تنطوي رواية "مس إيجيبت" للروائية سهير المصادفة علي عدة مقولات حاكمة، تشكل خطاباً قوياً؛ ينفتح علي الواقع ويسعي إلي التأثير فيه. وتدخل مفردات هذا الخطاب، بمستوياتها التاريخية والاجتماعية والذاتية، في علاقة جدلية مع البنية التحتية والفوقية للحظة الراهنة، حيث يصطدم بمفردات الواقع الفكرية وممارساته الواقعية معاً، وربما بنفس القدر. ويعتبر هذا الخطاب أن ممارسات الواقع ما هي إلا نتاج مباشر للخطابات الأيديولوجية المُهيمنة علي تاريخنا الحديث والمعاصر. ولهذا، لا تكتفي الذات المركزية في النص بمُحاكمة اللحظة الراهنة بمواضعاتها المختلفة، بل تذهب إلي مُحاكمة التاريخ، أو بالأحري لحظات تاريخية بعينها؛ أسهمت فيما ما وصل إليه الحاضر من تشوه علي كافة المستويات. وتتنوع مرتكزات الخطاب والوحدات الدالة علي مقولاته المؤسسة؛ وتتراوح من التصريح المباشر علي لسان الشخصيات في حالات التداعي الحر، أو في سجالات حوارية كاشفة، إلي الإضمار بين طيات السرد، والترميز، والمراوحة بين الحضور والغياب، إلي المُجاروة بين سياقين أو أكثر. ورغم تعدد الشخصيات والعلاقات شديدة الثراء، تلعب شخصية الدكتور عبد الرحمن دوراً محورياً في الكشف عن مفردات الخطاب المطروح في الرواية. فهو طبيب نفسي تعلم في الخارج، شغوف بالموسيقي والفن التشكيلي، ومؤمن بدور الفن في مواجهة القبح. ويمكن اعتباره مُمثلاً للنُخبة المصرية، بوعيه الحاد وقدرته علي التعبير، ونزعته العدمية في بعض الأحيان. ويستند الدكتور عبد الرحمن إلي خبرته العلمية كطبيب نفسي، وعلاقاته بنماذج تنتمي إلي طبقات مختلفة، بداية من ساقطات المجتمع السري إلي أصحاب النفوذ، في فهم للواقع. تتمحور رواية "مس إيجيبت"، حول جريمة قتل "نفرت جاد"، الفتاة الجميلة علي نحو استثنائي لدرجة دفعتها للتقدم إلي مسابقة ملكات جمال مصر. يبدأ أول التجليات الكاشفة عن الخطاب: "المراوحة بين الحضور والغياب" منذ اللحظة الأولي، حيث نكتشف أن غياب "نفرت جاد" شديد الحضور والوطأة. القتيلة الجميلة لا تكشف لنا عن وحشية القاتل فحسب، بل تظهر خلله النفسي الذي دفعه إلي تشويه المناطق الحميمة في جسدها، وبالطبع سيجد القارئ من الدلالات ما يجعله يفسر هذا الفعل الوحشي علي نحو اجتماعي/معرفي؛ لما تحمله ثقافتنا من اختزال لجسد المرأة، وخلل في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل. ويدرك القارئ بعد توغله في سطور الرواية أن جسد القتيلة العاري ينزع ورقة التوت التي تستر عورة المجتمع، ويعكس جسدها المُشوه ما أصاب مجتمعنا من تشوه. وسوف نكتشف مع تطور الأحداث، أن "نفرت" ليس ضحية قاتل فرد قدر ما هي ضحية منظومة فاسدة أصابها العطن إلي حد التحلل. وفي إطار محاولتها لدعم خطابها وتوضيح رؤيتها، تعمد الدكتورة سهير المصادفة، علي امتداد النص، إلي تحويل "نفرت" إلي "رمز" للجمال في المُطلق، وبالتالي تجاور بينه وبين القبح. ويلعب غياب "نفرت" -قوي الحضور- دوراً كبيراً داخل النص؛ إذ يضع تاج العريان في مأزق وجودي. تاج رجل الشرطة الحصيف، والقادر علي استقراء عيون الضحايا، يعجز عن حل لغز الجريمة، ويكشف هذا العجز عما أصابه من عجز تام عن القيام بمهامه الجنسية والوظيفية، مما يدفعه إلي التقدم باستقالته بعد ذلك. ولا تقتصر لعنة مقتل "نفرت" علي تاج العريان، بل تصيب ابنه عارف علي نحو مُختلف، كما تصيب أمها "لوسي"؛ صاحبة الكوافير ومديرة أحد بيوت الدعارة. ولقد حافظت المؤلفة علي النسق السردي وآليات تطوره المنطقي داخل النص، وتمكنت في ذات اللحظة من القيام بعملية رصد شامل لأغلب مفردات حياتنا المُعاصرة، مكنتها من الضرب بقوة في كافة الاتجاهات: انتقاد الأداء الشرطي، وتردي الواقع الثقافي، وعشوائية المعمار، وتداعي مؤسسة الأسرة، وتوريث المناصب والنفوذ، وتجارة الجنس بأنماطها المُتعددة، والعلاقات السرية الرخيصة في مجتمع يتظاهر بالفضيلة. وبينما يتقدم السرد، علي نحو مُتصاعد، للكشف عن مُلابسات الجريمة والبحث عن القاتل. وسرعان ما يتكشف للقارئ وجود مُراوحة بين متن الرواية وهامشها؛ بين البحث البوليسي النمطي، وبين التجول الحُر في عوالم الشخصيات. يبدو متن الرواية أو محورها خطياً، بينما يتخذ الهامش شكل دوائر منفصلة إلي حد ما. وتعتمد الدكتورة سهير المصادفة علي المتن في تحقيق تماسك البنية وتصاعد الإثارة، وعلي رصد التطور النفسي والتاريخ الشخصي لشخصيات الرواية. وتبرز علي نحو استثنائي علاقة اللواء محمد العريان بالحاجة كاملة، وهي علاقة شديدة النقاء والتعقيد. تقيم هذه العلاقة توازناً بين محمد العريان كرمز لحقبة تاريخية، وبين حياته الشخصية، وتكشف عن نزعة إنسانية بداخله. كما تشف هذه العلاقة عن أهم سمات عملية طرح الخطاب وهي الاعتماد علي الجدل بين مكونات متعددة ومتداخلة ومتناقضة، تحاكي الحياة البشرية، علي عكس ما تتسم به كتابات أخري من أحادية الطرح، وتسطيح الخصم الأيديولوجي. يحتفي المتن بالوعي الذاتي والتطور النفس للشخصيات، بينما يكشف الهامش عن وعيها التاريخي والاجتماعي. وتسمح ازدواجية المتن/ الهامش بالتنقل من الوعي الفردي للشخصيات إلي الوعي العام، ومن داخل الشخصية إلي محيطها الضاغط. كما تلعب دوراً بالغ الأهمية في خلق عملية توازن بين النص كقيمة فنية، وبين ما يطرحه من دلالات. لكن الهامش هو الحامل الحقيقي لمقولات الخطاب في الرواية. وبعيداً عن مسار التحقيق في مقتل "نفرت"، نلمح صراعاً قوياً بين الدكتور عبد الرحمن في مواجهة محمد العريان؛ لواء الجيش المتقاعد، وتاجر حديد التسليح، وصاحب إمبراطورية مالية مترامية الأطراف، الذي صار طاعناً في السن وما زال مُتمسكاً بالحياة رغم أن ابنه يراه: "لا هو حي ولا هو ميت" ص20، ويمكن اعتباره ممثلاً للحقبة الناصرية؛ فهو أحد رجال تلك المرحلة. ويتخذ هذا الصراع شكل حوارات حادة عن انحرافات الضباط الأحرار، وأخطاء التجربة الناصرية، وأثرها علي اللحظة الراهنة: "احتقر أبوه زملاءه الضباط المتقاعدين الذين خرجوا من كلِّ فجاج الجيش والبوليس واحتلوا كل محافظات جمهورية مصر العربية كمحافظين وركبوا بعض وزارات الدولة وهيئة الرقابة علي أقلام المبدعين وعلي حناجر المطربين وآلات الموسيقيين ربما لكي يضبطوا الإيقاع وعلي مسارح العرائس وغير العرائس والمياه والكهرباء وطردوا الكُتَّاب والصحفيين من جرائدهم..." ص 87. يهرب محمد العريان من المواجهة الكلامية وينسحب إلي مرضه، ويستعين بابنه لواء الشرطة: "ويهمس بصوته [محمد العريان] المشروخ: اقبض عليه يا تاج، دا عدو الثورة.. قال لي بالحرف الواحد: باشاوات العهد البائد كانوا يشيدون المدارس ويؤسسون الملاجئ للأيتام ويبنون المبرات ويرعون الفنون الراقية ويتبرعون للمرضي، ويفتحون الجامعات، أما أنتم فماذا فعلتم يا باشا سوي نكاح الراقصات وتسجيل أعضائكم التناسلية علي السيديهات؟ خلاص يا تاج أنا هاموت.. صاحبك أبو مناخير قتلني". تكشف هذه المُساجلة المُمتدة في أكثر من موضع في الرواية عن أحد المقولات الحاكمة لخطاب الدكتورة سهير المصادفة: سطوة الماضي علي الحاضر، وأثره في مُحاصرة الجمال بالقبح. ما حدث في الماضي لا ينتهي مع الزمن، بل يبقي أثره حاضراً، وتظل سطوته قائمة إن لم يجد ما يواجهها. وتظهر هذه المقولة بقوة مرة أخري علي لسان الدكتور عبد الرحمن أيضاً، حين يصيح مُنفعلاً: "يعني القرن السابع مثلاً أو الخامس عشر مثلاً مافيهومش إرهاب ديني. بلاش دول. شاور علي أي قرن تحبه وأنا أقول لك كان فين الإرهاب الديني فيه." ص وتقودنا هذه الصرخة إلي مقولة أخري من مقولات الخطاب الروائي، حيث تتناول الدكتورة سهير المصادفة الخطاب الديني المتطرف بطريقة مُتمايزة عن السائد والمألوف، فهي تري التطرف والإرهاب الراهن مجرد حلقة في سلسلة طويلة وممتدة عبر التاريخ.. فالخطاب الديني بصيغته المتطرفة لم يتشكل هنا والآن، بل صاغته عقول ضالة في ماضٍ مُظلم لتواجه به أوضاعاً مختلفة. لذلك لا يقتصر هجوم المؤلفة علي هذا الخطاب، بل يمتد ليشمل الظروف الراهنة التي أعادت إنتاجه، أو استدعته من الماضي السحيق. وتتصاعد أزمة الخطاب الروائي مع الماضي كلما تقدم السرد، حتي تصل الأحداث إلي لحظة ذروة يتواجه فيها أستاذ علم الاجتماع والمفكر سيد الجيزاوي، مع علوي حافظ الشاب المتطرف الذي تسلل إلي غرفة نومه ليقتله بسبب مواقفه الفكرية. لا يرتجف الجيزاوي أمام سلاح حافظ، ولا يتعاطف مع قاتله؛ بل يعبر عن قدر كبير من الاحتقار للسلاح ولعقلية حامله. "رفع الدكتور سيد الجيزاوي رأسه عن الوسادة وبصرامة وصوت حاذر ألا يعلو جزَّ علي أسنانه: - أمثالك يغضبونني. أنت وإخوانك. هذا القطيع الجاهل يغضبني. وغطت وجهه تعابير الازدراء وهو يهمس بنفاد صبر: - إنهِ ما جئت من أجله.. تعلم جيدًا أنني لا أحب هذه الحياة وأمثالك فيها."ص 174. ولا تري المؤلفة الماضي باعتباره كتلة واحدة، بل تحتفي بلحظات تاريخية بعينها، وتظهر حنيناً إلي ما يمكن وصفه بالماضي الذهبي. وهنا تظهر تقنية المُجاروة لتعبر ببراعة عن الكثير من التناقضات بين زمنين: "ماذا نفعل الآن يا باشا ونحن لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا طه حسين واحد، لدينا مئات الوعاظ يتربعون في الفضائيات وليس لدينا محمد عبده واحد، لدينا عشرات المطربات وليس لدينا أم كلثوم واحدة، لدينا ملايين الدارسين بالمجان ومتعلمون أقل، لدينا وسائل راحة كثيرة ووقت أقل مما يجعلنا لا نلحق بأي شيء، لدينا فاترينات بها ما لا نستطيع إحصاءه ولا شيء في مخازن مصانعنا الخاوية علي عروشها، لدينا نِكات كثيرة وضحك أقل، لدينا أحزاب كثيرة ووجهات نظر أضيق، لدينا كتابة كثيرة وكتب أقل..." ص 164. تدعم المؤلفة طرحها الفكري وتقدم الأدلة علي مقولات خطابها بطريقة فنية غير مباشرة، عبر عمليات استقطاب وإزاحة تتناثر في ثنايا السرد. ففي هذا السياق، لا يمكن تغافل اسم البطلة: "نفرت" وإشارته إلي الماضي الفرعوني، بل وإيحائه بانتماء جمال ذلك الجسد وتلك الروح إلي الماضي الذهبي. هذا إلي جانب إشارات قليلة ولكنها قوية، تعقد مقارنة بين الواقع القاحل، وبين المنجز الفني والحضاري الذي قام به الأجداد؛ مثل تلك العبارة المدوية التي صرخ بها عبد الرحمن وهو يمر بميدان الجيزة: "لم ينحت فيه فنان تمثالاً بديعًا يجعل الناس تخجل من أسمالها وقذارتها" ص96. تصنع هذه العبارة مفارقة قوية، تجعلنا نستدعي آلاف التماثيل الفرعونية المتناثرة في ربوع البلاد. وقد تقودنا تلك المفارقة إلي طرح سؤال حول دور الفن في مواجهة القبح، وقدرته علي تغيير الحياة. يتوجه الدكتور عبد الرحمن بالحديث إلي عارف تاج؛ المخرج السينمائي قائلاً: "لكن انت المفروض فنان وعينك مفروض تشوف اللي ماحدش قادر يشوفه." ص 133. تحمل هذه الجملة العابرة في فضاء النص أكثر مقولات الخطاب أهمية، لأنها المقولة الوحيدة التي تشير إلي الأمام وتحمل في طياتها رؤية مُستقبلية. وإذا أخذنا السياق مُجملاً بعين الاعتبار، وسعينا إلي الكشف عما يُضمره النص، يمكن تفكيك هذه العبارة علي النحو التالي: إذا كان القبح هو سيد المشهد والمُسيطر علي الواقع، يُصبح استحضار الجمال ضرورة، وبالتالي يجب أن يكون الفنان في الطليعة الساعية لتغيير الواقع. إنها تلمح إلي قدرة الفن علي الرؤية والكشف والإدراك، ومن ثم تضع علي كاهله أعباء التغيير. ما زال النص قابلاً لتأويلات ومُقاربات عديدة، إلا أن هذه القراءة تراه نصاً مفتوحاً علي العالم وطامحاً إلي تغيير الواقع، وتري أنه يتبني خطاباً مُتماسكاً -يتسم برؤية واضحة- ويصطدم، وبكل قوة، بالخطابات الأيديولوجية السائدة علي الساحة، ويهاجم سطوة المؤسسات القمعية، وقبح الممارسات المجتمعية بسخرية تصل إلي حد القسوة، ويري ضرورة "فلترة" التاريخ، ويعتمد علي الفن كرأس حربة للخروج من المأزق التاريخي الذي نشهده في اللحظة الراهنة. 168.