"احملي لي يا حبيبةُ شنطةَ الخمرِ، اتبعيني .. عند مقهيً فارغٍ سنصُبُّ كأسَينا ونشربُ هادئَينِ الوَقتَ، نقرأُ ما تبقي من وجوهِ السائرينَ علي طريقِ الليلِ .. نُعلِنُ للجميعِ خروجَنا عمدًا عن الحدَثِ الذي اعتادوهُ، نرقُصُ تائِهَيننِ بِبُردةِ الحَلاّجِ، نصعدُ طائِرَينِ كأننا لسنا كَشَيءِ". هكذا يختتمُ (أيمن ثابت) أولي قصائدِ ديوانِهِ الأولِ المعنوَن (الأوّل)، والّذي كان قدَرُهُ أن يحصُدَ كذلك المركزَ الأولَ في حقلِ شِعرِ الفصحي في المسابقة الأدبية المركزية لهيئة قصور الثقافة في موسم 2013/2014. والديوانُ مُقَسَّمٌ إلي ثلاثةِ أقسامِ: "الحياةُ بسيطةٌ ومُعَقَّدَة الّذي بينَ الحياةِ والموت الموتُ هُوَ مَن هُوَ" تجمعُ ثمانيةَ عشرَ نَصًّا أتي معظمُها في شكلِ القصيدةِ المُدَوَّرَة .. ولهذا وجاهتُهُ إذا تعلَّقَ الأمرُ بجدَلِ الشكلِ والمضمون، فإنَّ القصيدةَ المدوَّرَةَ هي تلك التي نصلُ فيها إلي (القَفلةِ) الإيقاعيّة الأولي فقط مع نهايتها، فليسَ ثَمَّ بَيتٌ شعريٌّ كما في قصائدِ العمودِ، وليسَ ثَمَّ سطرٌ محدَّدُ البداية والنهايةِ الموسيقيتين كما في قصائد التفعيلةِ التقليدية كذلك، وإنّما سَيّالٌ من تتابُعِ الوحدةِ الموسيقيّة (التفعيلة) لا يُرجَي له وَقفٌ إلاّ وَقفًا اعتباطِيًّا بدرجةٍ ما مع نهايةِ القصيدة .. فإذا أضفنا إلي ذلك أنّ شاعرَنا اختارَ أن تبدأ القصيدةُ كثيرًا مِن منتصَفِ تفعيلةٍ كما في (مجاز): "يَدُ المجازِ علي جبينِ قصيدةٍ عادِيَّةٍ" و(الأوَّل): "لم أقصِد إهانةَ آدمَ البشريِّ ..." و(هناكَ): "تكتملُ النبوءةُ حين ينفجِرُ المكانُ بنا"، كان لدَينا ما يُبَرِّرُ اعتقادَنا بوجودِ قصديّةٍ واعيةٍ أو نزوعٍ لا واعٍ وراءَ إصرارِ الشاعرِ علي بقاءِ النّصِّ مُعلَّقًا هكذا في تيّار الإيقاعِ، لاسِيَّما أنَّ الخلفيّةَ المشهديّةَ لقصائدِ الديوانِ انتمَت في مُجمَلِها إلي اليوميِّ المتكرِّرِ العاديّ .. وهذا يجعلُ نصوصَ الديوانِ منتميةً بشكلٍ ما إلي الملحميةِ، حيثُ تبدأُ القصيدةُ دائمًا (في وسَطِ الأحداثِ) In Medias Res علي مستوي الشكلِ كما أسلَفنا الإيضاحَ، وعلي مستوي المضمونِ كما في (مجاز) حيثُ تبدأُ القصيدةُ بجُملةٍ اسمِيَّةٍ تفترضُ أنَّ هذه بدايةٌ اعتباطِيَّةٌ وأنَّ القصيدةَ ورِثَت الحالَ الراهنةَ من زمنٍ غيرِ مذكورٍ سبَقَها، وكما في (مَقهي الحُرِّيَّة): "نادِلُ المَقهَي يُسَمِّي نفسَهُ القانُونَ" حيثُ الجملةُ الاسميّةُ في المفتتحِ هنا أيضا .. والجُملةُ الاسميّةُ ربما تكونُ هي المُعادِلَ اللُّغَوِيَّ لتقنيّة المشهدِ الجامدِ Freeze في السينما، والتي يُحَبّذُها مخرجونَ كبارٌ من أمثالِ (مارتن سكورسيزي)، حيثُ الدراما متوقفةٌ بما يمنحُنا فرصةً لتأمُّلِ المشهدِ من كلِّ جوانبِه .. كذلك نلمحُ خصيصةً أسلوبيّةً في هذا الديوانِ تعضِّدُ هذه الرؤيةَ، ونقصِدُ بها ما يَظهَرُ في فقراتٍ مثل: "سَكَبَت ملامِحَها علي عَينيَّ حِينَ سألتُها: هل أنتِ مَن سكبَت علي عينَيَّ عندَ البحرِ؟" في قصيدةِ (لن نَمُوتَ) ومثل: "المساءُ مناسِبٌ جِدًّا لنُخبِرَ بَحرَنا أنَّ المساءَ مُناسِبٌ جِدًّا هُنا" .. هنا يبدو ظرفُ الزمانِ عَينَ مَظرُوفِهِ، فحين تسكبُ الحبيبةُ ملامحها علي عينيهِ سيسألُها إن كانت هي من سكبَت ملامحها علي عينيه، وحينَ يكونُ المساءُ مناسبًا سنُخبرُ البحرَ أنّ المساءَ مناسب .. هنا إصرارٌ علي توقُّفِ سيّالِ الحَدَثِ وتجميدٌ للّحظةِ، واستسلامٌ في ذاتِ الآنِ للسيولةِ الملحميّةِ الشاملة .. وما يبدو أنَّ شاعرَنا يُحاولُهُ في ثنايا نصوصِهِ ليسَ (أسطرةَ) الحياةِ العاديّةِ بشكلٍ صريحٍ كما يحلو ل(سكورسيزي) أن يفعلَ ولا كما يحلو ل(رولان بارت) أن يقترحَ، وإنّما هو يَصهَرُ المتعالي والغَيبيَّ والأسطورِيَّ في بُوتَقَةِ الحياةِ اليوميةِ العاديّةِ ليُطلِعَنا علي أصليّةِ ذلك المتعالي في نسيجِ حياتِنا اليومية .. يتجلّي هذا في فقراتٍ مثل: "وهو البسيطُ كنفخةٍ في الصُّورِ عَصرًا، والشهودُ يُتابعونَ بساطةَ التِّترِ النهائيِّ الذي طالَ انتظارُ مَجيئِهِ" وهي فقرةٌ في قصيدةِ (مَجاز) تستدعي أولَ مشاهدِ القيامةِ كما في مأثورِ الدياناتِ الإبراهيميةِ وتمزجُه باليومِيِّ ممثَّلاً في تترِ مسلسلٍ تليفزيونِيّ. كذلك تلك الفقرةُ في قصيدةِ (مقهي الحرّيّة): "ربّما يتساءلون عن الحقيقةِ: هل يسيرُ النملُ جيشًا في طريقِ النصرِ معتمدًا علي التسبيحِ؟"، حيثُ تساؤلٌ متعلِّقٌ بسببٍ من النّصّ القرآنِيّ "وإن مِن شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُم" يأتي في خضمِّ الحديثِ عن تكهُّنِ الشاعرِ بفحوي حديثِ زبائنِ المقهي الأجانب بلغتهم غير المفهومةِ له، وقبلَ فقرةٍ تاليةٍ تهبطُ بمُتعالٍ آخَرَ ينتمي إلي تراثِ النخبةِ العربيةِ المثقفةِ: "هل قصدَ المَعَرِّي أن يُنَصِّبَ عقلَهُ رَبًّا؟" ثُمّ فقرةٍ ثالثةٍ مغرقةٍ في اليوميّ: "وهل قُتِلَت سُعادْ حُسني أم انتحرَتْ" .. ويبلُغُ شاعرُنا ذِروةَ إخلاصِهِ لهذه المحاولةِ في سطرٍ في قصيدتِهِ (فيس بوك): "اللهُ منتظِرٌ هناكَ يُتابِعُ الأحداثَ عن كَثَبٍ هُنا"، حيثُ يأتي هذا السطرُ قُربَ ختامِ قصيدةٍ تحتفي بحالةِ الثورةِ العربيةِ وتتابِعُ يوميَّها الافتراضِيَّ علي فيس بوك .. والشاهِدُ أنَّ المتعالي مجدولٌ في ضفيرةِ الحياةِ اليوميّةِ بما يدفعُ عنها بساطتَها ويُثبِتُ تعقيدَها، أو ربما يردُّها مِن تعقيدِها إلي بساطتِها، فالأمرُ بينَ بين! في القسمِ الثاني من الديوانِ (الذي بينَ الحياةِ والموتِ) يحاولُ الشاعرُ اكتناهَ الخُلودِ، وتقودُهُ شاعريّتُهُ المنتصرةُ لليومِيِّ إلي نماذجَ من الخالِدين الذين نعرفُهُم من خلالِ اختزالِهِم إلي يومِيٍّ عاديٍّ عبرَ آلة الإعلامِ، فهناكَ (مانديلا) متجلِّيًا كمثَلٍ أعلي في قصيدةٍ باسمِهِ، ثُمّ هناك الشهداءُ باختزالِهِم إلي تيمةٍ مكرورةٍ مغروزةٍ في قلبِ حياتِنا العاديّة عبرَ شاشاتِ التلفازِ في قصيدةِ (ش): "ش .. والشمسُ مشنقةُ الشهيدِ وشوقُهُ للمشيِ تشويشًا علي الشاشاتِ والبشرِ المشاهيرِ القُشُورِ الشاردينْ"، وهناك (هِتلر) في قصيدةِ (ضريبة الهلوكوست): "وأنتَ حَيٌّ بالّذي فعلَت يَداكَ، مُخَلَّدٌ في جُرحِ سيّدةٍ تُرَبّي طِفلَها"، ثُمّ يبلُغُ هذا النموذَجُ غايتَهُ في قصيدةِ (الأوَّل) التي تحملُ عنوانَ الديوانِ، حيثُ يتابعُ خلودَ الشيطانِ عبرَ أفاعيلِهِ منذُ لحظةِ خلقِ آدَمَ إلي اللحظةِ الآنِيّةِ، ويُسَرِّبُهُ في تفاصيلِ اليومِيِّ عبرَ آلةِ الإعلامِ كذلك حتي يَبلُغَ هذا النموذجُ أَشُدَّهُ في الفقرة: "والأرضُ بين يَدَيَّ وَحشًا كاسِرًا تُمسي .. فتُصبحُ سِتَّ عَشْرَةَ بُوصَةً" .. الشيطانُ ذلك الخالِدَ - مجدولٌ في تفاصيلِ الحياةِ اليوميّة عبرَ شاشةِ التليفزيون التي بسطَ سلطانَهُ عليها فصارت في قبضته .. في القسم الأخيرِ من الديوان (الموتُ هو مَن هو) نجدُ الخالِدينَ أيضًا، لكنّهم هنا بلا أملٍ، فكأنَّ الخلودَ والموتَ سواء .. نجدُ هذا في قصيدة (بئري مشققة): "كم ساعةً ضيَّعتُ أنتظرُ الصحابةَ والصحابةُ تائهونَ ويبحثون عن الطريقِ ولا طريقَ سِوي التشرُّدْ" .. هنا تصلُ ضفيرةُ اليوميِّ والمتعالي/ الفاني والخالد إلي أجلِها المحتوم، لكنَّهُ يبدو وكأنه ليس نهايةَ الأمرِ حين يختمُ الشاعرُ ديوانَه بقوله: "الحبُّ في هذا الزمانِ وظيفةُ الموتَي، فهل ستموت؟" .. سؤالٌ يُعيدُنا إلي بدايةِ الديوانِ في حركةٍ حلزونيّةٍ، مُحَمَّلين بطاقةٍ من الوعي تفتحُها قصائدُ الديوانِ في مراحله الثلاثِ، لنتأمّل مجدَّدًا نسيجَ أحداثِنا العاديّة، علّنا نُمَيّزُ فيها بصمةً لطيفةً تركَها المتعالي، وألغَزَها ليتبيَّنَ بيننا أولو الأبصار!