للوهلة الأولي تبدو عملية إعادة إعمار ليبيا مهمة يسيرة للغاية. فالدولة تمتلك أكبر الاحتياطيات المؤكدة من البترول الخفيف في القارة الأفريقية, وتستحوذ علي أصول خارجية تتجاوز قيمتها170 مليار دولار. أي ما يمثل110% من قيمة الناتج المحلي الاجمالي, وهي غير مثقلة بالديون, وكثافتها السكانية المحدودة- ستة ملايين نسمة- تجعل عملية توزيع الثروة بين أفراد المجتمع غير معقدة. يضاف إلي ذلك أن خطابها كثيرون, فالشركات من كل أنحاء العالم تسعي لكسب ودها ويسيل لعابهم أمام كم الفرص الاستثمارية البكر المتاحة وهو ما يجعلها في وضع قوي يمكنها من اختيار الأفضل بين العروض المتنافسة. كل هذا حقيقي إذا كنا نتحدث عن مدي زمني قدره عشر سنوات, أما علي المدي الق صير فالمجلس الانتقالي الليبي يواجه مهاما وتحديات صعبة أولها إعادة الصادرات البترولية الليبية إلي معدلاتها قبل الثورة, وبناء هياكل وبنية أساسية تستجيب لاحتياجات المواطن الليبي في مواقع انتشاره المترامي جغرافيا, وليس للنخبة الحاكمة, وسرعة تعمير المناطق المتضررة في مصراتة والجبل الغربي, والنظر في بدائل أخري لتوظيف الفوائض البترولية بدلا من استثمارها في صناديق تحوط أهدرت أموال الشعب في رسوم باهظة وخسائر لا يعرف من المسئول عنها, والبحث عن صيغ جديدة لإعادة توزيع الدخل تحقق العدالة والإنصاف للمواطن الليبي بغض النظر عن هويته القبلية أو معتقداته السياسية. التفاؤل الذي أحاط بمؤتمر الدول المانحة في باريس وحصل بموجبه المجلس الانتقالي علي15 مليار دولار من الأصول الليبية السائلة المجمدة في الخارج فضلا عن رفع الحظر عن المواني والتعامل مع الشركات الليبية, وما حصل عليه من قبل في مؤتمر الدوحة من دعم مالي قدره5,2 مليار دولار هو شهادة ثقة في النظام الجديد الذي كان جاهزا بخريطة طريق سياسية, وانعكاس لثقة المانحين بإمكانية استرداد هذه الأموال سريعا فور استئناف الصادرات الليبية وهي ميزة لم تتح لغيرها من دول الثورات العربية وبالتالي لا يمكن القياس عليها. هذا الرقم يمثل ثلاثة مليارات دولار من الولاياتالمتحدة وبريطانيا و16,2 مليار دولار من فرنسا و6,2 مليار يورو من إيطاليا ومليار يورو من ألمانيا و700 مليون يورو من هولندا وهو في نهاية الأمر يمثل جزءا صغيرا من الأصول الليبية في هذه الدول والتي تقدر بنحو37 مليار دولار في الولاياتالمتحدة معظمها في شكل ممتلكات عقارية,20 مليار دولار في بريطانيا, و3,7 مليار يورو في ألمانيا وثلاثة مليارات يورو في هولندا و5,1 مليار دولار في جنوب أفريقيا. كل هذه الأموال لن يتم رفع الحظر عنها إلا بعد صدور قرار من مجلس الأمن وبشكل تدريجي يرتبط بقدرة المجلس علي فرض الأمن والاستقرار في البلاد, وكسب اعتراف الدول الأعضاء في مجلس الأمن حاليا, وبالتحرك نحو الاصلاح السياسي والاقتصادي. في خلال هذه الفترة سيحتاج المجلس إلي أموال كثيرة لإعادة خدمات المياه والكهرباء والاتصالات وإعادة بناء المنازل المهدمة والطرق والمرافق الأساسية والمستشفيات والمدارس وهو أمر سيستغرق وقتا طويلا, وبالتالي قد تضطر ليبيا إلي الاستدانة من مؤسسات دولية واقليمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإفريقي وهو ما يجب أن يسبقه اعتراف كل الدول الأعضاء في هذه المنظمات بالنظام الجديد. ومازالت الصين والهند تحجب الاعتراف وكذلك عدة دول أفريقية وعربية أيضا لديها الكثير من التحفظات بشأن استمرار العمليات العسكرية لحلف الأطلنطي, وعدم ثبوت سيطرة النظام الكاملة علي القذافي والقوات الموالية له, وقدرة أعضاء المجلس علي احتواء الخلافات داخل المجلس وبينها وبين القبائل المتناثرة في كل أنحاء البلاد. استئناف تصدير البترول ولذلك يعول المجلس كثيرا علي استئناف تصدير البترول بسرعة تمكنه من الحصول علي أموال سائلة لتمويل الاحتياجات العاجلة. ومما يذكر أن ليبيا كانت تنتج6,1 مليون برميل بترول يوميا قبل الثورة وهبط الإنتاج إلي50 ألف برميل بترول يوميا في الوقت الراهن. ولا توجد قاعدة يمكن القياس عليها في هذه الحالات. ففي العراق مثلا وعلي الرغم من أن القصف الجوي الأمريكي في عام2003 لم يستهدف المنشآت البترولية إلا أن العراق لم يستعد مستويات إنتاجه ما قبل الحرب إلا في عام2008 وذلك بسبب تعرض خطوط الأنابيب لهجمات مستمرة أعاقت عمليات الاصلاح. الوضع قد يكون مختلفا في ليبيا التي أعلن قادتها الجدد احترامهم للعقود الي أبرمها نظام القذافي وإعلانهم عودة شركة إيني البترولية الايطالية للعمل في ليبيا ضن خمس شركات أخري. لكن الخبراء يتوقعون أن تتمكن لييبا من إنتاج300 ألف برميل يوميا من الحقول في الشرق والجنوب الغربي الي تخضع للسيطرة الكاملة للثوار منذ البداية وذلك خلال الأشهر الثلاثة المقبلة, أما الحقول الواقعة في منطقة حوض سرت والتي تمثل ثلثي الإنتاج الليبي فستحتاج إلي اصلاحات عميقة بالإضافة إلي اصلاح الأضرار المادية التي لحقت بمواني التصدير في رأس لانوف والسدر ومليتة, ولم تشرع الشركات حتي الآن في تقييم حجم الضرر والزمن المطلوب لإعادة الأمور إلي أوضاعها السابقة. ولذلك تذهب تقديرات الخبراء إلي أن الأمر سيستغرق ما بين20 إلي36 شهرا لاستعادة الإنتاج الليبي مستويات قبل الثورة. النقطة الجديرة بالذكر أن الحقول في المناطق الشرقية ستكون في وضع أفضل منها في الغرب, ولذلك سيكون من المهم أن تحدد الإدارة الانتقالية منذ البداية كيفية توزيع الموارد وفقا للاحتياجات العاجلة لكل منطقة, وليس وفقا للضغوط المحلية لتعويضها عما أصابها من حرمان في عهد حكم القذافي. هذا علي المدي القصير, أما علي المدي الطويل فسيتعين علي النظام إعادة النظر في العقود المبرمة مستقبلا والتي ستستفيد منها بالتأكيد الدول التي قدمت دعما مباشرا للثورة مثل فرنسا وبريطانيا. ومما يذكر أن ليبيا تحتل المرتبة الرابعة بين الدول المنتجة للبترول في أفريقيا وتصدر نحو80% من إنتاجها لأوروبا, وأن شركة أجوكو الوطنية تسيطر علي الحقول في شرق البلاد بينما تسيطر شركة البترول الوطنية التي كانت خاضعة لسيطرة أسرة القذافي علي الحقول في الغرب, و أن هناك خمس شركات أجنبية دخلت السوق الليبية منذ رفع الحظر عنها في عام2006 هي شركة إيني الايطالية, وتوتال الفرنسية, وريبسول الأسبانية وشركتان ألمانيتان هما وينترشال ودي إيه إي. حين يأتي أوان إبرام العقود الجديدة للتوسع في الإنتاج ستكون ليبيا في وضع أفضل والمتنافسون كثر وهو ما يعطيها ميزة المفاضلة علي أساس الحسابات العلمية وليس الأهواء السياسية. تكلفةالفساد الباهظة الثروة البترولية الليبية هي أحد عوامل الجذب القوية للاستثمارات الأجنبية لكنها ليست كلها. فالبلاد تفتقد إلي بنية أساسية قوية قادرة علي استيعاب هذه الاستثمارات وهو ما يفتح المجال واسعا لتعويض عقودمن الإهمال في عهد القذافي فهناك حاجة لإنشاء شبكات الكهرباء والمياه ومد الطرق وخطوط اتصالات تربط أجزاء الوطن ولا تقطعه, وبناء المدارس والمستشفيات وتوفير الخدمات الأساسية ووبناء المنازل والمنشآت الحكومية وغيرها. كما أنه كانت هناك بدايات لتنويع مصادر الثروة غير البترولية منذ تم رفع الحظر الدولي مثل الدخول في الصناعات البتروكيميائية والحديد والصلب لابد من التوسع فيها مثل تطوير الصناعات الزراعية وخلق فرص عمل جديدة للشباب في قطاعات تكنولوجية حديثة. كل ذلك يحتاج إلي استقرار سياسي وأمني لكنه يحتاج ما هو أكثر من ذلك وهو فرض حكم القانون واحترام القواعد والتخلص من المحسوبية والفساد. فمنظمة الشفافية الدولية تضع ليبيا في المركز رقم146 بين178 دولة علي مستوي العالم من حيث مكافحة الفساد, وهو ذات المركز الذي تحتله دول مثل الكاميرون, وساحل العاج وهاييتي وإيران ونيبال وباراجواي واليمن. وتبدو التكلفة الباهظة للفساد في أبشع صورها في الطريقة التي أدار بها النظام السابق أموال الصندوق السيادي الليبي الذي أنشأه نجل القذافي سيف الإسلام في عام2006 برأسمال قدره40 مليار دولار وتصل قيمة أصوله الحالية الي65 مليار دولار ولكن بعد أن فقد بعض الأصول التي استثمرت فيها هذه الأموال40% من قيمتها بسبب الفساد والقرارات الخاطئة التي اتخذها أعوان سيف الإسلام الذين عينهم مديرين للصندوق. فقد كشف تقرير نشرته صحيفتا نيويورك تايم الأمريكية وفاينانشال تايمز البريطانية عن الإدارة السيئة لأموال الصندوق التي دفعت رسوما بعشرات الملايين من الدولارات لبنوك غربية وصناديق تحوط أمريكية وأوروبية وحققت في مقابله خسائر أو عائدات تقل كثيرا عن المؤشر العالمي المعروف لصناديق الاستثمار المماثلة. وكشف التقرير الذي أعده مكتب الاستشارات كيه بي أم جي وحصلت مؤسسة جلوبال ويتنس الاستقصائية علي الكثير من خبايا المعاملات التي تحوم حولها الشبهات. لهذا فإنه من المهم للغاية أن يبادر المجلس بالتحقيق المبكر في قضايا الفساد والإفساد في ظل النظام السابق, خاصة وأن توفير الفرص الاستثمارية الملائمة لتوظيف الإيرادات البترولية الليبية سيستغرق وقتا, وسيكون مهما للداخل قبل الخارج إشاعة الطمأنينة بأن الثروة الطبيعية والمالية في أيد أمينة يتم استثمارها بأفضل الطرق الممكنة للحفاظ علي مصالح الأجيال الحالية والقادمة. التحديات التي يواجهها النظام الجديد في ليبيا يوازيها امكانات وموارد لا تتوفر لغيرها وهي أمانة تستحق الوفاء بالعهد. المحررة