في كتابه » لعبة الكبار، مذكرات وخواطر دبلوماسي« حاول محمد شعبان، السفير السابق، اتباع قاعدة يعرفها الدبلوماسيون جيداً:» فن الدبلوماسية هو ألا تقول شيئاً، خاصة عندما تتكلم«. لكن أصالة الفكرة التي من أجلها كتب مخطوطه كانت تتفوق من آن لآخر، كاشفةً عورة ربما احتاج إلي إيمان خاص ليعريها أمام قارئه، مصطحباً إياه في رحلة شائكة إلي كواليس العمل السياسي، وبالتحديد وزارة الخارجية، التي يعد الكتابة عنها تابوهاً متفرعاً من تابوه السياسة الشاهق. هناك، في هذا العالم الأنيق، عالم الإتيكيت، حيث الابتسامة يجب أن تُرسم وجسور المحبة يجب أن تمتد، حتي في أحلك الأوقات، تختبيء أورام يجب أن تظل دوماً تحت الجلد، وفي حالة انتشارها يكون قطع العضو أهون بكثير من علاجه الذي يؤدي لفضيحة يمكن تجنبها علي الدوام. يبدو الكتاب، الذي يتضمن 29 فصلاً معنوناً، يبدأ في أغلب الأحيان بحكمة، كما لو أنه سيرة ذاتية يبدؤها الكاتب بميلاده وظروف عائلته، وتفوقه الدراسي، وانتقاله من مرحلة إلي أخري، وبداية عمله في مجال الإعلام والتدريس وطموحه في أن يصل لأعلي الدرجات العلمية، والتحاقه بالسلك الدبلوماسي وما تبع ذلك من عمله كسفير لمصر في العديد من الدول. ورغم أن المؤلف ينفي هذا " هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية متكاملة بالمعني المفهوم" إلا أن الفخ كان جلياً من الصفحة الأولي للكتاب، الذي كتب في أول سطر فيه :"تعلمتُ من والدي ألا أرمي أية ورقة أو مستند أو إيصال مهما اعتقدتُ بعدم أهميته". ولأن ما تعلمه ظل محفوراً في ذاكرته، جاء الكتاب غنياً بالصور والوثائق والمراسلات بداية من نتائجه الدراسية ومروراً بخبر نجاحه في اختبار الاذاعة المنشور بجريدة الأخبار وصورة خطاب أسامة الباز للسفير نجيب قدري..الخ. لكن هذا الجزء، علي أهميته، لا يمثل الجزء الأكبر في كتاب وصلت عدد صفحاته إلي 330 صفحة؛ بينما الجزء الأهم حقيقة هي التفاصيل التي يسردها بالداخل والمتعلقة في الأساس بالعمل الدبلوماسي، والأحداث التي يجري فيها ذكر أبطالها بأسمائهم، والمواقف التي تعرض لها والتي تعكس بالضرورة جزءً من عورة الخارجية، كل ذلك دون أن ينسي دبلوماسيته. ولعل الفصل السابع والمعنون ب »لعبة الكبار« أحد أهم فصول هذا الكتاب. يروي فيه حادثة مرور الدكتور عاطف صدقي( المستشار الثقافي المصري بباريس آنذاك) بمكتب السفير نجيب قدري "فوجد الأستاذ هيكل في مكتب السفير ودار حديث حول مشكلة الشرق الأوسط أعرب خلاله السفير نجيب قدري عن رأي شخصي مفاده أن اتفاقية فض الاشتباك(1975) بين مصر وإسرائيل هزيمة لمصر". ويواصل المؤلف :"وقيل إن عاطف صدقي أرسل إلي الدكتور أحمد كمال أبو المجد أمين اللجنة المركزية آنذاك رسالة يبلغه فيها بما ذكره السفير نجيب قدري عن اتفاقية فض الاشتباك". يوجّه الكاتب كتابه إلي القاريء المصري والعربي( كما يذكر في مقدمته)، ولم يقصد الجمال بقدر ما قصد الحقيقة، لذلك لا يجب استقباله باعتباره كتاب سيرة ذاتية ممتليء بحكايات ساحرة. ولأن الواقع كذلك، فقد استخدم الطريقة المباشرة في الوعظ، والأسلوب الأقرب للبساطة، وابتعد تماماً عن التعقيدات المتعلقة بشغل السفارات وصناعة قرار السياسة الخارجية، وركّز اهتمامه في الحكايات التي شاهدها بنفسه ومواقفه مع أشخاص لهم ثقلهم السياسي مثل الرئيس السادات والرئيس مبارك والسيد عمرو موسي وأحمد أبو الغيط ومصطفي الفقي وأسامة الباز، وغيرها من الأسماء. علي أن الفصل التاسع عشر، الذي عنونه" الوزير وأنا"، كان أكثر الفصول انتقاداً لسياسة عمرو موسي كوزير للخارجية، وفيه أورد حديثاً دار بينهما كانت عاقبته أن أصيب المؤلف بجلطة في المخ :"ولم يكن أحد يعلم ما دار بيني وبين الوزير من حديث، وما عانيته من ضغط نفسي كاد يودي بحياتي". يختتم السفير الأسبق محمد شعبان كتابه بالحديث عن الدبلوماسية المصرية، ليس بمنطق الحكم علي نشاطها ولكن من واقع عمله بهذه المؤسسة لسنوات طوال ربما قاربت الأربعين. هكذا سجّل كيف تحولتْ الخارجية من وزارة أرستقراطية في ظل الحكم الملكي غاب خلالها الربط بين دور البعثات الدبلوماسية المصرية بالخارج إلي وزارة لا تهتم فقط بمجرد الدور الدبلوماسي والقضايا السياسية بل امتد نشاطها لتصبح مؤسسة شاملة المهام تؤدي أدواراً مختلفة في مجالات متعددة، فساندت حركات التحرر الوطني في الوطن العربي وإفريقيا، وقامتْ بدور ريادي في إنشاء تجمعات سياسية وإقتصادية للدفاع عن قضايا العالم الثالث مثل حركة عدم الإنحياز ومؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية ومجموعة ال 77 للدفاع عن المصالح الإقتصادية للدول النامية في المحافل متعددة الأطراف.وبعد نكسة 67 تحولت أهداف وزارة الخارجية إلي خدمة الأهداف الإقتصادية والتنموية لمصر لازالة آثار العدوان واستعادة الأرض المحتلة. وكانت خاتمة الكتاب بذلك، دبلوماسية.