لم أكد قد تسلقت الشجرة لنهايتها حين كانت أمي تبحث عني في فناء المدرسة. عم جاد الأسود الفارع الذي يقف علي البوابة حتي الآن أكّد لها أني لم أغادر المدرسة، وأن أحدا لم يأت ليعود بي إلي البيت، فلا أبي ولا خالي الذي كان يأتيني أحيانا ممتلئة جيوبه بأصناف الحلوي كلها قد عَبَرا هذه البوابة اليوم. لم تيأس أمي من العثور عليّ حتي بعد أن عادت للبيت لسؤال أبي ولم تجدني، ولذا فإنها عادت مرة أخري، هذه المرة بصحبة أبي، ولكنهما أيضا لم يجداني في أي ركن من أركان الفناء. لم يخطر ببال أحدهما أني قد أكون فوق شجرة طويلة في رحلة هرب مُتخيلة بانتظار رصاصات صديقي بسّام المُتخيلة أيضا كي أسقط علي الأرض قتيلا.. بالطبع ليس قبل أن أكمل كلمات تدرّبنا عليها جيدا تفيد أنني أموت الآن سعيدا لأني عشت حياة حافلة بالمغامرة. كنا أنا وبسّام في حديقة المدرسة نتدرب علي مشهد النهاية بأحد الأفلام التي كنا أنا وهو مغرمين بها، ولأني لم أكن ممن يتعاملون مع اللعب أو الفن باستهتار فقد كنت أصر في كل مرة أن يكون المشهد علي ما يرام متجاهلا كمّ الخربشات والتجلطات التي لوّنت ساقيّ بسبب السقوط المتكرر إثر صرختي المعتادة في بسام: ستوب.. تاني.. المشهد كدا مش حلو! وقتها لم أكن قد أكملت عامي السابع بعد، وكنت أعرف أن رحلة أمي للبحث عني لن تمر بأمان، كانت علقة دائما بانتظاري أو علي الأقل توبيخ مرير كلما خرجت عن المسار المنضبط لطفل مثالي يتلقي تربية جادة وصارمة في بيت من بيوت الطبقة الوسطي، ولكن سُميّة مُربيَتي كانت لتستلقي علي قفاها حقيقة لا مجازا حين تحكي لها أمي هذه الواقعة، فقد كان الخيال الصبياني يُناسب صبيّة جاءوا بها من جنوب مصر للجلوس بطفل يصغرها بأعوام قليلة حتي تعود أمه من العمل.
تربيت طفلا تربيتين، تربية أمي النظامية وتربية سُمية الفوضوية حد الإهمال. اليوم أعرف أنهما أي التربيتين كانتا لازمتيْن لشخص قرّر أو تقرّر له أن يكون كاتبا. ذلك أن أمي بأرستقراطية امرأة شابة تعلمت في مدرسة مصر الجديدة الثانوية وبلغتها الفرنسية المهذبة ما كانت لتنجح في تغذية خيال طفل تعلّم الأبجدية قبل المدرسة، كانت أمي تُبالغ في تربيتي تربية أرستقراطية رغم جذورها وأبي الريفية، بينما كنت أتلقي دروس الخيال في مدرسة سُمية. تربية أمي كادت أن تجعلني أظن أن العالم محصور بأربعة جدران هي جدران بيتنا، بينما دفعتني سُمية إلي معرفة أن ثمة عالما في الخارج يسكنه الفقراء. كانت زيارات سُمية التي كنت أصحبها فيها لكُشك أخيها، أو لعربات الكشري والكبدة ومحلات الفول والطعمية أو لبيوت أصدقائها ومعارفها وأقاربها كفيلة بأن تجعل دفة انحيازاتي نحو الفقراء، اليوم أعرف أن انحيازي للفقراء ليس موقفا أيديولوجيا بقدر ما هو انحياز لناس أعرفهم ويعرفونني، أحببتهم وأحبوني. سُمية التي سألتني جادة منذ فترة عما يساويه مائة ألف جنيه بعد مشاهدتها إعلانا عن مسابقة تليفزيونية كانت تدفعني دفعا دون أن تدري للتعامل مع الفقراء كطبقة بشكل شخصي لا فكري، خصوصا وأني لم أعرف حقيقة موقفها في بيتنا إلا كبيرا، فقد كانت تشاركنا الأكل علي السفرة وتشرب معنا الشاي، بل إنني كثيرا ما شاهدت أمي تصنع لنا جميعا الشاي، فقد كان الأمر بينها وبين سُمية أشبه ما يكون بتوزيع أدوار داخل المنزل ليس إلا. ولكني وقتها كنت في حاجة للكتاب لأعرف وجهتي.
عرفت الكتاب للمرة الأولي في بيت خالي، كان قد ورث بيتا لزوجته الأجنبية في شبرا وللمرة الأولي أري: مكتبة وبيانو. لم أغادر هذا البيت يومها إلا متأبطا كتابا رغم أني لم أكن قد تعلمت القراءة بعد، فضلا عن أن الكتاب كان بلغة أجنبية. اهتمامي بالكتاب كرّر منظر أمي عائدة من عملها بكتاب أو مجلة لدرجة أني ظللت لسنوات أعتقد أن أي كتاب في العالم لابد أنه يحمل صورة فَنار، شعار دار المعارف، ولم أعرف أن هناك من يطبع الكتب غير دار المعارف إلا بعد أن أخذني أبي إلي معرض الكتاب ولم أكن أكملت عامي الثامن وطلب مني اختيار كتاب من بين آلاف الكتب المتراصة علي الأرفف، وهي الرحلة التي فتحت لي أبواب العالم ونوافذه، أبي لم يشأ أن يختار لي، تركني أواجه آلاف الكتب وحدي، ظللت أدور حول نفسي حتي التقطت كتابا أعجبني عنوانه بشدة.. "تحت المصباح الأخضر".. هذا الكتاب بالذات جعلني أعتقد أني خلقت أساسا لأكون كاتبا. اليوم بينما أكتب هذه الشهادة عن طفولتي تحت مصباحي الأخضر أعرف قيمة أن يتركك أبوك تختار لنفسك.. تختار كتابك وطريقك وأفكارك وحياتك وشكل نظارتك وطريقة تصفيف شعرك. أبي لم يفرض علي شيئا طوال حياته عدا أن أحبه بشدة.
انتعش خيالي في فضاءين: حكايات سُمية ودفاتر أبي. سُمية لم تكن تكف عن الكلام، ولم تكن تتوقف عن الحكي، كان يمكنها أن تكون ممثلة كوميدية إذا ما كان الذي يقف أمامها مخرجا سينمائيا وليس طفلا صغيرا بينما تحكي كيف ضربها زوجها بمُلة السرير حين انهارت ضحكاً عليه إثر علقة تلقاها في الشارع بينما كان غائباً عن الإدراك بفعل المخدرات التي كان يتعاطاها، كدت أفقد وعيي يومها من الضحك علي طريقتها في الحكي لدرجة أني احتفظت حتي هذه اللحظة في ذاكرتي بهذا المشهد لتخليصي من نوبات الاكتئاب التي ترد عادة لكاتب يتأرجح بين ذاكرتين. بسبب نوبات الضحك والبكاء التي كانت تنتاب سُمية قررت أن أكون ممثلاً، أعجبني أن أكون مؤثرا إلي هذه الدرجة في أشخاص كسُمية، أن أجعل قلبها ينفطر بكاء وضحكاً أمام شاشة صغيرة حتي ولو كانت بالأبيض والأسود، كنت أجلس معها ساعات كثيرة أمام التليفزيون لا لأشاركها الفرجة علي برامجه ولكن للفرجة عليها