كانت الكتب وقصصها الشيء الوحيد الذي شعرت بامكانية تملكه حين كنت طفلة. ومع ذلك لم تكن ملكية بالمعني الحرفي؛ فلقد كان والدي أمين مكتبة. ربما لأنه آمن بالملكية العامة أو ربما لأن والديّ اعتبرا شراء الكتب ما هو إلا تبذير، أو ربما لأن الناس بشكل عام كانوا يكسبون أقل من الآن، لهذه الأسباب لم أملك الكتب. أتذكر شعوري بالشغف، عندما سُمح لي أخيرا بامتلاك كتاب لأول مرة. كنت حينها في الخامسة أو السادسة من عمري. كان كتاب جيب، حوالي أربع بوصات علي هيئة مربع، وكان عنوانه "لن تحتاج أبدا للبحث عن أصدقاء". كان مختبئا بين الحلوي الصغيرة والأوراق اللاصقة الملونة بالمتجر القديم عبر الشارع، بجوار منزلنا القديم في رود ايلاند. كانت حبكته تافهة، عبارة عن بطاقات ترحيب ممتدة أكثر منها قصة. ولكني مازلت أتذكر حماسي عندما اشترته أمي من أجلي وجلبته معها للمنزل. في الغلاف الأمامي، كان هناك خط أسفل الإعلان "هذا الكتاب هدية ل..." لكتابة اسم الشخص المهدي إليه الكتاب. كتبت أمي اسمي عليه، ووقعت في النهاية بكلمة "والدتك"، ليكون إهداء منها إليَّ، رغم أني لا أناديها بوالدتي بل ماما. كانت كلمة "والدة" كأنها نائب لولي أمري. ولا يزال ذاك الكتاب، الذي جاءني منذ ما يقرب من 40 عاما، موجودًا في دولاب الكتب في غرفة طفولتي. لم يكن منزلنا يخلو مما يمكن قراءته، ولكن العروض كانت شحيحة، وكانت غير مهمة. كان هناك كتب عن الصين وروسيا قرأها أبي أثناء دراسته بالعلوم السياسية. بعض أعداد مجلة تايم يقرؤها في أوقات الاسترخاء. أما أمي فكانت تحتفظ بالروايات ومجموعات القصص القصيرة وكومات من مجلة داش الأدبية، باللغة البنغالية، حتي عناوينها كانت عصية. كانت تحتفظ بها علي أرفف معدنية بالدور السفلي، أو بجانب سريرها. أذكر المجلد الأصفر للشاعر نذر الإسلام، والذي بدت أشعاره ككتاب مقدس بالنسبة لها، والقاموس الضخم المهتريء ذو الغلاف الكستنائي الذي تستخدمه في ألعاب الكلمات المتقاطعة. في مرحلة ما، اشترينا المجلدات الأولي القليلة من مجموعة موسوعات كان أحد المتاجر يروج لهم، ولكننا لم نكمل المجموعة أبدا. كان شراؤنا للكتب يتم بشكل عشوائي وغير منظم، كما كان الحال في بعض جوانب حياتنا المادية. وكنت أرغب في النقيض: منزل به كتب ذات حضور قوي، متراكمة فوق كل شئ ومنظمة بمرح فوق الجدران. في بعض الأحيان، كانت جهود أسرتي لملء منزلنا بالكتب محبطة؛ كان هذا عندما بدأ أبي بتركيب القضبان والأقواس لعمل مجموعة من الأرفف الزيتية اللون. وفي غضون أيام قليلة، تهشمت الأرفف لأن جدران المنزل القائمة منذ فترة الاستعمار بالسبعينات، مصنوعة من الجص ولم تستطع تحملها. كل ما كنت أبوح به هو طريق أفضل وأكثر تميزا لحياة والديّ الفكرية، مثل دليل مطبوع وموثق لما يقرؤون، ما يلهمهم ويشكل عقولهم. شئ يمثل اتصالًا بيني وبينهما من خلال الكتب. ولكنهما لم يهتما بالقراءة لي أو حتي بقص القصص. لم يكن أبي يقرأ الأدب، والقصص التي ربما أثارت خيال أمي حين كانت طفلة بكلكتا، لم تورثها لي. تجربتي الأولي في سماع الحكايات جهارا، كانت في المرة الوحيدة التي قابلت فيها جدي لأمي، حينها كنت في الثانية من عمري، خلال زيارتي الأولي للهند. كان مستلقيًا علي فراشه. ضمني إلي صدره وبدأ في اختراع القصص. ما عرفته فيما بعد أننا بقينا ساهرين بمفردنا بعد نوم الجميع، وتوسع هو في الحكايات لأني صممت أنها بلا نهاية. كانت البنغالية لغتي الأولي، كنت أتحدثها وأسمعها بالمنزل. لكن الكتب أثناء طفولتي كانت بالإنجليزية، وكانت موضوعاتها علي الأغلب عن الحياة الإنجليزية أو الأمريكية. كنت واعية بمشاعر الخطيئة، كنت مدركة أني لا أنتمي لهذين العالمين اللذين أقرا عنهما، فحياة أسرتي كانت مختلفة، طعام مائدتنا مختلف، أعيادنا مختلفة. كان والداي حريصين ومرتبكين تجاه الأشياء المختلفة عن مجتمعهما. ولكن عندما كنت أمسك كتابًا بيدي وأقرؤه، أنصهر فيه. أدخل في علاقة صافية مع القصة وشخصياتها. حينها، استقبلت عالم الأدب كما لو كان عالما ماديا، سكنت به بشكل كامل، مغمورة وغير مرئية في آن. كفتاة صغيرة، كنت أخاف من المشاركة في الحياة الاجتماعية. كنت قلقة من تصرف الآخرين معي وأتساءل كيف كانت الكتب وقصصها الشيء الوحيد الذي شعرت بامكانية تملكه حين كنت طفلة. ومع ذلك لم تكن ملكية بالمعني الحرفي؛ فلقد كان والدي أمين مكتبة. ربما لأنه آمن بالملكية العامة أو ربما لأن والديّ اعتبرا شراء الكتب ما هو إلا تبذير، أو ربما لأن الناس بشكل عام كانوا يكسبون أقل من الآن، لهذه الأسباب لم أملك الكتب. أتذكر شعوري بالشغف، عندما سُمح لي أخيرا بامتلاك كتاب لأول مرة. كنت حينها في الخامسة أو السادسة من عمري. كان كتاب جيب، حوالي أربع بوصات علي هيئة مربع، وكان عنوانه "لن تحتاج أبدا للبحث عن أصدقاء". كان مختبئا بين الحلوي الصغيرة والأوراق اللاصقة الملونة بالمتجر القديم عبر الشارع، بجوار منزلنا القديم في رود ايلاند. كانت حبكته تافهة، عبارة عن بطاقات ترحيب ممتدة أكثر منها قصة. ولكني مازلت أتذكر حماسي عندما اشترته أمي من أجلي وجلبته معها للمنزل. في الغلاف الأمامي، كان هناك خط أسفل الإعلان "هذا الكتاب هدية ل..." لكتابة اسم الشخص المهدي إليه الكتاب. كتبت أمي اسمي عليه، ووقعت في النهاية بكلمة "والدتك"، ليكون إهداء منها إليَّ، رغم أني لا أناديها بوالدتي بل ماما. كانت كلمة "والدة" كأنها نائب لولي أمري. ولا يزال ذاك الكتاب، الذي جاءني منذ ما يقرب من 40 عاما، موجودًا في دولاب الكتب في غرفة طفولتي. لم يكن منزلنا يخلو مما يمكن قراءته، ولكن العروض كانت شحيحة، وكانت غير مهمة. كان هناك كتب عن الصين وروسيا قرأها أبي أثناء دراسته بالعلوم السياسية. بعض أعداد مجلة تايم يقرؤها في أوقات الاسترخاء. أما أمي فكانت تحتفظ بالروايات ومجموعات القصص القصيرة وكومات من مجلة داش الأدبية، باللغة البنغالية، حتي عناوينها كانت عصية. كانت تحتفظ بها علي أرفف معدنية بالدور السفلي، أو بجانب سريرها. أذكر المجلد الأصفر للشاعر نذر الإسلام، والذي بدت أشعاره ككتاب مقدس بالنسبة لها، والقاموس الضخم المهتريء ذو الغلاف الكستنائي الذي تستخدمه في ألعاب الكلمات المتقاطعة. في مرحلة ما، اشترينا المجلدات الأولي القليلة من مجموعة موسوعات كان أحد المتاجر يروج لهم، ولكننا لم نكمل المجموعة أبدا. كان شراؤنا للكتب يتم بشكل عشوائي وغير منظم، كما كان الحال في بعض جوانب حياتنا المادية. وكنت أرغب في النقيض: منزل به كتب ذات حضور قوي، متراكمة فوق كل شئ ومنظمة بمرح فوق الجدران. في بعض الأحيان، كانت جهود أسرتي لملء منزلنا بالكتب محبطة؛ كان هذا عندما بدأ أبي بتركيب القضبان والأقواس لعمل مجموعة من الأرفف الزيتية اللون. وفي غضون أيام قليلة، تهشمت الأرفف لأن جدران المنزل القائمة منذ فترة الاستعمار بالسبعينات، مصنوعة من الجص ولم تستطع تحملها. كل ما كنت أبوح به هو طريق أفضل وأكثر تميزا لحياة والديّ الفكرية، مثل دليل مطبوع وموثق لما يقرؤون، ما يلهمهم ويشكل عقولهم. شئ يمثل اتصالًا بيني وبينهما من خلال الكتب. ولكنهما لم يهتما بالقراءة لي أو حتي بقص القصص. لم يكن أبي يقرأ الأدب، والقصص التي ربما أثارت خيال أمي حين كانت طفلة بكلكتا، لم تورثها لي. تجربتي الأولي في سماع الحكايات جهارا، كانت في المرة الوحيدة التي قابلت فيها جدي لأمي، حينها كنت في الثانية من عمري، خلال زيارتي الأولي للهند. كان مستلقيًا علي فراشه. ضمني إلي صدره وبدأ في اختراع القصص. ما عرفته فيما بعد أننا بقينا ساهرين بمفردنا بعد نوم الجميع، وتوسع هو في الحكايات لأني صممت أنها بلا نهاية. كانت البنغالية لغتي الأولي، كنت أتحدثها وأسمعها بالمنزل. لكن الكتب أثناء طفولتي كانت بالإنجليزية، وكانت موضوعاتها علي الأغلب عن الحياة الإنجليزية أو الأمريكية. كنت واعية بمشاعر الخطيئة، كنت مدركة أني لا أنتمي لهذين العالمين اللذين أقرا عنهما، فحياة أسرتي كانت مختلفة، طعام مائدتنا مختلف، أعيادنا مختلفة. كان والداي حريصين ومرتبكين تجاه الأشياء المختلفة عن مجتمعهما. ولكن عندما كنت أمسك كتابًا بيدي وأقرؤه، أنصهر فيه. أدخل في علاقة صافية مع القصة وشخصياتها. حينها، استقبلت عالم الأدب كما لو كان عالما ماديا، سكنت به بشكل كامل، مغمورة وغير مرئية في آن. كفتاة صغيرة، كنت أخاف من المشاركة في الحياة الاجتماعية. كنت قلقة من تصرف الآخرين معي وأتساءل كيف يرونني. لكن عندما قرأت تحررت من القلق. لقد علمت الكثير عن أصدقائي الخياليين، ماذا يأكلون ويرتدون وكيف يتحدثون. عن الدمي المتناثرة بحجراتهم، وكيف يجلسون بجانب المدفأة في الليالي الباردة ليشربوا أكواب الشوكولاتة الساخنة. كما عرفت مواعيد إجازاتهم، ونوع التوت الذي يلتقطونه، ومربي الفاكهة التي تقلبها أمهاتهم فوق الموقد. كان فعل القراءة وسيلة لاكتشاف الغرائز الأساسية، واكتشاف الثقافة التي كانت غريبة لوالديّ. وبدأت في تحديهم بهذه الطريقة، بدأت أفهم، من خلال الكتب، الأشياء التي لا يعرفونها. كل الكتب كنت أشتريها من حسابي الخاص وكانت ملكية تامة لي. هكذا لم أشعر بأني أرتكب خطيئة فحسب، ولكن، بشكل ما شعرت بأني أخون الشخصين اللذين ربياني. كانت الكتابة، حينذاك، وسيلة اتصال، عندما بدأت في تكوين الصداقات. كانت الكتابة في البداية مثل القراءة، محاولة للتواصل مع الآخرين أكثر من كونها سعيا فرديا. لم أكن أكتب بمفردي، ولكن بصحبة تلميذ آخر بنفس صفي الدراسي بالمدرسة. كنا نجلس معا، نحلم بالشخصيات الوهمية والحبكات، ونتبادل الأدوار في كتابة مقاطع من القصة، ونمرر الورق ذهابا وإيابا بيننا. كانت الكتابة باليد هي الشيء الوحيد الذي يفصلنا، الطريقة الوحيدة التي تحدد لمن هذا المقطع. كنت دائما أفضّل الأيام الممطرة أكثر من المشرقة، فيمكننا أن نجلس بالداخل كمخبأ، في الرواق مثلا، ونشحذ تركيزنا. ولكن حتي في الأيام الجميلة، كنت دوما أجد مكانًا ما لأجلس تحت شجرة أو علي حافة صندوق الرمال مع هذا الصديق. في بعض الأحيان أجلس مع عدد آخر من الأصدقاء، لنكمل كتابة قصصنا. كانت تلك القصص تكرارًا صريحًا لما كنت اقرؤه في ذاك الوقت: عائلات تعيش في المراعي، فتيات يتيمات يرسلن إلي مدارس داخلية أو تقوم المربيات القاسيات بتعليمهن، وأطفال يتمتعون بقوي خفية، أو لديهم القدرة علي الانزلاق من خلال الدواليب إلي عوالم بديلة. كانت قراءاتي هي مرآتي، ولم أر أي جوانب أخري من نفسي. قادني حبي للكتابة إلي السرقة في تلك المرحلة المبكرة من العمر. كانت الدفاتر الفارغة في الدولاب الخاص بمعلمي مثل الألماس بمتحف. دفاتر مرصوصة في صفوف أنيقة. خططت وكسرت القواعد للحصول عليها، رغم أنها وزعت علينا لنكتب فيها الجمل أو التمارين الرياضية. كانت تلك الدفاتر قليلة الورق، متشابكة، غير مميزة، وألوانها إما أزرق فاتح أو متمازج بين البني والأصفر. كانت صفحاتها مسطرة، وأبعادها ليست ببالغة الصغر أو الكبر. أردت الحصول عليها لأدون بها قصصي، وشحذت جرأتي لأطلب من معلمي واحدًا أو اثنين. ولكني حين علمت أن دولابه لم يكن دائما مغلقًا أو حتي مراقبًا، بدأت في إعانة نفسي بإمدادات سرية. في الصف الخامس، فزت بجائزة صغيرة عن قصة عنوانها "مغامرات ميزان"، كان الراوي يصف مجموعة مختلفة من الشخصيات والمخلوقات الأخري التي تزور الميزان. وأخيرا يصف مدي ثقل وزن العالم، وتهشم مقياس الرسم، وإلقائه في النفايات. كانت القصة مزودة برسومات، في الحقيقة كانت كل قصصي كذلك، وكنت أجمعها معا بالخيوط البرتقالية. عُرض الكتاب بشكل مختصر في مكتبة المدرسة، وزود ببطاقة فعلية وغلاف. لم يقم أحد باستعارته، ولكن لم يكن هذا مهما. ففعالية البطاقة والغلاف كافيان بالنسبة لي. كانت الجائزة تتضمن تذكرة هدية للمكتبة المحلية، لأشتري كل ما أريد من الكتب، وأزعجتني حيرتي. لساعات، أو كما بدا لي، كنت أتجول بين الأرفف بالمكتبة. وفي النهاية، اخترت كتابًا لم أسمع عنه من قبل، "قصص روتباجا" للشاعر الأمريكي كارل ساندبيرج. أردت أن أحب مجموعته، لكن أسلوب سردها القديم وقف حيال ذلك. فاحتفظت به كتميمة، ربما كاعتراف أولي. كنت أشعر به يتحدث إليَ في صيغة أمر إلزامي مثل الرقعة التي اكتشفتها أليس فوق الكعك والزجاجات تحت الأرض؛ كان الصوت في عقلي يقول: "افعلي هذا". كلما كبرت أثناء مراهقتي وما بعدها، تقلصت كتاباتي. كأنها تناسب عكسي مع سنوات حياتي. رغم أن الالتزام بكتابة القصص قد بقي، لكن أضعفته الشكوك الذاتية. لذلك قضيت النص الثاني من طفولتي أشعر بتسرب المساحة الآمنة التي كنت أعرفها. تحول النشاط الغزيري السابق وهو الكتابة إلي شيء شائك لا أستطيع لمسه. أقنعت نفسي أن الكُتاب المبدعين آخرون، وأنني لست منهم. وانتهي الأمر أن ما أحببته عندما كنت في السابعة، أصبح في السابعة عشرة أكثر ما يرعبني. بدأت أفضل العزف الموسيقي والتمثيل المسرحي، أتعلم النوتة الموسيقية أو أتذكر خطوط مخطوطة ما. استمر العمل بالكتابة، لكني وجهت طاقتي للمقالات، وأردت أن أكون صحفية. في الجامعة، حيث درست الأدب، قررت أن أكون أستاذًا في اللغة الإنجليزية. في الواحدة والعشرين أصبحت الكتابة التي أحتجزها بداخلي قلقة كذبابة بالغرفة، كنت علي قيد الحياة ولكني أشعر بالدونية وأني بلا هدف. كان هناك دائما شيء ما يكدر صفوي، كلما نضجت كلما كنت أكثر وعيا به، وجعلني كل هذا أشعر بالوحدة. لم أكن علي المسرح حتي أقلق من رفض الآخرين لي. كان عدم الاستقرار هو السائد، وكنت علي ثقة بأني رفضت نفسي بالفعل قبل أن يأخذ أي شخص آخر هذه الفرصة. في أوقات كثيرة من حياتي وددت لو أكون شخصًا آخر؛ وهنا المأزق الرئيسي والسبب وراء ركودي الإبداعي أو هكذا أعتقد. كنت دائما لا أُشبع تطلعات الناس حولي: والداي المهاجران، أقاربي الهنود، زملائي الأمريكان، وفوق كل هذا أنا. وأرادت الكاتبة التي بداخلي أن تصحح مساري. لو فقط زاد أو قل شئ من هذا، لاختفت تلك العلامة النجمية التي تصاحبني. لطالما أردت أن تكون نشأتي، تلك التوليفة المختلفة والمعقدة لنصفي الكرة الأرضية، تقليدية وقابلة للاحتواء. أردت أن أكون مجهولة وغير مميزة، حتي أبدو مثل الآخرين، لأسلك مسلكهم. لأتوقع مستقبلًا بديلًا، وأحصل علي انطلاقة من ماض مختلف. كان هذا إغواءً للارتياح من فكرة محو هويتي واعتماد هوية أخري. كيف مكّنني التمني أن أصبح كاتبة، أقول ما يختلج بداخلي، بينما أتطلع لأكون شخصًا آخر غيري؟ لم أكن علي طبيعتي لأكون حاسمة. لقد اعتدت أن أنتظر الآخرين لتوجيهي، ليؤثروا في، وأحيانا لتلقي الإشارات الأساسية للحياة. في رأيي، كتابة القصص من أكثر الأفعال الحاسمة التي يمكن لشخص فعلها. فالأدب فعل التعمد، جهد مدروس لإعادة التخيل، إعادة الترتيب، لإعادة تشكيل اللاشيء من واقع الحياة نفسها. حتي بين أكثر الكُتاب ترددا وريبة، لابد لذلك التعمد أن يظهر. فكونك كاتبًا يعني أن تقفز من فعل الاستماع إلي قول لمن أمامك: "استمع إليَ". كان هذا عندما تلعثمت، كنت أفضل الاستماع أكثر من التحدث، لأري بدلا من أن أكون مرئية. كنت خائفة من سماع نفسي أو من النظر إلي حياتي. افترضت أسرتي أني سأحصل علي شهادة الدكتوراه. لكن بعد تخرجي من الجامعة، والتوقف عن كوني طالبة لأول مرة، وترك الكيان والنظام الذي لطالما عرفته ورائي، انتقلت إلي بوسطن. تلك المدينة التي لا أعرفها جيدا. هناك عشت في حجرة بمنزل به أشخاص لا يربطني بهم شيء، من كان يهتم لأمري هو من يتلقي الإيجار. وجدت عملا بمكتبة، حيث أقوم بفتح الشحنات وأدير السجل النقدي. صادقت فتاة تعمل هناك. كانت ابنة شاعر يُدعي بيل كوربت. وبدأت في التردد علي منزل كوربت، الممتليء بالكتب والفنون. شعر مؤطر للشاعر شيموس هيني، ورسومات للرسام فيليب جاستون، ولوحة لضريح عزرا باوند. ورأيت المكتب حيث يكتب بيل، مغمور بالمخطوطات الكتابية، الخطابات والمطبوعات، في منتصف حجرة المعيشة. رأيت أن العمل الذي يجري علي هذا المكتب كان إلزاميا ولكن ليس لأحد، وليس علي اتصال بمؤسسة ما. كان المكتب كجزيرة، وبيل يعمل بها لصالحه. قضيت فترة الصيف في هذا المنزل، قرأت به أعدادا من مجلة باريس ريفيو. وعندما اختليت بنفسي في الحجرة الساطعة بالدور العلوي، نقرت المخطوطات والمقطوعات علي الآلة الكاتبة. بدأت رغبتي في أن أكون كاتبة. في البداية، بدلت الصفحات مع شخص آخر سرا. كانت لقاءاتنا المجدولة تجبرني علي الجلوس وكتابة شيء ما. كنت أتسلل إلي المكتب حيث أعمل في الإجازات الأسبوعية والليل، لأكتب القصص علي الكمبيوتر، تلك الآلة التي لم تكن بحوزتي في ذلك الوقت. اشتريت نسخة من "سوق الكاتب" وأرسلت قصصي إلي مجلات صغيرة كانت تعيد إرسالها إليّ. في العام التالي، التحقت بالجامعة، ليس ككاتبة ولكن لأدرس الأدب الإنجليزي. لكن وراء هدفي العلمي المعلن غرضا مختلفا. تعودت أن أمر كل يوم علي المكتبة في طريقي للقطار. كانت واجهة المتجر تعرض العشرات من عناوين الكتب التي دائما أقف لأراها. كان بينها كتب ل ليزلي ابستين، الكاتب الذي لم أقرأ له بعد ولكني سمعت اسمه، وهو مدير برنامج الكتابة بجامعة بوسطن. ويوما ما، علي سبيل المزاح، دخلت إلي قسم الكتابة الإبداعية وطلبت الإذن أن أحضر الدرس. كان تهورًا مني، تقريبا ما يعادل سرقة الدفاتر من خزانة معلمي قبل عقدين. فُتح الصف للطلاب الكُتاب فحسب، لذلك لم أنتظر استثناء من ابستين. بعدها عملت بجد لأحصل علي مكان رسمي في برنامج الكتابة الإبداعية بالعام اللاحق. عندما أخبرت والديّ أنه تم قبولي، بمنحة جامعية، لم يدعموني أو يثبطوا عزيمتي. مثل الكثير من جوانب حياتي الأمريكية، ففكرة الحصول علي شهادة في الكتابة الإبداعية، التي يمكن أن تكون طريقًا قانونيا للدراسة، ربما بدت لهما أمرا تافها. ومع ذلك، فإن الشهادة تظل شهادة، لذلك كان رد فعلهما إزاء قراري هو البقاء علي الحياد، رغم أني صححت لأمي، في البداية، عندما أشارت إلي ببرنامج الكتابة النقدية. أما والدي، فخمنت أنه يأمل أن يكون هذا مفيدا لشهادة الدكتوراه. كانت أمي أحيانا تكتب قصائد شعرية. كتبتها في بنجلاديش ونشرتها بين الحين والآخر في المجلات الأدبية بنيو انجلاند أو كلكتا. كانت تبدو فخورة بمجهوداتها، ولكنها لم تدع أبدا أنها شاعرة. وكل من والدها وأخيها الصغير، كانا فنانين تشكيليين، وكانا مشهورين بأعمالهما الإبداعية، كما وصفتهما لي. كانت أمي تتحدث معهما بوقار. حكت لي عن اليوم الذي اضطر فيه والدها إلي حضور امتحانه النهائي بالجامعة الحكومية للفنون بكلكتا، وكان حينها مصابًا بحمي وحرارته مرتفعة. لم يكن قادرا سوي علي إتمام جانب من بورتريه كان مطلوبا منه رسمه بالكامل. رسم الفم والذقن فقط، ولكنه فعل ذلك بحرفية مكنته من التخرج مع مرتبة الشرف. جلبنا ألوانه المائية من الهند، وضعناها في إطار، ونعرضها علي الزوار. مازلت إلي اليوم أحتفظ بإحدي ميدالياته في صندوق مجوهراتي، وأعتبره منذ الطفولة تميمة تجلب لي الحظ السعيد. قبل زيارتنا لكلكتا، كانت أمي تقوم بجولات خاصة لمتجر فني لتشتري فرشًا وورقًا وأقلامًا وبراويز لوحات طلبها أخوها منها. كان جدي وخالي يكسبان رزقهما عن طريق الفن التجاري. كانت لوحاتهما لا تجلب سوي القليل من الأموال. توفي جدي عندما كنت في الخامسة، ولكن لدي ذكريات قوية مع خالي. كان يعمل علي طاولته في الركن في شقته الصغيرة المؤجرة حيث ترعرعت أمي. يعد التصميمات لعملائه الذين يأتون للمنزل ليناقشوا أفكاره. كان يجلس طوال الليل حتي يتم عمله. واستنتجت أن جدي لم يكن ميسور الحال أبدا، كما أن عمل خالي كان كذلك غير مستقر. أن تكون فنانا، بالرغم من أنه أمر نبيل ورومانسي، لم يكن شيئًا عمليًا أو جادًا لتقوم به. الميزان والساحرات والأيتام المهملة: كانوا جميعا مواضيع كتابتي أثناء الطفولة. كطفلة، كنت أكتب حتي أتواصل مع نظرائي. لكن عندما بدأت في كتابة القصص مرة أخري، في العشرينات، كان والداي هما من أناضل كي أصل إليهما. في عام 1992، قبل بدء برنامج الكتابة بجامعة بوسطن مباشرة، ذهبت إلي كلكتا مع عائلتي. عندما عدنا إلي أمريكا بنهاية فصل الصيف، استلقيت في فراشي، وشرعت فورا في كتابة أول قصة وسلمتها في ذلك العام لورشة الكتابة. كانت أحداثها تدور في المبني الذي ولدت به أمي، والذي قضيت به معظم وقتي عندما كنت في الهند. في إمكاني الآن أن أري دوافعي لكتابة هذه القصة، وعدة قصص مشابهة تبعتها، كانت لإثبات شيء ما لوالديّ: أن في إمكاني فهم العالم الذي أتوا منه، بطريقتي الخاصة، وبكلماتي الخاصة المحدودة لكنها الدقيقة. لقد ربياني، وعاشا معي يوما بعد يوم، لكني أدركت أني غريبة بالنسبة لهما، كنت طفلة أمريكية. بالرغم من مدي قربنا، خشيت أن أكون كائنًا فضائيًا. كان هذا قلقًا مسيطرًا علي، عانيت منه أثناء نضجي. كنت الطفلة الأولي لوالدي. وعندما كنت في السابعة، حملت أمي مرة أخري، وأنجبت أختي في نوفمبر 1974 وبعدها بعدة أشهر، أخبرتها صديقة بنغالية من أقرب صديقاتها أنها تنتظر مولودا كذلك. يعمل زوج المرأة، مثل أبي، بالجامعة. وبناء علي توصيات أمي، ذهبت صديقتها إلي نفس الطبيب وخططت للولادة في نفس المستشفي حيث وُلدت اختي. وفي إحدي الليالي الممطرة، تلقي والداي مكالمة من المستشفي. كانت المرأة تبكي علي الجانب الآخر من الهاتف وتخبر أمي أن طفلها ولد ميتا ولا يعرفون سبب ذلك. وأن هذا الأمر حدث ببساطة، كما يحدث أي شيء. أتذكر الأسابيع التالية، كانت أمي تطهو الطعام وتذهب به إلي الزوجين الصديقين، وأتذكر الحزن الذي ملأ منزلهما بدلا من الطفل. إذا كانت الكتابة رد فعل علي الظلم أو البحث عن المعني عندما يغيب، فلقد كانت هذه تجربتي الاستباقية. أتذكر تخيلي أن هذا كان من الممكن حدوثه لوالدي ليس لأصدقائهما، وأتذكر إحساس الخجل لأن هذا لم يحدث لنا أيضا، كانت أختي حينها بلغت العام الأول. ولكن علي الأغلب شعرت بغياب العدل، وإحباط توقعات الزوجين التي لم تتحقق. وانتقلنا لمنزل جديد أشرفنا علي بنائه في حي مختلف. لاحقا، انتقل الزوجان الصديقان لنفس الحي. واستخدما نفس المقاول لبناء منزل مجاور لمنزلنا، وبنيا منزلهما بنفس المواد ونفس التخطيط، لذلك أصبح المنزلان متطابقين تماما. وأشار الأطفال الآخرون بالحي الذين يطوفون الشوارع فوق دراجاتهم وأحذية التزلج، إلي التطابق بين المنزلين ووجدوه أمرا مضحكا. وتساءلوا إذا كان كل الهنود يعيشون في بيوت متطابقة. كنت أشعر بالامتعاض حيالهم، لأنهم لا يعرفون ما أعرفه أنا حول خسارة الزوجين. وفي نفس الوقت شعرت بالحنق تجاه الزوجين، لأنهما بنيا منزلهما بنفس طرازنا، وادعيا أن حيواتنا مماثلة بينما هذا غير صحيح. بعد سنوات قليلة، تم بيع المنزل، وانتقل الزوجان الصديقان لمدينة أخري، وبدلت عائلة أمريكية واجهته، لذلك لم يصر مماثلًا لمنزلنا بعد ذلك الوقت. ونسي أطفال الحي التطابق الهزلي بين منزلي الأسرتين البنغاليتين في روود ايلاند. لكن أرواحنا لم تكن متطابقة. لم أستطع نسيان ذلك أبدا. عندما أصبحت في الثلاثين، كنت متعمقة في التركيبة المفككة لقصة جديدة، كتبت قصة عن أول شئ مأساوي استطعت تذكره وعنونتها ب "أمر مؤقت". ليست قصة ما حدث بالضبط للزوجين، كما أنها ليست ما حدث لي أيضا. لكنها كانت انطلاقة من طفولتي، جزء مني يعود ببطء إلي أكثر ما أحببته عندما كنت صغيرة. كانت هذه أول قصة أكتبها كبالغة. والدي الذي شارف الثمانين، لا يزال يعمل أربعين ساعة بالأسبوع بالجامعة بروود ايلاند. كان دائما يبحث عن الأمان والاستقرار في وظيفته. لم يكن راتبه أبدا ضخمًا، ولكن دعم أسرته التي لم تتطلع لشيء. كطفلة، لم أكن أعي حينها المعني الدقيق ل "التثبيت في العمل"، ولكن عندما ناله أبي استشعرت ما يعنيه ذلك بالنسبة له. خططت لأمشي علي خطاه، وأن أسعي لمهنة تمدني بأمان واستقرار مشابه. لكن في اللحظة الأخيرة ابتعدت خطواتي، لأني أردت أن أصبح كاتبة بدلا من ذلك. كان من الضروري الخطو بعيدا، ما كان أيضا محفوفا بالمخاطر. حتي بعد استلامي جائزة البوليتزر، ذكرني أبي بأن كتابة القصص ليست العمل الذي نعتمد عليه، وأني لابد دائما أن أخطط لكسب عيشي بطريقة أخري مختلفة. سمعته ولكني لم أنصت، لقد تعلمت أن أهيم علي وجهي حتي الحافة ثم أقفز. وهكذا، بالرغم من أن وظيفة الكاتب أن ينظر ويستمع، حتي يصبح كاتبًا، إلا أنني عليَّ أن أكون صماء وعمياء. أري الآن أن والدي بكل تطبيقاته العملية، انجذب نحو حافته الخاصة جدا أيضا. فلقد ترك وطنه وعائلته، وجرد نفسه من طمأنينة الشعور بالانتماء. في رد فعل، لمعظم حياتي، أردت أن أنتمي إلي مكان ما، سواء المكان الذي أتي منه والداي أو أمريكا. وعندما أصبحت كاتبة، أصبحت طاولتي هي وطني؛ ولست في حاجة إلي هوية أخري. فكل قصة هي أرض غريبة، أحتلها أثناء عملية الكتابة ثم أنبذها. أنا أنتمي لعملي، لشخوصي، وحتي أخلق آخرين أترك القدامي ورائي. أحاول بالكتابة أن أجتاز رفض والديّ الذهاب أو الانتماء لأي مكان في قلب كينونتي. أما رفضي الخاص فهو أني ولدت من رحم عجزي عن الانتماء. عن النيويوركر