرية الترجمة اتجاهات معاصرة» ومحمد رشاد الناشر على ما حققته «الدار المصرية اللبنانية» فى مجال النشر والتوزيع، وفاز بباقى الجوائز باقر النجار (البحرينى) بكتابه «الديمقراطية العصية» والباحث الشاب (الجزائرى) يوسف وغليسى عن كتابه «إشكالية المصطلح فى الخطاب النقدى العربى الجديد» أما شخصية العام فقد كانت من نصيب المستعرب الإسبانى الأشهر بدرو مارتينيز مونتافيز عن جهوده الحميدة فى خدمة الثقافة العربية الحديثة ودعم الحقوق العربية العادلة بوجه عام وإذا أضفنا إلى نتيجة جوائز الشيخ زايد التى فاز فيها أربعة مصريين.
نتيجة جائزة البوكر التى حصل عليها هذا العام يوسف زيدان (المصرى) بروايته «عزازيل» بعد أن حصل عليها فى دورتها الأولى للعام الماضى بهاء طاهر بروايته «واحة الغروب» التى سبق أن كتبت عنها، وقت صدورها، أدركنا أن المصريين فازوا بخمس جوائز من مجموع ثمانى جوائز وهو أمر يحدث للمرة الأولى فى جوائز البوكر التى تذهب مرتين إلى روائيين مصريين على التوالى، وجوائز الشيخ زايد للكتاب التى ذهب أربع منها إلى المصريين، مقابل شخصيتين عربيتين (جزائرى وبحرينى) وشخصية إسبانية عالمية.
وأتصور أن هذا حدث بالغ الدلالة على الوضع المصرى فى الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة على وجه التخصيص، وعلى مكانة مصر الثقافية بوجه عام ويزيد من أهمية هذه الدلالة أنها تأتى فى ظل سياق تاريخى ثقافى سياسى تميز بأمرين، أولهما غيوم التشكيك التى لاتزال باقية حول مكانة الثقافة المصرية وانتهاء دورها العربى الفاعل، ابتداء من الثورة العربية العارمة على مصر الناصرية بعد هزيمة 1967 التى كانت هزيمة للعرب جميعا، وتدميرا لمكانة مصر التى تولت قيادة مهام التحرير الوطنى والقومى.
وإنهاء لريادة دورها المؤثر فى الثقافة العربية على امتداد مجالاتها التى جعلت من مصر المركز والقلب النابض، وغيرها الأطراف والأعضاء وقد حاولت دول أخرى أن تشغل الفراغ الذى خلفه غياب الدور المصرى وتراجعه بعد أن أفقدته كارثة الهزيمة قوته الدافعة وطاقته الملهمة للآخرين وحاول العراق بقيادة صدام حسين لحزب البعث أن يرث عبدالناصر.
لكنه انتهى إلى كارثة لا تختلف كيفيا عن الكارثة التى أودت بعبد الناصر، وبأسطورة وعود الدولة القومية بالعدل والحرية والوحدة التى لا يمكن أن تتحقق فى ظل دولة تسلطية بكل معانى ولوازم الدولة التسلطية وكان من الطبيعى أن تتولد مشروعات مناقضة لملء الفراغ الذى خلفه تحطم أساطير الدولة القومية.
فتنبثق مشروعات الدولة الدينية، سواء ذات التوجه الوهابى وريث الاتجاه الحنبلى المتأخر، أو ذات التوجه الشيعى الذى يرجع إلى الأصول المتوارثة لمبادئ الشيعة الإمامية الإثنى عشرية التى أقامت ثورة الخمينى على أنقاض الدولة التسلطية الشاهنشاهية فى إيران.
ونتج عن مشروعات الدولة الدينية، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية فى دول الكثافة السكانية التى لم تتخلص من تجليات دولة تسلطية، لم تتغير سوى أقنعتها، ازدهار تيارات الإسلام السياسى التى لم تخل من نزعات أصولية مغلقة الأنساق، اتباعية المنزع، منغلقة الأفق الذى يحيل المجادلة بالتى هى أحسن إلى الإقناع بما هو أقمع وكانت النتيجة المنطقية، فى مصر، اغتيال مثقفين من أمثال فرج فودة فى السياق الذى لم يتوقف عند محاولة قطع رقبة نجيب محفوظ، أمام بيته، بسكين صدئة، فى مساء الرابع عشر من أكتوبر سنة1994.
ولولا لطف الله وقرب مستشفى الشرطة لخسرنا الأديب العربى الأول الذى نال جائزة نوبل وكان تصاعد تيار المد الدينى الأصولى فى مصر موازيا لضعف دور الدولة المصرية فى مقاومته إعلاميا وثقافيا وتعليميا وسياسيا واجتماعيا، خصوصا بعد أن أكد هذا التيار حضوره، نتيجة تحالف السادات مع قيادته، فى محاولة الاستعانة به للقضاء على خصومه السياسيين والفكريين، إلى أن انتهت المحاولة بالفشل الذى دفع السادات ثمنه برصاص الحلفاء الذين سرعان ما انقلبوا عليه.
حتى من قبل أن يعلن شعاره الختامى: لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة، وكان ذلك فى وقت اقترن فيه انحدار التعليم، عموما، بتراجع الإعلام، وتدنى الوعى الثقافى، وازدياد العنف الاجتماعى الناتج عن أشكال التصلب وغياب الحراك والحوار المجتمعى على السواء ولم يكن هناك مفر من تراجع الدور الثقافى المصرى فى موازاة تراجع الدور السياسى، وتخلى مصر الدولة عن كثير من أدوارها الرائدة فى محيطها العربى.
ولم ينفصل ذلك عن الأمر الثانى فى السياق الثقافى السياسى نفسه، وهو مرتبط بما نتج عن متغيرات جذرية كثيرة، قلبت المعادلة القديمة عن المركز الواحد والأطراف المتعددة، فنشأت مراكز متعددة متوازية، متحاورة حينا متعادية أحيانا، ولم يعد قطر واحد أو عدد قليل من الأقطار العربية ينفرد دون غيره بعمليات الإنتاج الثقافى.
وتوزيعها أو توجيهها فى الاتجاهات التى يراها، وإنما تعددت أطراف الإنتاج الثقافى وتكاثرت وامتدت باتساع الخارطة العربية كلها وبعد أن كان طه حسين يقول: القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، أصبحت العواصم كلها تكتب وتطبع وتقرأ وانعكس ذلك على الأدب على وجه العموم، وعلى الرواية التى أصبحنا نعيش زمنها على وجه الخصوص والنتيجة أننا لم نعد نستطيع أن نستثنى أى قطر عربى من خارطة الإبداع الأدبى.
حتى الرواية التى تأخر ازدهارها فى السعودية وموريتانيا أخذت تتأكد مكانتها على نحو لم يكن موجودا من قبل وإذا أضفنا إلى متغيرات الإبداع الثقافى ما نتج عن متغيرات الثروة العربية، خاصة فى الأقطار النفطية، لاحظنا من الأدوار الجديدة ما يتراوح بين السلب والإيجاب.
خصوصا فى المدى المرتبط بالمؤسسات الثقافية التى تملك من الثروة ما يتيح لها قوة التأثير والشيوع والانتشار، وذلك فى مقابل المؤسسات الثقافية لدول الكثافة السكانية الغارقة فى المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، خصوصا حيث تتحالف الدولة التسلطية مع الأصولية الدينية أو توازيها فى الآليات التى يضيع معها معنى المواطنة والدستور والمجتمع المدنى وقيمة العلم الحديث وقدرة الابتداع على السواء.
وبالطبع، لأن مصر هى الدولة الكبرى فى الكثافة السكانية، وفى الأزمات الموازية لها، فقد كان من الطبيعى أن تفقد الكثير من مكانتها الثقافية ودوريها العلمى والإعلامى، فأصبح التعليم المصرى هو الأدنى، والإعلام المصرى هو الأضعف وأجهزة الثقافة والتثقيف تتخلى، طوعا أو كرها، عن الكثير من أدوارها القديمة ومكانتها التليدة، ففقد الكتاب المصرى مكانته، والتعليم سمعته، والمجلة الثقافية ذيوعها، والجريدة الحكومية وزنها، وبدت جوائز الدولة التقديرية للمتميزين أشبه بذى أسمال بالية فى مواجهة الجوائز النفطية الجديدة (فيصل، العويس، الفكر العربى، الشيخ زايد والقائمة تطول، وتثير الشجون عن ما حدث، ويحدث، فى مصر).
هكذا، ظهر كثير من الأصوات العربية الجديدة التى تتحدث عن انهيار مصر الكامل، وانحدارها الثقافى والعلمى تماما، وفقدانها مكانتها ودورها القديم إلى الأبد وللأسف خايلت مظاهر السلب وصور الإفساد والفساد والتسلط فى مصر، وما أكثرها فى هذا الزمان، باليأس بعض المثقفين المصريين الذين غلب عليهم التشاؤم من واقع ما يرونه ويعيشون فيه، فمالوا إلى الرأى نفسه.
وذهبوا إلى أن مصر فقدت وزنها الثقافى مع وزنها السياسى، وتخلت عن أدوارها القديمة الرائدة إلى الأبد، وأصبحت فى ذيل القائمة العربية بعد أن كانت تقود الركب وتتصدر القائمة ولكن نسى هؤلاء وأولاء أن هناك فارقا كبيرا بين مصر والدولة (الحكومة والنظام السياسى) وأن الذى تقهقر وتراجع وانهزم وعجز هو الدولة أو الحكومة أو النظام السياسى، وليست مصر التاريخ والجغرافيا، والدولة كالحكومة والنظام السياسى إلى زوال.
ما ظل المؤمنون بمستقبل الوطن يقاومون كل تسلط، مرددين ما كان يقوله «أولاد حارتنا» الذين تحملوا البغى فى جلد، ولاذوا بالصبر، واستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا «لابد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين فى حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب» والإبداع هو روح المقاومة فى الثقافة المصرية التى عرف سرها «أولاد حارتنا» وهذا السر هو الميراث الخلاق الذى لاتزال تنطوى عليه الثقافة المصرية، حتى فى وضعها الذى لا يليق بها ولا ترضى روحها الخلاقة عنه.
وتظل ترفضه بكل ما فيها من قدرة على المقاومة، مستعينة بميراثها الذى لايزال ساريا فى العروق والأوردة، لا يكف عن مقاومة الهامشية التى تفرضها حكومة لا تعرف قدر هذه الثقافة ولا قيمة إنجازاتها، غير مدركة أن هذا الميراث الخلاق المتواصل، برغم كل ما يعانيه ويتحمله، هو الذى صنع التراكم الذى أنتج، ولا يزال ينتج، الثروة الثقافية العظمى لمصر.
تلك الثقافة الممتدة، فى العلم، من على مصطفى مشرفة إلى أحمد زويل، ومن على مبارك صاحب «علم الدين» إلى محمد حسين هيكل صاحب «زينب» إلى نجيب محفوظ أول من تنبأ بزمن الرواية التى وصفها بأنها «شعر الدنيا الحديثة» ونجيب محفوظ هو الأب الروحى أو معطف جوجول الذى خرج منه (أو عنه) بهاء طاهر وجمال الغيطانى ومحمد البساطى وبقية أبناء جيل الستينيات، وقبلهم جيل الخمسينيات الذى ينتسب إليه يوسف إدريس وإدوار الخراط وسليمان فياض وأبوالمعاطى أبوالنجا وغيرهم كثر ومن رغبة الإضافة إلى جيل الستينيات، والبدء من حيث انتهوا (؟) ظهر إبداع السبعينيات ممثلا فى رضوى عاشور وإبراهيم عبدالمجيد ومحمود الوردانى..
والقائمة طويلة لاتزال ممتدة، متدفقة، كالمجرى العنيد الذى يعبر فوق كل ما يعوقه، ويحفر امتداده بدأب وعناد يجرى فى أجيال المبدعين المتتابعة مجرى الروح المتأبية على كل عوامل الضعف، متجددة، مقاومة، متمردة على كل شروط الضرورة ولذلك فإن رواية يوسف زيدان «عزازيل» التى حصلت على جائزة بوكر.
هذا العام هى من إبداع الزميل الأحدث لبهاء طاهر الذى يقف وراءه ميراث يبدأ من يوسف إدريس ومحفوظ ويرجع القهقرى إلى روائيى القرن التاسع عشر فى مصر، جامعا إلى ذلك القص الناقد للاهوت الأصولى المسيحى الأوروبى، من قبل أن يكتب امبرتو إيكو «اسم الوردة» ومن بعد أن كتب دانى براون «شفرة دافنشى».
وينطبق الأمر نفسه، وبالقياس نفسه، على العلوم الإنسانية بوجه عام، والترجمة بوجه خاص ولذلك فإن سعد مصلوح الأستاذ الجامعى المتميز فى علمه (اللغويات) وينتسب وإياى إلى جيل واحد، لا يخرج عن القاعدة، فالكتاب الذى ترجمه فى نظرية الترجمة، والخبرة التى أظهرتها الترجمة تقف وراءها خبرات تمام حسان، وعبدالحكيم حسان.
وقبلهما ترجمة حسن عثمان الاستثنائية لكوميديا دانتى، ومصطفى صفوان لكتاب فرويد «تفسير الأحلام»، فضلا عن محمد مصطفى بدوى الذى ترجم لريتشارد «مبادئ النقد الأدبى» وغيره من أصول النقد الأدبى الحديث، وهى المدرسة التى تتأصل تقاليدها من أحفاد رفاعة الطهطاوى إلى أبنائه من خريجى مدرسة الألسن أعنى تلك التقاليد التى تربى فى رحابها إحسان عباس ومحمد يوسف نجم اللذان ترجما معا أهم مصادر النقد الأدبى الحداثى التى تعلمنا منها، وثقفنا تقنيات الترجمة فيها عن تقاليد عريقة، لا تزال مستمرة، عفية، متجددة، لا تكف عن العطاء وروائع ترجمات المركز القومى للترجمة، فى مصر، خير شاهد على ذلك.
وليس من الغريب أن يحصل محمد رشاد على جائزة النشر، فهو وإبراهيم المعلم ومحمد إبراهيم وغيرهم أحفاد المدرسة التى تنتسب إلى الجد الأكبر الذى أرسله محمد على ليتعلم تقنيات الطباعة الحديثة فى إيطاليا، ويعود ليؤسس الجيل الأول الذى نهض بمطبعة بولاق وينجب أجيال الناشرين العظام التى تربى على تقاليدها المتصلة الناشرون الذين لايزالون يؤمنون بتحديث عمليات النشر وتطويرها ولم يكن من الغريب أن يسهم محمد رشاد الناشر فى العناية بدوائر المعارف والموسوعات المتخصصة، جنبا إلى جنب المؤلفات التى وصل عدد مؤلفيها ومترجميها فى الأعوام الأخيرة إلى ما يقارب الألف، غير غافل عن ضرورة تطوير شكل الكتاب ومحتواه.
مراعيا الارتقاء بذوق القارئ الصغير والكبير وقل الأمر نفسه على ماهر راضى أستاذ فنون التصوير بالأكاديمية الذى ينتمى إلى عائلة عريقة فى معرفة أسرار التصوير وحرفية التلاعب بالضوء واستخدامه الجمالى بما يجعل له فكرا وفنا لا يستمر ولا يرتقى إلا بمعارف متراكمة، وتغيرا كمىا يؤدى إلى تغير كيفى، وتواصلا لا ينتج تمايز إلا به.
ما الذى يعنيه ذلك كله؟ يعنى أن التميز الإبداعى كالتميز الثقافى ليس نبتا بلا جذور، وإنما هو أشبه بثمار الأشجار التى تضرب بجذورها القوية الممتدة فى التربة، وتظل الثمار عفية ما ظلت الأغصان وثيقة العلاقة بالجذع الذى يتغذى من الجذور الضاربة فى تربة خصبة، وما ظلت الأغصان ممتدة فى كل اتجاه تتعرض لكل ريح نقية.
تحمل لها حبوب اللقاح من كل اتجاه، أو من كل ثقافة على امتداد ثقافة التنوع الإنسانى الخلاق للكوكب الأرضى كله وينطبق هذا التشبيه على المبدعين المصريين الذين حصلوا على جوائز أبوظبى هذا العام، بل على المترجم سعد مصلوح والفنان ماهر راضى، وقبلهما كل الذين حصدوا ولايزالون يحصدون الكم الأكبر من الجوائز العربية، فكلهم تعلم على تراث ممتد، وآمن بمقولة أمين الخولى أول التجديد قتل القديم فهما، وكلهم أشبه بشهرزاد ألف ليلة وليلة، قرأ ودرس، وعرف علوم العرب والعجم، فسعد مصلوح دارس استثنائى للتراث اللغوى والبلاغى.
وحصل على الدكتوراة فى اللغويات من جامعة موسكو، وأكمل ذلك بمعرفة مصادر اللغويات الحديثة، وعلومها الأحدث، ومنها نظرية الترجمة، فى التقاليد الأنجلوسكسونية التى لاتزال متجددة وجمال الغيطانى عشق كتب التاريخ فى العصرين: المملوكى والعثمانى، وانتقل منها إلى عشق كتب التصوف، وجمع بينها والإبداع الروائى العالمى الذى قرأه مترجما.
وظل مريدا ملازما لشيخه نجيب محفوظ، تعلم منه أسرار الحرفة إلى أن أتقنها ومثله يوسف زيدان الذى قرأ التراث وحقق نصوصه وعشق التصوف وتاريخ الديانات، وتعلم أن ازدهار أى دين مرتبط بتسامحه وقدرته على الحوار، ونبذه التطرف، ودعوته إلى إعمال العقل فى تأويل ما استغلق من نصوص.
من أجل مجد الإنسان ورفعته وكرامته وأمنه وحريته، ولذلك كانت «عزازيل» الرواية، ولاتزال، صرخة احتجاج إبداعى جسور ضد التعصب والإرهاب الدينى وبالقدر نفسه، لكن فى مجال مختلف، كانت «الزينى بركات» لجمال الغيطانى صرخة تمرد على حكم دولة المخابرات والعسس والتسلط الذى لابد أن ينتهى إلى دمار الأمة وقد اقترن إبداع الغيطانى، منذ بداياته الأولى، بمواجهة التسلط القديم (ممثلا فى «الزينى بركات») والحديث (ممثلا فى «المؤسسة»).
وظل منطويا على رغبة معرفة كل ما يظل فى حاجة إلى كشف، فى الأفق اللامحدود للكون والإنسان وهو ما ينكشف فى «رن» التى هى ارتحال روحى، ينطلق بالخيال عبر الزمان والمكان، مناوشا كل ما يخايل الباحث عن المعرفة بالوعد الكاشف عن الماهية والكينونة وقد أخذ العنوان من التعبير العامى «له شنة ورنة» ولكن بما ينصرف بدلالة الرَّنة، أو الرَّن، إلى الحضور الفاعل للكينونة فى الوجود الذى لا تنتهى معارفه ما بين حاضر وماض ومستقبل أما «فكر الضوء» عند ماهر راضى فإنه مزج حتى لو كان غير واع بين البصريات القديمة التى أسهم فى تأصيلها الحسن بن الهيثم وعلوم الضوء المحدثة التى وصلت إلى ذرى علمية وجمالية.
لم تصل إليها معرفة الإنسان من قبل، وأخص ما يظهر ذلك فى التصوير السينمائى الذى نال عليه ماهر راضى جوائز سابقة لقدرته على المزج المبتكر بين الوعى النظرى والممارسة العملية، والخبرة التى ورثها فى التصوير السينمائى عن أساتذته الذين تعلم منهم وأخذ عنهم، قبل أن يقوم بالتجارب الخاصة التى مارسها، وحصل بها على جوائز سابقة عن تصوير أفلام مثل «دانتيللا» (1997) و«الشرف» (2001) و«مذكرات مراهقة» (2002) وغيرها.
ولا يعنى هذا التأكيد للتفوق المصرى فى جوائز أبوظبى أى نزعة شوفينية مصرية، أو أى إنكار لفضل مبدعى العالم العربى الذى أصبحت أقطاره تتنافس فى الإبداع الثقافى وهو وضع يجعلنى أستبدل بالمعادلة القديمة عن المركز الواحد والأطراف العديدة معادلة جديدة عن التنافس بين مراكز عديدة وعواصم تختلف سياسيا، وتتباين اقتصاديا.
ولكنها لحسن الحظ تتنافس فيما بينها ثقافيا، فى أوضاع تميل إلى الحوار والتفاعل والتأثير المتبادل بقوة الثقافة الخلاقة والإبداع المتجدد الذى لا يفارق روح الاستنارة المنطوية على قيم الحرية والحق والجمال ولذلك يعرف المثقفون المصريون قدر أقرانهم فى كل أرض عربية، وتنشأ بين هؤلاء وأولاء حوارات وتفاعلات وعلاقات لا تتوقف أو تنقطع ولا أدل على ذلك من الفرحة بولادة عبقرية إبداعية عربية فى أى مكان خارج مصر وكلى ثقة فى أن قلوب شباب الشعر المصرى المعاصر أقرب إلى محمود درويش أو أدونيس منها إلى أحمد عبد المعطى حجازى أو فاروق شوشة وأعرف بخبرة الأستاذ الجامعى أن تلامذتى تلقفوا روايات عبد الرحمن منيف فى جامعة القاهرة قبل أن أبدأ شخصيا بقراءتها ثم معرفة صاحبها الذى أصبح صديقا حميما عليه رحمة الله ولن أنسى مشهد مسرح الأوبرا الكبير الذى ظل يضج بالتصفيق الملتهب حماسة عندما حصل عبدالرحمن على جائزة ملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائى، ولا الفرحة التى علت الوجوه عندما تلقى الطيب صالح جائزة الملتقى الأخير وقل الأمر نفسه عن الروائى الموريتانى موسى ولد ابنو عندما قرأنا له رواية «مدينة الرياح» التى نشرت سنة 1996، وتلقفها «كتاب فى جريدة» ليجعل منها رواية مقروءة على امتداد العالم العربى كله فيصبح لموسى قراء يتابعون أعماله اللاحقة بشغف، وآخرها «حج الفجار» التى نشرت «الآداب» الجزء الأول منها سنة 2005، وفى انتظار بقية الثلاثية.
إن الانتماء القومى لا يمنع من الاعتزاز الوطنى، وكونى عربيا لا يتناقض وكونى مصريا، وإنما يتكامل معه، مثريا حضور الهوية الثقافية العربية التى تغتنى بالتنوع البشرى الخلاق الذى يضيف البعد الإنسانى إليها وإذا كان الحق أحق أن يتبع، فإن الإيمان بوحدة الإبداع العربى ينبغى أن يرادف الإيمان بتنوعه وفى الوقت نفسه.
فإن الإيمان بأن أطراف هذه الوحدة ليست متساوية كميا وكيفيا، يكمله التسليم بأنها وحدة لابد أن تختلف وتتغاير عناصرها والموضوعية الحقة لا تتحقق بالمساواة الخطابية الجوفاء، وترديد شعارات أمثال أحمد سعيد فى الزمن الناصرى.
وإنما تبدأ بحساب الأوزان والأدوار والإسهامات فى كل حالة على حدة ثم قياسها على غيرها وموقعها الذى يحدد مكانتها فى بنية الأطراف متغيرة العلاقات والأوزان التى لا يبقى فيها ثابت سوى مبدأ التغير الذى لا ينفى التباين النوعى لأطراف الوحدة العلائقية وأوزانها النوعية وقد تتغير هذه كلها بتغير الشروط التاريخية والعوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية أو التعليمية ولكن الإبداع لا يتجاوب آليا وهذه المتغيرات بمجرد حدوثها.
أو بعد حدوثها بوقت قصير، فللإبداع قوانينه الخاصة، شأن بقية أشكال الوعى الجمالى التى ليست انعكاسا آليا فوريا لتغير الواقع المادى أو الثروة النفطية أو الوفرة المالية.
إن الإبداع متجذر فى تاريخه النوعى، ملازم لقوانينه الخاصة التى لا تنفصل عن ميراث إيجابى يرفده، ويدعم حضوره، ويمنحه قدرة المقاومة والتمرد والتميز حتى فى أحلك الظروف، وأبأس شروط التاريخ ولذلك لا يستطيع عاقل أن يوازن موازانة المساواة بين حضور الإبداع الثقافى فى كل الأقطار المتجاورة عربيا، فهناك الاختلاف الكمى والكيفى فى القيمة والمكانة التى تجعلنا نضع الرواية السورية، مثلا، فى موقع أقرب إلى الرواية العراقية، أو الرواية اللبنانية، أو المغربية، أو الجزائرية، برغم ما بينها جميعا من تباين وتفاوت.
ففى كل قطر من هذه الأقطار ميراث متميز للرواية، يعود إلى القرن التاسع عشر فى سوريا ولبنان مثلا، ولذلك لا يمكن أن ننزل أيا منها منزلة الرواية اليمنية أو الإماراتية، أو حتى السعودية التى لفتت الانتباه إلى إنجازها فى السنوات الأخيرة.
ناهيك عن الموريتانية التى لا أعرف روائيا عربيا جاوز حدودها الإقليمية الضيقة إلى الأفق العربى سوى موسى ولد ابنو الذى قد لا يعرفه الكثيرون من القراء العرب إلى الآن.
إن اختلاف الوزن النوعى واقع لا ينفصل عن خاصية التنوع الثقافى التى هى حقيقة أساسية من حقائق الثقافة الإنسانية، ولذلك فإن أفضل ما نمدح به جوائز أبوظبى هذا العام، بل قبله من الأعوام، وما يشبهها من جوائز مثل «العويس» هو موضوعيتها التى تتعالى على أى نزوع إقليمى، أو تحيز قطرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.