بحسب طه حسين في مقدمة كتابه "قادة الفكر" فإن مجلة الهلال قد أرادت أن يَكتب لها، فاقترح عليها كتابة فصول عن قيادة الفكر منذ فجر البشرية، وكيف انتقلت قيادة الفكر من الشعر (هوميروس) للفلسفة (فلاسفة اليونان) للسياسة (الإسكندر ثم يوليوس قيصر) للدين (الدين المسيحي بخاصة). قيادة الفكر نفسها واحدة من مهام المشروع الشخصي والوطني لطه حسين، ولجيله. في المقدمة يحدد طه منهجه في التعرض لقادة الفكر، فهو ليس كتاب تراجم بالمعني المعروف، فيقول "هذه الآداب والآراء علي اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية: أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر منها أثرا من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها". ومع هذا فإنه يتخذ منهجا وسطا بين التقدير المبالغ فيه للفاعلية الفردية وبين الإفراط في تقدير العوامل الاجتماعية. يقول "إنما السبيل أن تقدّر الجماعة وأن يقدّر الفرد، وأن تجتهد ما استطعت في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب والآراء الفلسفية والنظم الاجتماعية والسياسية المختلفة". إن استعرنا هذا المنهج بينما نلج سيرته الذاتية "الأيام" يمكننا فهم حالة طه حسين وحالة جيله ليس فحسب باعتبارها علامة علي نبوغ صاحبها وتحديه لعجزه وتمرده الفطري علي السائد من الآراء (وهو تمرد دفعه للانتقال من الأزهر للجامعة، والانتقال من مظهر الشيخ المعمم لمظهر الأفندي المطربش) ولكن أيضا باعتبار أن "الجماعة" وقتها كانت مهيئة لقبول مثل هذا التمرد ومثل هذا الانتقال. في سن الثالثة عشر التحق الصبي طه حسين ابن قرية فقيرة بالمنيا بالأزهر في الوقت الذي كان الإمام محمد عبده يقوم بتطوير مناهجه بإضافة تدريس الأدب والتاريخ والجغرافيا. يُفتن الصبي بدروس الأدب علي يد المجدد الشيخ المرصفي تلميذ الإمام الذي كان يُدرّس كتاب الكامل للمبرد المعتزلي. ينصرف الصبي عن دراسة الفقه بطرق تدريسه العقيمة ويتفرغ لدروس الأدب. بعد ثلاث سنوات تفتح الجامعة الأهلية أبوابها فيلتحق بها طه حسين لدراسة الآداب ثم يحصل علي الدكتوراة منها، وذلك بعد أن ساعده لطفي السيد علي اكتشاف نفسه ككاتب فيترك له مساحة للكتابة في مجلة يُشرف علي تحريرها. ثم يقرر الشيخ عبد العزيز جاويش ضرورة إلحاق الفتي ببعثة إلي فرنسا تدشينا لنبوءة لطفي السيد بأن طه حسين سوف يكون "فولتير مصر". ثم تمر السنوات ليجد طه نفسه علي مقعد وزير المعارف فيقرر أن التعليم كالماء والهواء. هذه ليست واحدة من المصادفات السعيدة، ولا من تدبيرات القدر، لكنها واحدة من تفاعلات النفوس الكبيرة مع الأزمنة الكبيرة. أقول ذلك لأن المشروع الثقافي لا يمكن أن يُنجز كمشروع فردي، حتي ولو كان في أساسه مشروعا فرديا. المشروع الثقافي يُنجز فحسب حين يضطلع كل مثقف كل في مكانه بمسئوليته كمثقف، كما فعل طه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده وقاسم أمين وأحمد أمين وحسين هيكل ومصطفي مشرفة وغيرهم من قادة الفكر. ولأن كل مثقف يكتفي بالولولة بهستيريا مع كل تصريح أو عبارة تصدر من هنا أو هناك يُشتمّ فيها رائحة أصولية، مثله مثل أي أصولي كسول يمضي عمره في انتظار تدخل إلهي يخلصه من الكفار أو علي الأقل يمنحه سلطة عليهم. ولأن كل مثقف لا يبادر بالهجوم لا يعوّل عليه. ثم يقرر الشيخ عبد العزيز جاويش ضرورة إلحاق الفتي ببعثة إلي فرنسا تدشينا لنبوءة لطفي السيد بأن طه حسين سوف يكون "فولتير مصر