بعد أكثر من شهر ونصف من هجمات السيول علي بعض المحافظات ومنها أسوان, مازال سكان منطقة ابو الريش, أكثر المناطق تضررا, يعيشون بين أنقاض منازلهم. بعد هدوء الطبيعة, وحصر الخسائر, والوعود بمنازل جديدة, يبقي سؤال أهل المنطقة: متي تعود حياتهم الي طبيعتها؟ في منطقة أبو الريش, علي بعد نحو أربعة كيلومترات من مدينة اسوان الساحرة, يبدو المشهد صارما ومؤلما!! فبعد أن تعتاد العين مشاهدة جمال الطبيعة التي يشكل النيل بجزره ونباتاته أهم عناصرها الابداعية الربانية, تحاصرها في قرية الشيخ علي, وزرزاره في منطقة ابوالريش لوحات من نوع آخر, البطل فيها هو اطلال البيوت المتهدمة وبقايا أثاث محطم, خيم تؤوي أسرا من فتيات وأطفال ورجال, ما أن تقع أعينهم علي غريب حتي يسارعون الي لقائه, فربما يكون لديه وسيلة لمساعدتهم او تكون لديه اجابات شافية عن مصيرهم المجهول, فبعد أكثر من شهر ونصف من هجمات السيول مازال أهل المنطقة الأكثر تضررا يعانون من آثار دمارها. رجال يعانون من بطالة تفرضها الظروف, لعدم القدرة علي ترك بناتهم وأمهاتهم في الشارع, أطفال لايذهب الكثير منهم للمدارس بعد تلف كتبهم, وملابسهم واختفاء كل متعلقاتهم تحت انقاض السيول, وسيدات يحاولن التكيف مع حياة يومية انقلبت رأسا علي عقب. تبادر الحاجة جامعة بتلقائيتها بوصف حالها وحال بناتها الثلاث اللاتي سقطت بيوتهن بعد أن جرفتها مياه السيول فتقول:( لقد فقدنا كل شيء, بيوتنا, أثاثنا وحتي ما نمتلكه من مشغولات ذهبية. وحتي الآن ننتظر الانتقال إلي جدران تحمينا من برد الليل وحرارة النهار). وتؤكد روايتها بجولة بين أطلال منزلها ومنازل بناتها التي لم يبق منها سوي بعض الركام وبعض قطع الأثاث التي استطاعت هي وبناتها انتشاله من بين الأنقاض. وتعبر عن رأي كثير من أبناء المنطقة المضارين بقولها إننا لسنا بحاجة الي كراتين من الوجبات الغذائية, ولكن ائتونا بأحجار وأسمنت لإعادة بناء منازلنا كما أنني أرملة منذ ثلاثة عشر عاما وتشعر جامعة أنها المسئولة عن أسرتها, الكبيرة المكونة من أربعة فتيات متزوجات وشاب أجلت السيول زواجه. هذه هي احدي الأسر الكبيرة والممتدة التي تسكن منطقة أبو الريش والتي كانت تعيش حياة هادئة, رغم بساطتها, يعمل رجالها باليومية في أعمال البناء, النقاشة او يزرعون بعض الأراضي حسب الأمطار او يرعون الماشية. ينتمي معظمهم لقبائل البشارية والعبابدة, يعيشون اليوم بيومه, يتقاسمون أحيانا مع الأسرة الكبيرة مساحة المنزل الواسعة ولكن دائما ما يتقاسمون الرزق. حين فاجأتهم السيول, أغرقت كل شيء, وسارع الجميع لانقاذ الأرواح, تاركين البيوت والممتلكات البسيطة. مرت أسابيع طويلة, تراجع فيها الماء وهدأت الطبيعة ولكن حياة أهل منطقة ابو الريش لم تعد الي طبيعتها, ورغم أن وزارة التضامن قد قدمت تعويضات أخري انهالت بعدها سيول التبرعات من جميع انحاء الجمورية لمصلحة ضحايا السيول. إلا أن هؤلاء الضحايا مازالوا يعيشون بين الأنقاض. فاطمة عيسي تقول بلسان حال جيرانها: (متبرعو بنك الطعام يواظبون علي تقديم الوجبات لنا, جمعية دار الأورمان قدمت مواشي لبعض الأسر المضارة, حصل كثير من الأسر علي اعانات من ألف الي خمسة آلاف جنيه, لكن لا أحد يحدثنا عن بيوت تلم شمل أسرنا). فاطمة تحاول من آن لآخر ازالة الأحجار المتراكمة داخل المنزل المتهدم, لتجد مكانا لمبيت بناتها بين بقايا الجدران بدلا من البقاء في خيام في الشارع مؤكده: والله ح ابني بيتي بالحديد والطوب الأحمر والأسمنت, وفي مستوي أعلي حتي لاتجرفه السيول مرة أخري). فهي مثل كثير من أمهات ورجال المنطقة يحلمون بأن تعود حياتهم الي طبيعتها. وبنبرة انكسار يقول نبيل عوض الله: لا أدعي أنني كنت أعيش في فيلا, لكن كانت هناك جدران تحمي أولادي, الذين نذهب بهم للأطباء كل يومين بسبب حياة الشارع. أما ولاء, العروس التي لم تمهلها الظروف لتفرح بزواجها, فهي ترتدي السواد لانعلم, علي بيتها الذي تهدمت جدرانه, أم علي الأثاث الذي دمرته الأنقاض رغم اقساطه التي لم تسدد بعد, أم علي وفاة الأب الذي رحل تاركا ابنته وزوجها يواجهان حملا ثقيلا ويحلمان بشقة تلملم شمل الأسرة الصغيرة, خاصة أن الزوج مثل كثير من رجال المنطقة لا يذهب للعمل خوفا من ترك زوجته الشابة في ظل هذه الظروف. والجميع يتساءلون أين الملايين الذين نسمع كل يوم أنها أتت لانقاذ ضحايا السيول؟ اللواء مصطفي السيد, محافظ اسوان يؤكد أنه من جانبه قد قام بالعديد من الاجراءات لصالح ضحايا السيول. ألف جنيه لكل أسرة, بطاطين, شكلنا لجانا لحصر البيوت وتحديد نوع انهارت الأضرار ودرجتها. الأسر التي انهارت بيوتها بالكامل سوف تحصل علي منزل آخر او25 ألف جنيه لإعادة بناء منزلهم في حالة اذا كان المكان آمنا, بعيدا عن مخرات السيول. ويضيف المحافظ: أما المنازل التي حدث لها انهيار جزئي فسوف يحصل اصحابها علي500 جنيه لكل منهم لترميمها, بينما الأسرة التي تصدع منزلها ستحصل علي ألف جنيه. مؤكدا أن هناك400 منزل تحت الانشاء في منطقة العقبة و700 أخري في العلاقي. الأولي تنفذها المقاولون العرب والأخري ينقذها المهندس ممدوح حمزة بأموال التبرعات. لكن الأمر يحتاج لوقت. وعن سبب بقاء الضحايا في الشارع او بين جدران بيوت تكاد تسقط فوق رءوسهم حتي الآن, يبرئ ساحته مؤكدا أنه عرض علي المتضررين الانتقال مؤقتا الي منطقة الصداقة الجديدة ولكنهم رفضوا ترك منازلهم. فماذا يمكن أن أفعل لهم؟ واستطرد( بشرط أن يتم هدم منزل الأسرة كاملا التي تريد الانتقال الي الصداقة). تصريحات تبدو من وجهة نظر سكان ابو الريش تتحدث عن ضحايا آخرين كما يقول حسن حسين, أحد سكان المنطقة الذي يؤكد أ نه لم يعرض عليهم أحد الانتقال الي الصداقة الجديدة او غيرها. نحن ملقون في الشارع, ويأتي من آن لآخر أحد افراد لجان الحصر, ليلقوا نظرة علي البيوت المتهدمة, ليقيموها وفقا لوجهة نظرهم. اللجان أكدت أن عدد المنازل المضارة يصل الي2255, منها1101 انهيار كلي, و1154 ما بين جزئي وتصدعات. وقد بدأ البنك في صرف تعويضات للهدم الجزئي والتصدعات!! تقييمات وقرارات.. يري أهل المنطقة أن بها قدرا كبيرا من الظلم والتعسف نحوهم. منازل تهدد بالسقوط فوق رءوس سكانها او انهارت جدرانها بالفعل, بينما تقيمها اللجنة, قابلة للترميم. (نعمة), أحد سيدات المنطقة تقضي معظم يومها في خيمة امام منزلها المنهار تحت السيول, اعتبرت اللجنة أنه انهيار جزئي. وحين طلب من المهندس ماهر التوضيح قال إنه حين أتي أعضاء اللجنة للمعاينة, كان المنزل منهارا جزئيا!! واستسلاما للاتهام بأنها هي من قامت بهدم باقي منزلها. تسائلت نعمة: طيب, لو حاولت أن أبني بيتي من جديد بمساعدة أهل الخير, هل يكون من حقي بناؤه في نفس المكان, أم سوف تأتي لجنة أخري, بعد فترة لتقول: إن المكان خطير ويجب هدمه؟ اسئلة كثيرة لاتجد إجابات, تجعل أهل المنطقة يعيشون في حيرة واضطراب لتزيد من قسوة ظروفهم واحساسهم بالاهمال. هل سينقلوننا الي بيوت في منطقة العلاقي, انها بعيدة جدا عن اسوان المدنية, عن أماكن عملنا ومدارسنا. تقول( أميرة), طالبة في ثالثة ثانوي تجاري وتؤكد أنها لا تستطيع التركيز في دراستها منذ الأحداث. أما حسن, الذي يعمل بمطار اسوان, فيشرح أن فكرة الانتقال الي منطقة أخري بعيدة, امر ليس سهلا بالنسبة لمعظم سكان المنطقة. ولكن لو أن القرار سيطبق علي الجميع, فسوف نشعر بعدالته وستضطر وكل الأسر لتنفيذه, ولكن أن تزال بيوت بدعوي انها في منطقة خطر بينما أخري قائمة علي بعد خطوات منها, فهذا ظلم لانقبله. مشكلات كثيرة يعاني منها متضررو السيول, خاصة من قدرتهم اللجنة غير مستحقين للتعويضات مثل حالة طاهر سليم وأبنائه الذي قام بتقديم شكوي امام النيابة. طاهر يؤكد أنه كان يعيش وأسرته الكبيرة في مسكن مقسم الي عدة بيوت في منطقة زرزارة, واللجنة تقول إنه ليس بمسكن ولكن مخزن للغلال. كثير من النصابين استغلوا الحدث ليطلبوا بيوتا وتعويضات. حتي إن عدد الطلبات فاق بمراحل كثيرة عدد البيوت الموجودة في المنطقة بالفعل. هنا رد المحافظ مضيفا أن بعض أهالي المنطقة يقومون بهدم بيوتهم لطلب تعويضات او بيوت أخري. ويبرر عدم منح الأسر المنهارة منازلها مبلغ ال25 ألف جنيه كاملا. حتي لا يأخذوه يتزوجوا به او يشربوا البانجو! ويشرح: ( سوف نمنحها لهم علي عدة مراحل تحت اشراف ادارة مشروع ابني بيتك). اتهامات تبدو قاسية من جانب ضحايا السيول الذين يتساءلون بدورهم: كيف نفكر في الزواج او البانجو بينما أمهاتنا وبناتنا في الشارع؟! وبمرارة يقول أحدهم: ما نحن فيه فضيحة, فلربما كان الموت تحت السيول أرحم من أن نفقد ستر بيوتنا!