اجتازت ضحي الفاصل الزمني القصير الذي يقع بين الغروب والمساء وهي غارقة في التأملات. كانت مثقلة القلب متعبة, فلم ترفع ناظريها في اتجاه الأفق لتشاهد لون الشفق الأحمر وهو يخبو وينطفيء في غبشة الظلام. نهارها كان مليئا بالملل وخاليا من الإثارة, قضت نصفه في التجوال والتسكع في شوارع باريس علي غير هدي ولم تجد ما تفعله. عرجت علي أحد المقاهي لتريح قدميها قبل أن تستأنف الجولة.. طلبت قدحا من القهوة وراحت ترشفه بتلذذ وانشغلت بالنظر في وجوه المارة, لاح لها وهو قادم من بعيد فاستنفر حواسها وانتبهت له. التهب خيالها بوسامته فصارت كطائر محلق في سماء العشق والوله. شاهدته وهو يجوب المحال واحدا تلو الآخر ولم يكن يبحث عن شيء بعينه, طويل فارع, نحيل القوام, وبشرته تميل الي السمرة. كان يحمل معطفه الأزرق علي ذراعه ويسير مسرعا بخطي واسعة, يدلف من محل لآخر ويمكث بالداخل لعدة دقائق لا يلبث بعدها أن يخرج للهواء الطلق ثانية, تركت قهوتها ونهضت مسرعة وهرولت لتلحق به, لقيته بالباب وهي تدخل أحد المراكز التجارية الشهيرة بقلب باريس, وكان هو الآخر يوشك أن يدخله, صدمها بذراعه التي يحمل بها معطفه فأوجعتها الصدمة, التفتت إليه معاتبة فاعتذر لها بإسدال جفنيه وبغمزة من عينه, ثم أكد لها اعتذاره بابتسامة عريضة أضاءت وجهه, انفرجت بعده أساريرها وتمنت لو يلكزها بذراعه مرة ثانية. تبعته ومشت وراءه وهي في حالة استلاب كاملة. آمنت في تلك اللحظة أن للسحر قوي خارقة, فمن غمزة عين واحدة سرت بها شحنة صاعقة, صهرت كيانها فذاب في بعضه وسطع الضوء منه, لم يبق منه غير نار ودخان ورماد وروح تعلقت بمعطفه الذي يطويه بذراعه. (2) كانت تسير وراءه ساهمة تتبع خطاه أينما ذهب, فهو الراعي الذي سيقودها الي نبع الماء ومراعي العشب الأخضر, وهو الفارس الذي حلمت به منذ صباها, فالمهرة المشاكسة لم تكن قد وجدت مروضها الذي تخنع له, وشبابها أضاعته في حلم ممتد رسمت فيه قسمات وجهه, ظلت تنتظره سنوات وسنوات وأعياها الانتظار في الشرفات تستشرف طلعته. كانت تراقب المارة والعابرين وتبحث عنه في وجوه الداخلين الي المدينة, طالت أظافرها وتساقطت أهدابها من قلة النوم وفرط السهر, وتسلل المشيب الي رأسها وهي غافلة, حذروها من فوات الأوان وبؤس العنوسة ومرارة الوحدة في الأيام القاحلة, أشهرت لهم عنادها وأعلنت قائلة في خيلاء: قلبي وأنا أعرفه.. لايقبل بغير فارس مقتحم يغزوه أويختطفه عنوة. ولما كان قلبها لم يعد لديه قدرة علي الانتظار وخاف أن يخونه الزمن, ترفقت بها السماء وأرسلت لها فارسها في لحظة مباغته, له وسامة محببة وشارب يزينه, وهو نفسه الذي يجيئها في المنام شاهرا حسامه, لم تخنها الذاكرة في أي سمة من قسماته ولم يكن ثمة اختلاف في ملامحه. (3) يستجيب الليل للدعاء والبدر في التمام,والضوء يغمر الطريق والقلب يختلج بشوقه الذي انتظر وفاق الاحتمال, والفارس الغريب جاء بهامة مزينة بالورد والحناء, تزفه عنادل السماء.. والآن.. ليس قبل الآن, أعلن الشتاء انه انصرم وذابت الثلوج من فوق الربا, والبرد لم يعد له بقاء, لكنه مازال غير آبه بها.. وهي آبهة, وكانت تجري وتسبقه تحاول افتعال موقف معه لينتبه لها, وعند منعطف توقفت, وفي خلال لحظة وقبل أن يمر توثبت هي وألقت بنفسها عليه لتوقفه, وبادءته بالرطان قائلة:- غريب يتبعني أينما ذهبت.. أشعر به خلفي يشعر بأني لست وحدي فيذهب لحال سبيله.. لم تنطل عليه حيلتها وجاءت ساذجة, اغتبط من حيلتها وابتسم في جزل وقد فهم, مدلها ذراعه اليسري التي يحمل عليها معطفه فأمسكت بها وسارت إلي جانبه, افتر ثغرها عن ابتسامة كبيرة وزغردت عيونها. كانت تتقافز في خفةوهي مخطوفة اللب والفؤاد كأنها مهرة مجنحة تجوس في السحاب وهي مسرجة إلي بساط ريح, ويسوقها حوذي من الملائكة, كانت هائبة ولم تجد شجاعة لتسأله لاين ذاهب بها.. ؟ فالعقل ذاهب والحواس مرهفة..والعيون تغتسل بدمعة الفرح, والقلب مفعم ومنشرح والشفاه عاجزة عن الكلام.. والشوق راهب حبيس صومعة. (4) خرج إلي الشارع وهي متأبطة ذراعه, أشار الي سيارة كانت علي مقربة وركبا معا, نظر إليها وهو يظن أنها ستملي علي السائق عنوانا يذهب إليه فلم تفعل وظلت علي سكوتها. استشفت من إطالة السكوت علامة الرضا, وأنها قد أنست إليه وترغب في أن تصاحبه ولا تفارقه, فالليل طيب النسيم, والطر يق خال, والنجوم في السماء لامعة, والسكون يوحي بالجلال والجمال, والحلم متصل, سألها وابتسامة تضيء وجهه الصبوح: -.. ملامحك ليست فرنسية.. وشعرك الفاحم ليس فرنسي الجنسية, ولهجتك تؤكد ذلك فهل أصبت.. ؟ أو مأت له برأسها بالإيجاب, مطت شفتيها في ابتسامةعريضة انطوت علي دعوة ملحة له لأن يتجاوز التمهيد والافتتاحيات المسهب, فالفؤاد عاشق خجول, والحياء أسكته وهو الظمآن الذي يستعجل القطر ليروي ظمأه, انتظرت أن يبادرها بأسئلة أخري, لكنه استغرق في صمته وبدا كمن يفكر في شيء يقوله, ويتحري اختيار الكلمات المناسبة. كانت تلك اللحظات القصار بالنسبة لها هي المصير كله, وهي إن أضاعتها بالركون إلي الصمت فسيسحقها الندم ولن تعوضه, فهو الآن يقلب الأمر في رأسه ويزن أبعاد المسألة, وأغلب الظن أنه انحرف بفكرة في اتجاهات سيئة, والموقف يحتم عليها ان تصحح له مسار فكره وتقيم اعوجاج خياله, فالسيارة تجري بهما إلي فندق. سمعته يوشوش السائق باسمه, وهناك لن تجد فرصتها لترده عن نيته, والآن عليها حسم الأمر قبل أن يسبق السيف عزله. بادرته قاطعة صمته وأزجته دعوة ليس لها سابقة عنده, ولا قالتها له أي امرأة: .. أدعوك للعشاء.. فهل تقبل الدعوة؟ رفع حاجبيه من الدهشة وهم بأن يقول شيئا.. ولم يقله, فهي لم تعطه فرصته ليبدي رفضا أو قبولا, نظرت بسرعة ناحية السائق وهتفت له باسم أحد المطاعم الشرقية التي تقع بالشانزليزيه, فاستجاب لها علي الفور وحول الدفة. أما هو فقد أطرق برأسه وأسلم لله أمره, وبعد عدة دقائق كانا يجلسان الي مائدة في أحد أركان المطعم الهادئة, وبينهما شموع ثلاث تضيء في خفوف وصوت أغان شرقية تصدح. وفي ثوان تقدم إليهما شاب بملامح مصرية وتحدث إليها بحرارة, سألهاعن أحوالها واستفسر منها عن سبب انقطاعها عن المجيء لمدة ليست بالقصيرة, سوت بأصبعها خصلة من شعرها تهدلت علي جبينها وراحت تسرد علي مسامعه ما جري لها في الأيام الماضية, كانت تناديه باسم عاطف مجردا كأنه صديق قديم له عندها مودة, غلف الشجن نبراتها وهي تحكي له عما جري لها في الأيام الفائتة. (5) كان عاطف ينصت له وهو لا يفتأ يدير ناظريه بينها وبين الشاب الذي يجلس قبالتها كأنه يسألها عن كنيته, ففهمت نظراته واستدركت قائلة وهي تشير إليه: .. أقدم لك....؟!! سكتت بعدها فجأة ولم تكمل الجملة, فهي في خضم ما اعتراها من مشاعر عارمة منذ أن قابلته نسيت أن تسأله عن اسمه, كان هو يتابع ما يقولانه وأدرك مأزقها, نهض في التو وهو يمد يده لعاطف وتحدث إليه بالعربية ليعرفها بنفسه قائلا: . بشير عطاري.. من لبنان. جلس بعدها محاولا إبقاء ابتسامته الخفيفة علي وجهه, أما هي فقد أصابها الجمود وبدت أمامه كالغارقة. كانت تفكر فيما يدور برأسه حيالها وما يمكن أن يقع فيه من مظنات سيئة, فمما لا شك فيه أنه كان يحكم بمقاييسه الشرقية علي امرأة ألقت بنفسها بين ذراعيه علي حين غفلة منه ولم تسأله حتي عن اسمه.. والحكم باد علي وجهه في ابتسامته الخبيثة التي لا توحي بالثقة, وهي التي تتحمل الوزر كله لأنها هي التي حرضته باندفاعها الطائش نحوه. انساقت إليه بتهافت قلبها الصغير الذي رف بصدرها كالعصفور حين شاهده يرش النور من سنا طلعته, لكنها الآن تزهده, تكره ابتسامته التي تسقطها في أنياب أفكاره الدنسة, تلعن ضعفها الذي أوقعها في شراك أهدابه السوداء وجعلها تتعلق بأطراف ثيابه, وكل ما عليها الآن هو أن تكمل الشوط معه وتقاسمه عشاء دعته له بعدها تسرحه, فقلبها لم يزل بريئا ولا يحتمل الأهواء تلعب به, وأبدا لن يستبيحه قرصان شارد أو يغريه. (6) تقلبت في رأسها الشوارد الهاجسة علي قعقعة أدوات الماذدة, دقت الساعة فوقه معلنة تمام التاسعة, فرفع هامته وألقي نظرة علي الساعة المعلقة في الحائط, ولم يفته أن ينظر في ساعة معصمه كأنه يوحي لها بتعجله الفراغ من عشائه والذهاب إلي غير رجعة, تشاغلت عنه بالنظر في طبق الحساء أمامها وراحت تداعب الفتافيت السابحة علي سطحه كأنها تستوحي من حركتها الدائرية جملة تحاوره بها. وقالت وهي تتحسس وقع كلماتها حتي لاتستثيره: لم تقل لي إنك عربي.. وتركتني كالبلهاء معلقة. أجاب بسرعة: لم تسأليني.. ولك في ذلك عذرك.. فقد كان الخطر يحدق بك.. وفي لحظات الخطر لا يفكر الانسان في جنس الملائكة. سكت بعدها لحظة ورمقها بنظرة خاطفة اصابتها بالارتباك, تداركت موقفها بسرعة وقالت ملاطفة: .. أشكرك علي شهامتك, لكنني أرجو أن تقدر دوافعي.. وتأكد أنني لم أتعمد افتعال الموقف! أغاظته كلماتها, فهي تتحري الكذب وتصر عليه, وتصرفاتها غير مفهومة وتبدو مرهفة الحس ومهوشة الفكر بدرجة عالية. سدد إلي عينيها نظرة مباشرة قائلا: .. أعترف لك بأنني حائر في فهمك, فأنت تدفعينني دفعا لكي أفهم ما حدث علي أنه مصادفة بحتة ولم يكن فيه قصد الافتعال أو نية مبيتة, والنيات وحدها ياسيدتي غير كافية لتفسير ظواهر الافعال إذا جاءت غير مناسبة, لأنها توحي أحيانا باستنتاجات مثيرة للاشتباه لا تعزز النيات الطيبة. ردت مدافعة: .. تكون استنتاجات باطلة, فلم أجد غيرك في طريقي لأحتمي به, والموشك علي الغرق يتعلق بذراع شيطان لو كان طوق نجاته. .. كان المكان مزدحما وكان بإستطاعتك الاحتماء بغيري.. أدركت أن حديثهما يزداد سخونة وأن المناقشة تنحرف عن مسارها الذي تريده, سكتت برهة لتتيح له فرصة السيطرة علي عواطفه, ثم قالت باسمه: .. ملامحك توحي بالثقة.. والشهامة مجسدة في تقاطيعك الشرقية.. داخله الجزل لتعبيرها الرقيق فحاول الابتسام, لكنه محا ابتسامته من علي وجهه بسرعة, واسترد جهامته ليكمل الشوط كما رتبه في عقله حتي لايتيح لها فرصة لأن تستدرجه بنعومتها إلي مأزق فرد مقطبا: .. ليست الملامح وحدها سببا كافيا للثقة.. قولي شيئا غير ذلك, فأنا مازلت أتشكك في دوافعك.. ولست مستريحا. صدمها بكلماته, فآثرت الصمت وأمسكت عن الكلام حتي تجد مدخلا آخر للحديث معه, ارتكزت بمرفقها علي مسند كرسيها وألقت برأسها للوراء وهي تصيخ بأذنيها لأنغام صدحت في البهو في تلك اللحظة, تخلت عن نزعات الكبرياء التي كانت تتملكها منذ برهة وذابت بروحها في أصداء الشجن كان عاطف قد أدار تسجيلا لعبد الوهاب وهو يتغني بقصيدة جبل التوباد لأمير الشعراء شوقي, فأسدلت جفونها وسبحت هائمة في تراتيل العشق والجوي حتي ختم القصيدة بقوله: قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا فلم تدر ما حل بها.. أصارت لؤلؤة في قاع يم أم جمرة تتقد بجوف مدفأة, فدموعها تنهمر علي خديها ساخنة, وججها الملفوح بحر الشوق يشتهي من الندي ما يربطه, وقلبها ينام فيه سهم أصابه واستقر به, والذي رماه لايعلم بحاله رغم أن كفيه مخضبة بدمه. (7) نهض طاويا معطفه علي ذراعه ومد إليها يده, افتر ثغره عن ابتسامة, وهمس لها: .. وداعا قالت وهي شاردة: أرجوك لاتقل وداعا.. ألقاك في الغد.. ربت بكفه خدها في حنان وانسحب من أمامها قائلا: .. الغريب مثلي لا أمان له.. فأنت لاتعرفين من أكون! ثم مضي لحاله.. (8) صحت من غفوتها القصيرة علي صلصلة أجراس إحدي مركبات الترام وهي تدخل المحطة المقبلة للمقهي, نظرت في ساعة معصمها وتلفتت حواليها تستطلع الزمان والمكان, فأدركت أنها كانت نائمة.. فقد انتابتها غفوة قصيرة لفرط مانالها من تعب.. راحت تسترجع تفاصيل الحلم وهي مستغربة.. فحيز الحلم كان متسعا واستغرق وقتا طويلا في حين أن غفوتها كانت لدقائق معدودة. --------------------------------------------- السيرة الذاتية للاديب: صدرت له عدة مجموعات قصصية هي: خفايا الليل, الليل ستار, حب حتي إشعار آخر, وقالت لي الشقراء. وصدرت له روايتان هما: الخطوة نصيب, الساكن والمسكون والتي حصل بها علي جائزة الدولة سنة.1996 كما صدرت له مسرحيتان هما: أهل الكون, وبيت العجائز.