خالد عبدالعزيز يترأس الاجتماع الختامي للجنة الرئيسية لتطوير الإعلام الإثنين المقبل    بعد تخفيضها 6.25%.. سيناريوهات اجتماع «المركزي» لحسم أسعار الفائدة في نهاية 2025    إنفوجراف| العلاقات المصرية السودانية عقود من الشراكة في وجه الأزمات    تشكيل أمم إفريقيا - بلاتي توري يقود وسط بوركينا.. ومهاجم ريال مدريد أساسي مع غينيا الاستوائية    تصل ل15 ألف جنيه.. تفاصيل تغليظ عقوبات مخالفات المرور بعد موافقة الحكومة    فوز 3 طلاب بجامعة أسيوط بمنحة للدراسة بجامعة كاستامونو بتركيا    وزير الخارجية يبحث مع نظيره القبرصي تفعيل وتنفيذ الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المشتركة    غرفة عمليات الشعب الجمهوري تتابع جولة الإعادة بالدوائر الملغاة بانتخابات النواب    أمم افريقيا 2025| التشكيل الرسمي لمنتخب بوركينا فاسو أمام غينيا الاستوائية    هيثم عثمان حكمًا لمباراة الزمالك وسموحة بكأس عاصمة مصر    كوت ديفوار تواجه موزمبيق في الجولة الأولى من كأس أمم إفريقيا 2025.. التوقيت والتشكيل والقنوات الناقلة    تليجراف: عمر مرموش يقترب من مغادرة مانشستر سيتي في يناير    رئيس جهاز تنمية المشروعات: سنعمل على مضاعفة التمويلات لشباب بورسعيد خلال المرحلة المقبلة    ريهام عبدالغفور تطالب بمحاسبة من انتهكوا خصوصيتها في العرض الخاص لفيلم خريطة رأس السنة    جامعة أسوان تشارك في احتفالية عالمية لعرض أكبر لوحة أطفال مرسومة في العالم    وزير التعليم العالي يعلن أسماء (50) فائزًا بقرعة الحج    جامعة بني سويف تسلم أول مقررات دراسية بطريقة برايل لطالبة من ذوي الإعاقة البصرية    انفجار عبوة ناسفة بناقلة جند إسرائيلية في رفح الفلسطينية    بث مباشر.. الجزائر تبدأ مشوارها في كأس أمم إفريقيا 2025 بمواجهة نارية أمام السودان في افتتاح المجموعة الخامسة    تواصل الاشتباكات الحدودية بين تايلاند وكمبوديا    وكيل تعليم الإسكندرية: مدارس التكنولوجيا التطبيقية قاطرة إعداد كوادر فنية لسوق العمل الحديث    الحبس 3 أشهر للمتهمة بسب وقذف الفنان محمد نور    ميناء دمياط يستقبل 76 ألف طن واردات متنوعة    تشييع جثمان طارق الأمير من مسجد الرحمن الرحيم بحضور أحمد سعيد عبد الغنى    أصداء أبرز الأحداث العالمية 2025: افتتاح مهيب للمتحف الكبير يتصدر المشهد    هل يجوز استخدام شبكات الواى فاى بدون إذن أصحابها؟.. الإفتاء تجيب    السكة الحديد: تطبيق التمييز السعري على تذاكر الطوارئ لقطارات الدرجة الثالثة المكيفة.. ومصدر: زيادة 25%    سبق تداوله عام 2023.. كشفت ملابسات تداول فيديو تضمن ارتكاب شخص فعل فاضح أمام مدرسة ببولاق أبو العلا    الاتصالات: إضافة 1000 منفذ بريد جديد ونشر أكثر من 3 آلاف ماكينة صراف آلى    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمنتصف تعاملات الأربعاء    قرار جمهوري بتجديد ندب قضاة للجنة التحفظ على أموال الجماعات الإرهابية    وفاة أصغر أبناء موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب    تأجيل محاكمة عامل بتهمة قتل صديقه طعنًا في شبرا الخيمة للفحص النفسي    حسام بدراوي يهاجم إماما في المسجد بسبب معلومات مغلوطة عن الحمل    «الصحة» تعلن تقديم أكثر من 1.4 مليون خدمة طبية بمحافظة البحر الأحمر خلال 11 شهرًا    بالأعشاب والزيوت الطبيعية، علاج التهاب الحلق وتقوية مناعتك    إيمان العاصي تجمع بين الدراما الاجتماعية والأزمات القانونية في «قسمة العدل»    وزير الري يحاضر بهيئة الاستخبارات العسكرية ويؤكد ثوابت مصر في ملف مياه النيل    راشفورد يعلنها صريحة: أريد البقاء في برشلونة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 24-12-2025 في محافظة الأقصر    وزيرا التعليم العالي والرياضة يكرمان طلاب الجامعات الفائزين في البطولة العالمية ببرشلونة    الداخلية تكشف حصاد 24 ساعة من الحملات المرورية وضبط أكثر من 123 ألف مخالفة    ميدو عادل يعود ب«نور في عالم البحور» على خشبة المسرح القومي للأطفال.. الخميس    هاني رمزي: أتمنى أن يبقى صلاح في ليفربول.. ويرحل من الباب الكبير    كيف واجهت المدارس تحديات كثافات الفصول؟.. وزير التعليم يجيب    بولندا: تفكيك شبكة إجرامية أصدرت تأشيرات دخول غير قانونية لأكثر من 7 آلاف مهاجر    الأوقاف: عناية الإسلام بالطفولة موضوع خطبة الجمعة    فاضل 56 يومًا.. أول أيام شهر رمضان 1447 هجريًا يوافق 19 فبراير 2026 ميلاديًا    بدء اجتماع الحكومة الأسبوعى ويعقبه مؤتمر صحفي    الصغرى بالقاهرة 11 درجة.. الأرصاد تكشف درجات الحرارة المتوقعة لمدة أسبوع    وزير الصحة: قوة الأمم تقاس اليوم بعقولها المبدعة وقدراتها العلمية    رئيس هيئة الرعاية الصحية: مستشفى السلام ببورسعيد قدكت 3.5 مليون خدمة طبية وعلاجية    وكيل صحة بني سويف يفاجئ وحدة بياض العرب الصحية ويشدد على معايير الجودة    محمد إمام يكشف كواليس مشهد عرضه للخطر في «الكينج»    وزير الخارجية يتسلم وثائق ومستندات وخرائط تاريخية بعد ترميمها بالهيئة العامة لدار الكتب    بوتين يرفض أى خطط لتقسيم سوريا والانتهاكات الإسرائيلية    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 24 ديسمبر    فنزويلا: مشروع قانون يجرم مصادرة ناقلات النفط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحل آخر الحكائين العظام

خيري شلبي الذي فارقنا كاتب رواية وقصة قصيرة‏,‏ وهو واحد من الكبار الذين أضاءوا عالم القص بعد رحيل البنائين العظام نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم في مصر‏,‏ وعبد الرحمن منيف وغالب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم خارج مصر وبقدر ما يمكن أن نتحدث عن روايات علامات لكل واحد من هؤلاء في سياق الإبداع الروائي المتجدد‏.‏ يمكن أن نتحدث عن روايات علامات لخيري شلبي أعني روايات تشع ضوءا ساطعا بالقياس إلي غيرها, وذلك من مثل الوتد وموال البيات والنوم وغيرهما في المدي الإبداعي الذي يصل إلي ذروته الفريدة في وكالة عطية التي هي إحدي درر الرواية العربية التي لو لم يكتب خيري شلبي غيرها لكفته هذه الرواية البديعة, وأهلته لأن يحتل مكانة مرموقة بين كبار كتاب الرواية في العالم ولكن خيري شلبي كتب قبل وكالة عطية روايات كثيرة, وكتب بعدها روايات أكثر, يصل عددها إلي عشرين رواية, وربما أكثر, ولكن تظل وكالة عطية كالدرة الفريدة التي ستكون لها مكانة خاصة كالعلامة في تاريخ القص العربي, خصوصا بعد أن نضيف إلي الروايات مجموعات القصص القصيرة التي تصل إلي سبع مجموعات.
خيري شلبي كتب عن الشرائح الدنيا في المجتمع, تلك التي تعيش في قاع القاع في القرية, وفي هوامش المدن وعشوائياتها التي يفرخ فيها الفقر المدقع الجريمة والعنف وكل أشكال الانحراف التي يمكن أن نتخيلها أو لا نتخيلها والحقيقة أن عبد الرحمن الشرقاوي كتب عن القرية مثلما كتب غيره, في سياق يشمل كل أو أغلب الكتاب الذين لهم أصول قروية, أمثال يوسف إدريس وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا وعبد الحكيم قاسم ومحمد البساطي وغيرهم, وكلهم أجادوا وأبدعوا, ولكن كتابة خيري عن القرية مختلفة إنها كتابة عن قاع القاع, عن المعدمين الذين لا يملكون شيئا, والخارجين علي القانون لفقرهم, فشخصياته جانحة غريبة, حياتها أقسي من حياة تراحيل يوسف إدريس, فهم المعذبون في الأرض حقا الذين لا يملكون أرضا مهما كانت صغيرة كما في أرض الشرقاوي ولذلك لم يكن نجيب محفوظ مغاليا عندما أجاب من سأله عن سبب عدم كتابته عن القرية بقوله كيف أكتب عن القرية وعندنا خيري شلبي ولقد نطق نجيب محفوظ بالحق, فابن قرية شباس عمير المعدم الذي أكمل تثقيف نفسه بنفسه, كان يشعر أكثر من غيره بمعني الجوع وانعدام الكساء أو توافر القوت, ولذلك كتب عن فقر القرية الدكر كما كان يقول.
يتكرر الأمر نفسه في كتابته عن المدينة, فهو ابن القرية الذي ارتحل إلي المدينة, فانتقل من دمنهور إلي الإسكندرية, ومن الإسكندرية إلي القاهرة, وعمل بوظائف عديدة, قاربت بينه وبين مهمشي المدينة وسكان عشوائياتها الذين أحبوه كما أحبهم, فمنحوه سر الكتابة عنهم, وكشفوا له عما لم يكشفوه لغيره, فاستطاع خيري أن يفتح للأدب العربي وللقصة العربية أفق الكتابة عن المهمشين وشذاذ الآفاق وتجار المخدرات ومتعاطيها, فاقتحم عوالم من الكتابة لم يقتحمها قبله أحد بهذا الغني والتنوع والعمق, وذلك علي نحو أنتج نماذج إنسانية حية, تجمع ما بين الخاص والعام, وتنفذ من خلال الموقف المغرق في مخليته إلي الإنساني الذي يخاطب الناس جميعا في كل زمان ومكان, وإلا فمن ذا الذي ينسي فاطمة تعلبة وصالح هيصة وعم أحمد السماك, فضلا عن شخصيات وكالة عطية الذين كنت أراهم وأتحرك معهم وبينهم, كل مرة قرأت له هذه الرواية التي لا تنقطع فتنني بها.
وظني أن حياة خيري شلبي مع المهمشين من معذبي الأرض هي التي جعلته حكاء لا يباري, فما كان ينطلق في الحكي الشفاهي إلا وكان يجذب من يستمع إليه بحبال سحرية, ويفتح أمامه عوالم لا يقدر علي فتحها سواه, مازجا بين العامية والفصحي في الحكي, متبلا حكاياته بنوادر ما رآه في عالم المقابر أو المقاهي التي لا يعرف أماكنها سواه وأشهد أني لم أر حكاء في براعة خيري شلبي, خصوصا حين يصفو مزاجه, ويكون راضيا عن الدنيا التي خبرها وعاناها وعرف أسرارها ودهاليزها, فاكتسب ذخيرة من التجارب والمعارف عن بشر لا حد لغني عوالمهم الغريبة العجيبة وتنوعها وغرابتها.
وأعتقد أن الصفتين العفوية والتلقائية هما المسئولتان عن جسارة العالم الروائي عند خيري وكلي ثقة بأنه كان حين يكتب, ينسي كل تابوهات العالم الخارجي ونواهيه, ويترك العنان لرغبته في الحكي أو الكتابة دون حتي رقيب داخلي فكتابته حكي ينطق مبدأ الرغبة ولا يلتفت إلي مبدأ الواقع أو يأبه به, والنتيجة هي الدهشة التي كانت تصيبني, وأنا أجد حكيه الكتابي ينطق المسكوت عنه, ويكتب ما لا يكتب عادة في الجنس أو السياسة أو غيرهما من المحرمات, فخيري شلبي لم يكن يعرف سوي محرم واحد هو أن لا يكون نفسه, أو أن يكتب مالا يشعر به, أو يعانيه, أو يعيشه وقد قادته هذه التلقائية إلي أن يبتدع أشكالا روائية خاصة به, ولذلك فكتابته تستعصي علي ذائقة النقاد المدرسيين, خصوصا حين لا يجدون فيها حبكة أرسطية, أو تصدمهم الاستطرادات, أو تولد مشروع رواية مغايرة, لكن موازية, داخل السرد.
والحق أن خيري لم يبدأ قط من نموذج مسبق, ولم يحرص علي تقليد عمل, ولم تبهره موضة زائلة ولا أدل علي ذلك من أنه لم يشغل نفسه بروايات الحداثة أو ما بعدها, ولم يؤرق كتابته بأسلوب الرواية الشيئية أو الوجودية أو العبثية لقد كان يلتهم كل ما كان يتاح له عبر الترجمة, وهي خصلة ظلت ملازمة له إلي آخر أيامه, فإذا بدأ الكتابة نسي كل ما قرأ, وانطلق علي فيض الكريم, يحمل قلمه إلي حيث يشاء حرا طليقا, لا إمارة عليه من مذهب أو موضة أو تعاليم متوارثة, فكتابته هي حياته التي عاشها بالطول والعرض, وبناؤها هو لحمة هذه الحياة وسداها كان يوسف إدريس يحلم بأن يكتب قصة مصرية تماما, وقد نجح في ذلك إلي حد كبير, لكن خيري شلبي الذي لم يكن يقرأ بغير العربية انطلق من الحلم نفسه, ومضي بقلمه لا ليكتشف أندلس الأعماق كما فعل أدونيس الشاعر, وإنما ليكتشف شعبه وناسه والمعذبين في الأرض الذين أخذ علي عاتقه مهمة الكتابة عنهم, بعد أن تشرب وعيه بالسير الشعبية بكل أنواعها, وحكايات الليالي بكل تنوعاتها, وكان هاديه ودليله المهمشين الذين غاص إلي دنياهم وتعرف دهاليز عوالمهم وأنفاقها السفلية, ورأي دماء الفقراء التي امتصها اللصوص الكبار في عهدي السادات ومبارك, فأبدع ما ينتسب إليه وإليهم, وصاغ من آلامهم وإحباطاتهم رواياته وقصصه الصغيرة, فأنجز من تفرد الكتابة ما جعله عالما قائما بذاته.
وأعتقد أن صفة العفوية هذه هي التي تقلبت بخيري في دروب كثيرة, أقربها إلي السرد كتابة اللوحات القلمية عن المحيطين به, حيث يري الشخصية كلها في ملامح وجهها ونظرات عينيها ولا يبعد عن السرد كتابته في تاريخ الأماكن أو وصفها, فضلا عن أعداد من الأعمال الإبداعية والمسرحية للأساتذة الذين ألقي الضوء علي المجهول من أعمال بعضهم, فكان غزير الإنتاج إلي درجة لا تصدق, عظيم الإنجاز إلي درجة تشعرنا بالألم الموجع لفقده رحمه الله.
المزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.