في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ الفرنسي الحديث، دخل الرئيس الأسبق 'نيكولا ساركوزي' اليوم إلى سجن 'لا سانتيه' في باريس، ليبدأ تنفيذ حكم بالسجن 5 سنوات صدر بحقه في قضية التمويل غير المشروع لحملته الانتخابية عام 2007. القضية التي هزت فرنسا تعود جذورها إلى اتهامات بتلقي ساركوزي أموالًا من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لدعم حملته الرئاسية التي فاز فيها قبل أكثر من 18 عامًا. تمويل الحملة من القذافي تعود القصة إلى منتصف العقد الأول من الألفية، حين كان القذافي يسعى للعودة إلى الساحة الدولية بعد سنوات من العزلة، بينما كان ساركوزي يطمح للوصول إلى قصر الإليزيه. تقاطعت المصالح بين الطرفين، وبدأت اتصالات سرية بين مقربين من الطرفين لترتيب تمويل سري للحملة الانتخابية الفرنسية. التحقيقات التي أجرتها السلطات الفرنسية لاحقًا كشفت أن مبالغ تراوحت بين 5 و50 مليون يورو تم تحويلها من ليبيا إلى حملة ساركوزي عبر وسطاء سياسيين ورجال أعمال، في واحدة من أكبر عمليات التمويل الخفي في التاريخ السياسي الفرنسي. خيانة ساركوزي للقذافي؟ وبعد فوزه بالرئاسة عام 2007، استقبل ساركوزي القذافي في باريس استقبالًا رسميًا مثيرًا للجدل، حيث نصب الزعيم الليبي خيمته الشهيرة بالقرب من قصر الإليزيه في مشهد أثار غضب الرأي العام الفرنسي. غير أن العلاقة بين الرجلين لم تدم طويلاً، إذ انقلب ساركوزي على القذافي بعد اندلاع الثورة الليبية عام 2011، وكان من أوائل القادة الداعين إلى التدخل العسكري ضد النظام الليبي، وهو ما اعتبره القذافي خيانة شخصية. ماذا بعد سقوط القذافي؟ عقب سقوط النظام الليبي، ظهرت وثائق رسمية من أرشيف طرابلس تشير إلى وجود اتفاق واضح على تمويل الحملة الانتخابية لساركوزي. كما أدلى عدد من المسؤولين الليبيين السابقين، بينهم عبد الله السنوسي والبغدادي المحمودي، بشهادات تؤكد تحويل الأموال بالفعل. استجواب ساركوزي في عام 2018، تم استجواب ساركوزي رسمياً لأول مرة، ثم وُجهت إليه تهم تتعلق بالفساد، وتلقي أموال من دولة أجنبية، والتلاعب بتمويل الحملة الانتخابية. وبعد أعوام من التحقيقات والمرافعات، صدر الحكم النهائي في سبتمبر 2025 بالسجن خمس سنوات، من بينها عامان نافذان، وهو ما تم تنفيذه اليوم. بسقوطه، أصبح نيكولا ساركوزي أول رئيس فرنسي يدخل السجن بتهمة تلقي تمويل أجنبي، في قضية تتشابك فيها السياسة بالمال والولاءات الدولية. ويُنظر إلى الحكم بوصفه رسالة قوية من القضاء الفرنسي بأن أحدًا، مهما بلغ منصبه، ليس فوق القانون. قضية ليبيا لم تكن الوحيدة التي لاحقت الرئيس الأسبق؛ فخلال السنوات الأخيرة واجه عدة محاكمات تتعلق بالفساد واستغلال النفوذ، لكن ملف التمويل الليبي كان الأكثر حساسية بسبب طبيعته الدولية وتعقيداته السياسية. يرى مراقبون أن هذه الخطوة ترسخ مبدأ المساواة أمام القانون في فرنسا، حتى وإن كان المتهم رئيسًا سابقًا. لكنها في الوقت ذاته تعيد فتح ملف العلاقات الغامضة بين باريسوطرابلس في فترة ما قبل الثورة الليبية، حين كانت المصالح الاقتصادية والنفطية تشكل محورًا أساسيًا في التقارب بين البلدين. ومع تنفيذ الحكم اليوم، يكون نيكولا ساركوزي قد كتب فصلًا جديدًا في تاريخ فرنسا السياسي، حيث تحوّل من رئيس يرفع شعار "فرنسا القوية" إلى سجين يحمل رقمًا داخل جدران أحد أشهر السجون الباريسية، في نهاية مثيرة لمسيرة بدأت من أضواء الإليزيه وانتهت خلف القضبان.