خيري شلبي الذي فارقنا كاتب رواية وقصة قصيرة, وهو واحد من الكبار الذين أضاءوا عالم القص بعد رحيل البنائين العظام نجيب محفوظ ويوسف إدريس وفتحي غانم في مصر, وعبد الرحمن منيف وغالب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وغيرهم خارج مصر وبقدر ما يمكن أن نتحدث عن روايات علامات لكل واحد من هؤلاء في سياق الإبداع الروائي المتجدد. يمكن أن نتحدث عن روايات علامات لخيري شلبي أعني روايات تشع ضوءا ساطعا بالقياس إلي غيرها, وذلك من مثل الوتد وموال البيات والنوم وغيرهما في المدي الإبداعي الذي يصل إلي ذروته الفريدة في وكالة عطية التي هي إحدي درر الرواية العربية التي لو لم يكتب خيري شلبي غيرها لكفته هذه الرواية البديعة, وأهلته لأن يحتل مكانة مرموقة بين كبار كتاب الرواية في العالم ولكن خيري شلبي كتب قبل وكالة عطية روايات كثيرة, وكتب بعدها روايات أكثر, يصل عددها إلي عشرين رواية, وربما أكثر, ولكن تظل وكالة عطية كالدرة الفريدة التي ستكون لها مكانة خاصة كالعلامة في تاريخ القص العربي, خصوصا بعد أن نضيف إلي الروايات مجموعات القصص القصيرة التي تصل إلي سبع مجموعات. خيري شلبي كتب عن الشرائح الدنيا في المجتمع, تلك التي تعيش في قاع القاع في القرية, وفي هوامش المدن وعشوائياتها التي يفرخ فيها الفقر المدقع الجريمة والعنف وكل أشكال الانحراف التي يمكن أن نتخيلها أو لا نتخيلها والحقيقة أن عبد الرحمن الشرقاوي كتب عن القرية مثلما كتب غيره, في سياق يشمل كل أو أغلب الكتاب الذين لهم أصول قروية, أمثال يوسف إدريس وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا وعبد الحكيم قاسم ومحمد البساطي وغيرهم, وكلهم أجادوا وأبدعوا, ولكن كتابة خيري عن القرية مختلفة إنها كتابة عن قاع القاع, عن المعدمين الذين لا يملكون شيئا, والخارجين علي القانون لفقرهم, فشخصياته جانحة غريبة, حياتها أقسي من حياة تراحيل يوسف إدريس, فهم المعذبون في الأرض حقا الذين لا يملكون أرضا مهما كانت صغيرة كما في أرض الشرقاوي ولذلك لم يكن نجيب محفوظ مغاليا عندما أجاب من سأله عن سبب عدم كتابته عن القرية بقوله كيف أكتب عن القرية وعندنا خيري شلبي ولقد نطق نجيب محفوظ بالحق, فابن قرية شباس عمير المعدم الذي أكمل تثقيف نفسه بنفسه, كان يشعر أكثر من غيره بمعني الجوع وانعدام الكساء أو توافر القوت, ولذلك كتب عن فقر القرية الدكر كما كان يقول. يتكرر الأمر نفسه في كتابته عن المدينة, فهو ابن القرية الذي ارتحل إلي المدينة, فانتقل من دمنهور إلي الإسكندرية, ومن الإسكندرية إلي القاهرة, وعمل بوظائف عديدة, قاربت بينه وبين مهمشي المدينة وسكان عشوائياتها الذين أحبوه كما أحبهم, فمنحوه سر الكتابة عنهم, وكشفوا له عما لم يكشفوه لغيره, فاستطاع خيري أن يفتح للأدب العربي وللقصة العربية أفق الكتابة عن المهمشين وشذاذ الآفاق وتجار المخدرات ومتعاطيها, فاقتحم عوالم من الكتابة لم يقتحمها قبله أحد بهذا الغني والتنوع والعمق, وذلك علي نحو أنتج نماذج إنسانية حية, تجمع ما بين الخاص والعام, وتنفذ من خلال الموقف المغرق في مخليته إلي الإنساني الذي يخاطب الناس جميعا في كل زمان ومكان, وإلا فمن ذا الذي ينسي فاطمة تعلبة وصالح هيصة وعم أحمد السماك, فضلا عن شخصيات وكالة عطية الذين كنت أراهم وأتحرك معهم وبينهم, كل مرة قرأت له هذه الرواية التي لا تنقطع فتنني بها. وظني أن حياة خيري شلبي مع المهمشين من معذبي الأرض هي التي جعلته حكاء لا يباري, فما كان ينطلق في الحكي الشفاهي إلا وكان يجذب من يستمع إليه بحبال سحرية, ويفتح أمامه عوالم لا يقدر علي فتحها سواه, مازجا بين العامية والفصحي في الحكي, متبلا حكاياته بنوادر ما رآه في عالم المقابر أو المقاهي التي لا يعرف أماكنها سواه وأشهد أني لم أر حكاء في براعة خيري شلبي, خصوصا حين يصفو مزاجه, ويكون راضيا عن الدنيا التي خبرها وعاناها وعرف أسرارها ودهاليزها, فاكتسب ذخيرة من التجارب والمعارف عن بشر لا حد لغني عوالمهم الغريبة العجيبة وتنوعها وغرابتها. وأعتقد أن الصفتين العفوية والتلقائية هما المسئولتان عن جسارة العالم الروائي عند خيري وكلي ثقة بأنه كان حين يكتب, ينسي كل تابوهات العالم الخارجي ونواهيه, ويترك العنان لرغبته في الحكي أو الكتابة دون حتي رقيب داخلي فكتابته حكي ينطق مبدأ الرغبة ولا يلتفت إلي مبدأ الواقع أو يأبه به, والنتيجة هي الدهشة التي كانت تصيبني, وأنا أجد حكيه الكتابي ينطق المسكوت عنه, ويكتب ما لا يكتب عادة في الجنس أو السياسة أو غيرهما من المحرمات, فخيري شلبي لم يكن يعرف سوي محرم واحد هو أن لا يكون نفسه, أو أن يكتب مالا يشعر به, أو يعانيه, أو يعيشه وقد قادته هذه التلقائية إلي أن يبتدع أشكالا روائية خاصة به, ولذلك فكتابته تستعصي علي ذائقة النقاد المدرسيين, خصوصا حين لا يجدون فيها حبكة أرسطية, أو تصدمهم الاستطرادات, أو تولد مشروع رواية مغايرة, لكن موازية, داخل السرد. والحق أن خيري لم يبدأ قط من نموذج مسبق, ولم يحرص علي تقليد عمل, ولم تبهره موضة زائلة ولا أدل علي ذلك من أنه لم يشغل نفسه بروايات الحداثة أو ما بعدها, ولم يؤرق كتابته بأسلوب الرواية الشيئية أو الوجودية أو العبثية لقد كان يلتهم كل ما كان يتاح له عبر الترجمة, وهي خصلة ظلت ملازمة له إلي آخر أيامه, فإذا بدأ الكتابة نسي كل ما قرأ, وانطلق علي فيض الكريم, يحمل قلمه إلي حيث يشاء حرا طليقا, لا إمارة عليه من مذهب أو موضة أو تعاليم متوارثة, فكتابته هي حياته التي عاشها بالطول والعرض, وبناؤها هو لحمة هذه الحياة وسداها كان يوسف إدريس يحلم بأن يكتب قصة مصرية تماما, وقد نجح في ذلك إلي حد كبير, لكن خيري شلبي الذي لم يكن يقرأ بغير العربية انطلق من الحلم نفسه, ومضي بقلمه لا ليكتشف أندلس الأعماق كما فعل أدونيس الشاعر, وإنما ليكتشف شعبه وناسه والمعذبين في الأرض الذين أخذ علي عاتقه مهمة الكتابة عنهم, بعد أن تشرب وعيه بالسير الشعبية بكل أنواعها, وحكايات الليالي بكل تنوعاتها, وكان هاديه ودليله المهمشين الذين غاص إلي دنياهم وتعرف دهاليز عوالمهم وأنفاقها السفلية, ورأي دماء الفقراء التي امتصها اللصوص الكبار في عهدي السادات ومبارك, فأبدع ما ينتسب إليه وإليهم, وصاغ من آلامهم وإحباطاتهم رواياته وقصصه الصغيرة, فأنجز من تفرد الكتابة ما جعله عالما قائما بذاته. وأعتقد أن صفة العفوية هذه هي التي تقلبت بخيري في دروب كثيرة, أقربها إلي السرد كتابة اللوحات القلمية عن المحيطين به, حيث يري الشخصية كلها في ملامح وجهها ونظرات عينيها ولا يبعد عن السرد كتابته في تاريخ الأماكن أو وصفها, فضلا عن أعداد من الأعمال الإبداعية والمسرحية للأساتذة الذين ألقي الضوء علي المجهول من أعمال بعضهم, فكان غزير الإنتاج إلي درجة لا تصدق, عظيم الإنجاز إلي درجة تشعرنا بالألم الموجع لفقده رحمه الله. المزيد من مقالات جابر عصفور