الماريونيت العرجاء كان يجلسُ، هو، في مقعدٍ حجري. أخرجَ رواية إنجليزية للبائسِ تشارلز ديكنز وادعي قراءتها. أمام المقعد كانت توجد نافورة كبيرة علي هيئة كيوبيد الصغير الشرير، في تلك الحديقة الدائرية، والتي لها ورود حمراء كثيرة. غريب الأطوار هو، عشريني، ويعاني من بداياتِ بعض الأمراض مثل، الفوبيا، الانطوائية، ونوبات رعب. يريدُ الهروبَ بعيدًا من خلال الذوبان في هذا العالم القذر والقميء. كانت تجلسُ، هي ، عند النافورة بصحبة أختها الصغيرة ريم. كعادتِهما كل يومٍ بدآ يأكلان الأيس كريم الذي اشترياه من العربة الصغيرة الواقفة أمام حضانة ريم. هي فتاة حالمة عمرها سبعة عشر عامًا. تحبُ الأيس كريم، وأختها ريم، واللعب بأرجوحة الحديقة. تتحججُ دومًا باصطحاب ريم من الحضانةِ حتي تشاركها اللهو. تحبُ أيضًا قراءة قصص هاري بوتر، ومتابعة مسلسل مهند ونور. كانت تتعمد الذوبان في الوهمِ حتي لا يغافلها هذا الواقع المخادع. وكنتُ أجلسُ، أنا، عند أرجوحة الحديقةِ. يلهو الأطفال من حولي ويركلون كرة القدم، بينما تطاردُ الطفلات الجميلات الفراشات. أرتدي نظارة سوداء سميكة وأبدو غامضًا بشعري الأسود المنكوش. أمسكُ بدفترٍ أزرق وأدونُ بعض الملاحظات الهامة. أنا كاتب هذه القصة، عمري أربعة وعشرون عامًا. سأصيرُ يومًا أديبًا عظيمًا. أحبُ مراقبة الغرباء في الحدائقِ والتلصص علي أسرارهم الصغيرة، وربط التفاصيل ببعضٍ حتي أنسج بخيوطِها قصة قصيرة. (هذان المذعوران، كانا، بطلي قصتي. والمذعورون والمذعورون..) نهضَ الشابُ البائس من مقعدِه الحجري. أغلقَ الرواية التي لم يقرأها وقررَ التجولَ أخيرًا. شعرتُ بالتفاؤل. مرَ أمام الفتاة الحالمة، لكنها لم تره، وهو أيضًا لم يرها. كانت منشغلة في عالمِها الوهمي، تقرأ بعض أخبار معشوقها مهند وتقصُّ صور هاري بوتر. وكان منشغلا هو في النظرِ للأسفلِ. يتأملُ الطينَ وبعض الحشرات الصغيرة. (هذان المملان هما بطلا قصتي، وهذا السكون) جلسَ الشابُ البائس بجواري علي الأرضِ. أخرجَ الرواية مرة أخري من أجلِ أن يتحاشي نظراتي الوقحة. لم أقصد التطفل بهذا الشكل، كنتُ شاردًا. أبحثُ عن حيلة لدفعِ الحدث إلي الأمامِ.. ثم وجدتها. علي الشابِ أن يجلسَ، الآن، في هذه الأرجوحة. بعد دقيقة واحدة ستنهضُ الفتاة مع أختِها للتأرجحِ، ثم سيجدان هذا الشخص النحيل، فيضطران للاستئذان بأدبٍ ولطف: "من فضلكِ، هلا تترك لنا أرجوحتنا". وهكذا يبدأ الحديثُ بينهما. ستكون صدفة، عبثية، نادرة. ولن يدركَ أحدٌ منهما أن وراءها شخص عابث مثلي وخبيث. (هذا البطل الأحمق، أنا، لا يملكٌ قوة ولا حولا) كنتُ أكتبُ "انهضْ.. انهضْ"، فلا ينهض هذا الشخص الأهمد. وكنتُ أفكر في طريقة تجعلُ هذا الشاب يفعلُ ما أريدُ. كان أمامي خياران، الأول هو أن أعنف هذا الشاب وأجبره علي النهوض من جواري. سأقول: "رائحتك عفنة، انهضْ واجلسْ هناك"، قد يخاف ويجري بعيدًا مذعورًا وقد يقبل، هي مغامرة. وأما الخيار الثاني فهو، أن أخبره، أن هذه الفتاة معجبة بك، أخبرَتْني بهذا من قبل، فيصير الشاب فجأة دمية ماريونيت بين يدي، لكن الخياران قد تبخرا فجأة عندما رأيتُ الشابَ ينهضُ ويبتعد عني. ورأيتُ أيضًا، فيما يري النائم، أن الفتاة الحالمة قادمة نحوي. ولم أعرف ماذا علي أن أفعل، خطتي ستفشل. فجأة وجدتُ نفسي أقفزُ في أرجوحتها، كأن هناك يد عابثة وخفية قد حركتني. (من السهلِ، أن تصيرَ بطلا، أنا.. أنا لا أحبُّ هذا) توقفتِ الفتاة الحالمة أمامي، وتعجبتْ عندما وجدتني أقفزُ في أرجوحتِها، وضحكتْ كثيرًا. قالت لي: "من فضلكِ، هلا تترك لنا أرجوحتنا"، وابتسمت بلطفٍ. نظرت إليها متعجبًا ووجدتني أحركُ فكي، وأقول: "كم من المالِ ستدفعان؟"، مزحة سخيفة، كيف أنطقُ بمثلِها؟ لكنها أضحكتهما. وقالت الفتاة: "أرجوكَ..من أجل ريم". فابتسمتُ وقلتُ: "فقط من أجلِ ريم"، وغمزتُ لها فضحكت الفتاة، ثم تركتُ الأرجوحة لهما ومزقتُ الحبل الذي قد قيدني. جلستُ أسفل الشجرة وأمسكت قلمي، لكن تلك الفتاة اللعينة كانت تراقبني، وتضحكُ لي. (من الصعب أن تكون إلهًا!) هذه مشكلة كبري صنعتُها بغير قصد. ضاعت الخيوط من يدي وحاصرت جسدي. بطلي المسكين يجلسُ هنالك في الركنِ وحيدًا. وبطلتي الجميلة وقعتْ في عشقِ مؤلفها، خالقها. لم أقصد الوصولَ بالحدثِ إلي هذه النقطة. جلستْ علي الأرجوحة في لحظةٍ ارتجال حمقاء. جلستْ فقط كي أخبرها أنها محجوزة لهذا الشاب هناك"، لكنني لم أنطقْ، سكت، خانني صوتي وقلمي. لم أفعلْ ما أريدُ، لم أنطقْ بكلمة "كنْ". فقدتُّ جوهري. صرتُ عاديًّا، محض دمية. ها أنا أسيرُ معها، وأمسكُ بيدها. هي سعيدة، وأنا تعيس. أريدُ استعادة زمام الفعل، الخلق، الزمان، الروح. قبل أن تقتلني حروف النهاية الثلاثة. تلك الكلمة اللعينة "تمت"، أي .. الكرسي الهزاز أجلسُ علي كرسيِّي الخشبي الهزاز؟ أقرأ الرواية التي بين يدي وأشردُ كثيرًا في الشرفةِ المقابلة لبيتي. الشرفة مغلقة دومًا ومظلمة، لكنني أعرفُ أن سلمي تجلس في الظلامِ مثلي، تمسكُ برواية بين يديها وتحاولُ القراءة لكنها تشردُ في النجوم والقمر وتتجنبُ الظلام. تتمني أن تكون محظوظة حتي تري شهبًا فتصلي قائلة: "يا ربنا ارزقنا قصة أو قصيدة نكون أبطالها". أحاولُ بعيني أن أتجاوز ستائر الظلام كي أراها، أقولُ، لماذا لا تكون نائمة ولا تفكر بي؟ وقد تكون نائمة وتحلمُ بي. يأخذُني الحنين إليها فأتركُ نفسي، كعقلةِ الأصبع، للتحليقِ علي جناح ذكرياتي. كانت طفلة مدهشة، لها ضفيرة بنية وعينان لامعتان. مميزة عن كل طفلات الحي، بل والعالم. ينقصُها جناحان فقط حتي تصير ملاكًا، لكنها بالرغمِ من هذا، كانت تتقنُ التحليقَ،ب "الْبِسْكِلِتَّة"، أمام أعيننا. وكنتُ ألعبُ حافيًا ومشردًا مع أطفال الحي. أنتظرُها وهي تخرجُ من "فِلَّتِهَا"، تقودُ بِسْكِلِتَّتَهَا، وتضحكُ حين تنظرُ إلي أصابعي المتسخة. أتوقفُ عن مطاردة الكرة كالأحمق حين أراها، وأطاردها هي. لا أشعرُ بعيني وهي تدمع. من الجميلِ أن تعشقَ طفلة تجعلك تبكي وتنسي لعبة كرة القدم. لا أتذكر أصدقائي ولا أراهم وهم واقفون هنالك "مِتْسَمَّرِينْ"، يدمعون ويراقبونها بالمثلِ. لم يجرؤ أحدٌ من أطفال الحي، الحفاة، علي الحديثِ معها. لكنهم كانوا يتحدثون بالطبعِ كثيرًا في غيابِها. يحكي كل فردٍ منهم عن النظرات السرية التي تجمعُ بينهما، ويقسمُ كل فردٍ أيضًا أنها تذوب في هواهِ مثل "الجيلاتي". يُكذّبُ بعضهم بعضًا فيتشاجرون ويضربون بعضهم البعض. وحدي كنتُ أتجنبُ الحديثَ عنها ومشاجراتها، وأراقبهم من بعيدٍ، لأنني، أحمق مثلهم، كنتُ أيقنُ أنها تعشقني وحدي من دون الجميع. كم من الأعوام مرت وأنا أراقبها؟ وهي تكبر أمام عيني كأنها طفلتي الصغيرة. ضفيرتها تتحررُ يومًا بعد يوم وهي تجري ببسكلتتها بعيدًا، وأنا لازلتُ ألعبُ حافيًا في الشارعِ كرة القدم. رأيتها ذات يوم وهي تسيرُ مع صديقاتها، بزي الإعدادية، وتدخلُ محل أيس كريم. تركتُ "الْمَاتْش " كالمسحور ودخلت المحل وراءها. رأيتُها تطلب ثلاثة أيس كريم، لها ولصديقاتها اللتين بالخارجِ. اتجهتْ نحو البابَ لكن الباب كان مغلقًا في وجهها، فعرفتُ أن الحظ والقدر يقفان في صفي في هذه اللحظةِ. فتحتُ البابَ لها والتقت أعيننا، فنظرت إلي الأرضِ خجلًا وضحكت كثيرًا. لم تقلْ كلمة "ميغسي"، لكنني قرأتها في عينيها، وهي تتلفت في مشيها، تنظرُ إليّ وإلي الأرضِ وتضحك كثيرًا. كيف لم أعترفْ لها بعشقي بعد؟ ربما تذكرتُ أنني كنتُ حافيًا فعرفتُ سر ضحكاتها. وربما كنت أنتظرُ حتي أشتري حذاءً جديدًا. الفقر هو العقدة الوحيدة والحقيقة في القصصِ الواقعية. كنت أراها كأميرة إحدي "الحواديت"، لكنني لا أراني في الحدوتةِ أبدًا؛ كأن المؤلف تعمد تجاهلي، وأعطي الأمير قلبي. لو يتذكرني سيكتبني في الحدوتةِ كحداد فقير أو متسول. ماذا ستكون فائدتي حينها؟ هل تعشقُ الأميرةُ الحداد الفقير؟ قصة مبتذلة وصعبة التصديق. للأمراء الأميرات وللخبيثين الخبيثات. لكنني، أيقنُ أنها تجلسُ مثلي في شرفتِها وتنظرُ شهبًا حتي تبدأ حكايتنا. أستطيعُ أن أري شبحها وهي تحاول اختراق ستائر الظلام مثلي، حتي تري شبحي يراقبها من بعيد. سأحادثها، لابد أن أفعل، في الصباحِ سأحادثها وأخبرها بكل ما في قلبي، سأخبرها أن الحداد الفقير الذي يلعبُ كرة القدم حافيًا ...يحبها. في الصباحِ رأيتها، كان الطقس رائعًا، الشمس مشرقة والسماء صافية والعصافير تزقزقُ في كل مكانٍ. بالأمسِ حلمتُ بها، واليوم أراها ترتدي ذات الملابس التي جاءتني بها في الحلم، وقبلتني، وقالت: "أنتظرك يا صغيري". شعرتُ بالتفاؤل، وعاودني طعم قبلتها الحلوة، لكن هذا الطعم تحول فجأة إلي مرارةٍ، عندما قالت لي بذوقٍ شديد، أو وقاحة بالغة، إنها تحب صديقها في الجامعةِ وأنهما علي وشك الخطبة. ركبت سيارتها وطلبت مني تمني الحظ الجيد لها، قبل أن تنطلق بها وتتركني شبحًا لا يكاد يري في عادم سيارتها. كم من الوقت وقفت معي؟ دقيقة ونصف. يا لبؤس الحداد الفقير! **** أجلسُ علي كرسيِّي الخشبي الهزاز. أقرأ الرواية التي بين يدي وأشرد كثيرًا في الشرفةِ المقابلة لبيتي. الشرفة مغلقة دومًا ومظلمةٌ، لكنني أعرفُ، أن سلمي تجلس في الظلامِ مثلي، تمسكُ برواية بين يديها وتحاولُ القراءة لكنها تشردُ في النجوم والقمر، تتجنبُ الظلامَ. تتمني أن تكون محظوظة فتصلي قائلة: "يا ربنا لا تكسر وزنَ قصيدتي". أحاولُ بعيني أن أتجاوز ستائر الظلام كي أراها. أقول، لماذا لا تكون نائمة ولا تفكر بأحدٍ. وقد تكون نائمة وتحلم بعشيقها. يأخذني الغضب إليها فأتركُ نفسي، كغول عظيم، لمهاجمة قصرها. أتذكرُ أشياء أخري عن طفولتي، تلك الطفلة التي كان تسكن "الفيلّا" المقابلة وتدور حولنا بالبسكلتةِ. ترفضُ بغرورٍ أن تشاركنا ألعابنا مثل "الحجلة" أو "الاستغماية". ترمقنا دومًا بنظراتِ ازدراء كأننا مخلوقون من طين عفن وهي مخلوقة من طين آخر. أتذكرُ لمّا كنا نلعبُ كرة القدم وركلها أحدنا فاصطدمت بها وسقطت أرضًا. جرينا جميعًا إليها للاطمئنان عليها لكنها شتمتنا بشتائم فرنسية عديدة لم نفهمها، وابتعدت عنا وهي تبكي كطفلة مدللة وسخيفة، أتذكرُ كم كانت مغرور ومتكبرة وقبيحة، آه .. أتذكرُ.. أتذكرُ. أتذكرُ كم كنت أكرهها.