«زارت معالم مصر التاريخية».. التفاصيل الكاملة لزيارة زوجة سلطان عُمان للقاهرة    مانشستر سيتي يضرب فولهام برباعية ويحتل قمة الدوري الإنجليزي    صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش بالصحف القومية    الأوراق المطلوبة للتصالح على مخالفات البناء في المدن الجديدة    محافظ القليوبية يناقش تنفيذ عدد من المشروعات البيئة بأبي زعبل والعكرشة بالخانكة    حصاد 4 آلاف فدان من محصول الكمون في الوادى الجديد    «المصريين الأحرار» يتدخل لحل مشكلة الكهرباء بمزرعة «القومي للبحوث» بالبحيرة    مهند العكلوك: مشروع قرار لدعم خطة الحكومة الفلسطينية للاستجابة لتداعيات العدوان الإسرائيلي    حماس تعلن وفاة أسير إسرائيلي لديها    وزير الأوقاف: دراسة علم الآثار من فروض الكفاية (صور)    ميتروفيتش يقود هجوم الهلال أمام الحزم    إحالة أوراق طالب هتك عرض طفلة للمفتي    بحوزته 18 بندقية.. سقوط تاجر سلاح في قبضة الأمن بقنا    تأجيل محاكمة 35 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها في المقطم ل10 يونيو المقبل    اليوم العالمى للمتاحف.. متحف إيمحتب يُطلق الملتقي العلمي والثقافي "تجارب ملهمة"    لمدة أسبوعين.. قصور الثقافة تقدم 14 مسرحية بالمجان بالإسماعيلية وبورسعيد وشرم الشيخ    إيمي سمير غانم ل يسرا اللوزي بعد رحيل والدتها: "هنقعد معاهم في الجنة"    وزير الأوقاف يحظر تصوير الجنائز بالمساجد مراعاة لحرمة الموتى    عمرو الورداني للأزواج: "قول كلام حلو لزوجتك زى اللى بتقوله برة"    رئيس صحة الشيوخ في يوم الطبيب: الدولة أعطت اهتماما كبيرا للأطباء الفترة الأخيرة    وزير الصحة الأسبق: تاريخ مصر لم ينس تضحيات الأطباء    استعدوا لنوم عميق.. موعد إجازة وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    إلغاء جميع قرارات تعيين مساعدين لرئيس حزب الوفد    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    المالية: الدولة تحشد كل قدراتها لتمكين القطاع الخاص من قيادة قاطرة النمو الاقتصادي    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    جامعة القاهرة تستضيف وزير الأوقاف لمناقشة رسالة ماجستير حول دور الوقف في القدس    قروض للشباب والموظفين وأصحاب المعاشات بدون فوائد.. اعرف التفاصيل    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    المشاركة ضرورية.. النني يحلم بتجنب سيناريو صلاح مع تشيلسي للتتويج بالبريميرليج    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    مباشر مباراة المنصورة وسبورتنج لحسم الترقي إلى الدوري الممتاز    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    القاهرة الإخبارية: أنباء عن مطالبة الاحتلال للفلسطينيين بإخلاء مخيمات رفح والشابورة والجنينة    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    مصرع مهندس في حادث تصادم مروع على كورنيش النيل ببني سويف    تفاصيل زيارة وفد صحة الشيوخ لمستشفيات الأقصر    «الصحة»: نتعاون مع معهد جوستاف روسي الفرنسي لإحداث ثورة في علاج السرطان    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 11-5-2024    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    الشيبي يهدد لجنة الانضباط: هضرب الشحات قلمين الماتش الجاي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السفير رفعت الأنصاري يروي حكاياته في تل أبيب
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 01 - 2015


حديث عن الآثار مع موشي دايان
‎أقام السفير سعد مرتضي حفل استقبال في دار السكن، ورغم أنني أذكر أن ذلك كان في الثالث من سبتمبر، إلا أنني لا أذكر المناسبة التي من أجلها أقيم هذا الحفل، والذي حضره عدد من المسئولين الإسرائيليين، وعلي رأسهم إيرييل شارون، وموشي دايان، وزوجته راحيل، وياكوف أتيار مدير المراسم، ود. إيلي روبنشتين المستشار القانوني لوزارة الخارجية، كما شارك في الحفل سام لويس السفير الأمريكي، وزوجته السيدة سالي، التي ترأست جمعية «آل سام» لمكافحة انتشار المخدرات في المجتمع الإسرائيلي، وستانفورد سفير كندا، وموبرلي سفير المملكة المتحدة، ومارك بونغرس سفير فرنسا، وعدد كبير من الشخصيات المعروفة، وجلس دايان بصحبة زوجته وكان لديَّ فضول التحدث معه، وكنت أعلم أن أهم الموضوعات المثيرة بالنسبة له هي الآثار القديمة والتنقيب عنها، فتوجهت إليه وقدمت نفسي، ثم بدأت الحديث عن أحد أقاربي الذي عاد العام الماضي من المملكة المتحدة، وهو عالم آثار، وكان يعمل لصالح جامعة أوكسفورد في حل شفرة اللغة «الهيروغليفية» علي بعض القطع الأثرية، وبالفعل نجحت في جذب انتباهه وبدأ يتحدث معي بشأن منزله في منطقة «تاهالا»، مشيرًا إلي أنه يقتني عددًا كبيرًا من التحف والآثار القديمة، وأنه ينقب بنفسه مع علماء الآثار، موضحًا أن له نظرياته الخاصة في التنقيب، ولذا فإنه يعمل وحده في مواقع غير معروفة للتنقيب عن الآثار، وهنا قلت له إنني سأحدثه بصراحة، وذكرت له ما يتردد عن امتلاكه لآثار فرعونية عثر عليها في سيناء خلال الفترة من 1967 إلي 1973، فنفي ذلك بشكلٍ قاطعٍ، ولكنني تأكدت بعد ذلك من أنه كان يكذب؛ إذ توفي بعد هذا الحديث بشهر ونصف الشهر تقريبًا، وبعد وفاته باعت زوجته وابنته مجموعة من التحف والآثار التي كان يمتلكها إلي أحد المتاحف، وكان من بين المبيعات تابوت لمومياء فرعونية.
‎وفي هذا الحفل سألته عن الخريطة التي يُقال إنها موجودة في الكنيست، والتي توضح حدود إسرائيل من النيل إلي الفرات، التي يُطلق عليها اسم «إسرائيل الكبري»، فقال إنه سيدعوني إلي الكنيست حتي أتأكد بنفسي من عدم وجودها لأنها مجرد «إشاعة»، ولم يكن دايان كاذبًا هذه المرة؛ إذ أخبرني السفير سعد مرتضي فيما بعد - أنه ذهب بالفعل وتجول في قاعات وممرات ومعظم غرف الكنيست ولم يعثر علي خريطة إسرائيل الكبري، التي يُشاع تواجدها علي جدران الكنيست.
‎وبعد أن ألقي السفير كلمة قصيرة للترحيب بالضيوف، حضر إلي مائدة موشي دايان، وتحدث معه مستعيدًا ذكريات إنشاء السفارة المصرية في تل أبيب، قائلًا إنه عندما بدأ العمل لم يكن هناك مقر للسفارة، واستأجرت الخارجية المصرية الطابق الثاني عشر في فندق «هيلتون» لعمل وإقامة جميع أعضاء السفارة، حتي تم استئجار مقر السفارة في شارع «ابن جيفرول»، ثم سأله عما إذا كان زار السفارة المصرية، وعندما رد عليه دايان بالنفي، دعاه لزيارتها في أقرب فرصة.

‎في السابع من سبتمبر، دعاني السفير للحضور معه في حفل افتتاح «دورة المكابيا للألعاب الأوليمبية»، وعندما بدا عليَّ عدم الفهم، أوضح السفير قائلًا إنها دورة أوليمبية تقام مرة كل أربع سنوات علي غرار الدورات الأوليمبية المعروفة - وهي مخصصة للآلاف من الرياضيين اليهود في جميع أنحاء العالم، وقد بدأت منذ عام 1932، وتُعد واحدة من سبع مسابقات دولية تحظي باعتراف اللجنة الأوليمبية، وحضرت مع السفير حفل الافتتاح، وكانت بالفعل أوليمبياد مصغرة، حيث سارت جميع الوفود من اللاعبين اليهود من الدول المشاركة تحمل الأعلام، وقد حظي الوفد الإسرائيلي كما هو متوقع بتشجيع مبالغ فيه، وبعد الافتتاح حضرنا حفل الاستقبال الذي أقامته اللجنة المنظمة بحضور السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي، والتقيت أحد أعضاء الكنيست، وكان يقف مع عضو من الكونجرس الأمريكي، وقدمني السفير سعد مرتضي إليهما باعتباري العضو الأحدث بالسفارة المصرية، وتحدث كلاهما عن الرئيس السادات، وفوجئت بالسيناتور الأمريكي يروي قصة زيارته إلي مصر ولقائه مع الرئيس السادات، وكيف علم الرئيس من مصادره الخاصة أن زوجة السيناتور تعشق تورتة الآيس كريم، فقام بإرسال واحدة إلي زوجته في الفندق الذي أقاما فيه بالقاهرة، ثم في أثناء زيارة الرئيس السادات للولايات المتحدة الأمريكية، وعند لقائه هذا السيناتور مرة أخري، سأله الرئيس السادات عما إذا كانت زوجته ما زالت تعشق هذا النوع لأنه أحضر معه «تورتة» صُنعت في مصر خصيصًا لزوجة السيناتور!
‎كولومبية تكشف التنصت بالفنادق
‎في أثناء إقامتي في فندق «ديبلومات»، كنت قد تعرفت علي سائحة كولومبية يهودية، حضرت إلي تل أبيب لتقضي ستة أشهر في إحدي المستوطنات، ثم حصلت علي دورة تدريبية في مجال الفندقة، وقد تنقلت بين أكثر من فندق، وكان «ديبلومات» هو محطتها الأخيرة في التدريب، وقد تعرفت عليها وتوطدت علاقتي بها، وكانت تتصل بي في الجناح الخاص بي، ثم تحضر خلسة في الساعات المتأخرة من الليل، واستمرت علاقتي بها بعد انتقالي إلي شقتي، حيث كانت تتردد عليَّ بصفة منتظمة، وأخبرتني بأنها كادت تنتهي من دورتها التدريبية، وأن والدتها ستحضر إلي تل أبيب، مؤكدة أن حلمهما معًا هو زيارة مصر ومعالم القاهرة والإسكندرية، وبعد وصول والدتها حصلت لهما علي تأشيرة دخول سياحية إلي مصر، واتصلت بصديق لي في مصر ليعتني بهما خلال الزيارة، وبعد عودتهما إلي تل أبيب قضت معي الأيام الثلاثة الأخيرة لها في شقتي، وفي أثناء جلسة هادئة، سألتني إن كنت أعلم أن كل فندق من الفنادق التي تم بناؤها حديثًا في إسرائيل بها «غرفة مؤمَّنة» (Strong Room) لا يدخلها أي شخص من العاملين بالفندق، ولا حتي رجال أمن الفندق، مشيرة إلي أنها شعرت بالفضول للوقوف علي حقيقة هذه الغرفة، خاصة بعد أن لاحظت دخول ثلاثة أشخاص من غير العاملين في الفندق مرتين يوميًّا، حيث يُفتح باب الغرفة المؤمَّن وكأنهم يدخلون مناوبة، وبعدها يخرج مَن كانوا بالداخل ليتسلَّم الطاقم الجديد مهامه، وبالتالي توجد مناوبتان يوميًّا تغطيان الساعات الأربع والعشرين، ولا يعلم أي من العاملين بالفندق، ولا حتي مدير الفندق ومدير أمنه، ما هو شكل هذه الغرفة من الداخل، وقد أثار حديثها فضولي، خاصة عندما قالت إنها سألت كثيرين في عدة فنادق لمعرفة حقيقة هذه الغرفة الغامضة والعاملين فيها، وخرجت بنتيجة مفادها أن جميع الفنادق في أثناء تشييدها يتوقف البناء فيها لمدة ثلاثة أسابيع، حيث يتم تسليمها إلي جهات أمنية لا تعلمها، وخلال هذه الفترة يتم تشييد هذه الغرفة المؤمَّنة، وتغلق بمفاتيح وأقفال خاصة، وتعين لها حراسة 24 ساعة، إلي أن يتم تشييد بقية الفندق وتأثيثه وافتتاحه، وتبقي هذه الغرفة بعيدة عن أي شخص في الفندق، باستثناء الأشخاص المصرح لهم بدخولها في مناوبات يومية، وهم يكونون من خارج الفندق، وقد ذكرني كلام المتدربة الكولومبية بما ذكره لي روبرت ذات يوم بشأن توقف العمل في البناء وتولي لجنة هندسية معاينة الإنشاءات لمدة ثلاثة أسابيع، ثم تسليم المبني مرة أخري إلي مقاول البناء، ولذلك فقد أبلغت هذه المعلومة إلي الخارجية، ومنها إلي بقية الجهات المعنية في مصر.
‎أسبوع مع صديقتي الأمريكية في تل أبيب
‎في الأول من سبتمبر استقبلت صديقة أمريكية، حضرت لزيارتي من نيويورك، وقضت معي سبعة أيام، وقد بادرتني في بداية الزيارة بقولها: «إنني هنا لقضاء كل الوقت معك، ولست مهتمة بزيارة إسرائيل»؛ لذلك كنت أتركها صباحًا عند حمام السباحة في فندق «ديبلومات»، وبعد انتهاء عملي أعود إليها هناك لنتناول الغداء معًا، ثم نعود إلي شقتي لأخذ قسط من الراحة، وفي المساء نبدأ سهرة مع مجموعة أصدقاء روبرت وزوجته، ولم نقضِ سوي يوم واحد في رحلة خارج تل أبيب.
‎وصديقتي هذه واسمها آن كنت قد تعرفت عليها في أثناء وجودي في مصر قبل نقلي إلي سفارتنا في تل أبيب، حيث اتصل بي شقيقي من نيويورك، وأخبرني بأن إحدي صديقات زوجته ووالدتها ستحضران إلي القاهرة لقضاء أسبوعين ما بين القاهرة والإسكندرية، وطلب مني أن أدعوهما علي العشاء خارج برنامجهما السياحي للترحيب بهما، وفور وصولها إلي القاهرة، اتصلت آن بي، واتفقنا علي العشاء معًا، وكان عشاءً مميزًا علي أنغام موسيقي راقصة، ورقصت معها، ثم عدت بهما إلي فندق «مينا هاوس»، ودعتني والدة آن إلي تناول مشروب لتشكرني علي السهرة الممتعة، وبعد دقائق استأذنت لتدخل إلي غرفتها، وجلست مع آن قرابة نصف الساعة، واستمرت لقاءاتنا خلال الأسبوعين التاليين، وبعد ثلاثة أسابيع من عودة آن إلي نيويورك وصلني منها عدة خطابات بالبريد تشكرني فيها علي الأوقات التي قضيناها معًا، وبعد صدور قرار نقلي إلي تل أبيب اتصلت بي من نيويورك لتهنئني بهذا النقل، قائلة إنها علمت بخبر نقلي من شقيقي وزوجته، وطلبت مني الموافقة علي حضورها إلي تل أبيب لزيارتي، ووافقت من حيث المبدأ، علي أن يتم تحديد موعد زيارتها في وقت لاحق بعد أن أستقر في عملي، وحصلت آن بعد ذلك - علي أرقام تليفوناتي في تل أبيب من شقيقي، وكانت تتصل بي علي فترات، مجددة رغبتها في زيارتي، وأوضحت لها صعوبة زيارتها لي عندما كنت أقيم في الفندق، ثم رتبت معها الزيارة بعد انتقالي إلي شقتي.
‎وقبل وصول آن بيوم واحد، أبلغت رونا بأنني سأستقبل إحدي صديقاتي من أمريكا، ووضحت لها أنها ستقضي أسبوعًا في ضيافتي وسيكون من الصعب أن نلتقي خلال هذه الفترة، وجن جنون رونا، وحاولت تبرير شعورها بالغيرة بأنه نابع من حبها لي، وأن الغيرة - في حدود - تعتبر عنصر بناءٍ وليس عنصر هدم للعلاقة.

‎زيارة شقيقي وزوجته الأمريكية للقدس
‎صادف يوم سفر آن عقد الاجتماع السنوي لاتحاد النقابات العمالية «الهيستدروت»، وكان السفير قد كلفني بحضور المؤتمر نيابة عنه، فصاحبت آن إلي مطار بن جوريون لتوديعها، ثم عدت إلي المؤتمر لأعرف أن رونا مكلفة بحضور الاجتماع نفسه، فاتصلت بها وأبلغتها بأنني سأذهب إلي فندق «هيلتون» بعد انتهاء المؤتمر، وطلبت منها أن نلتقي في بهو الفندق بعد الاجتماع.
‎وكان هذا اليوم قد صادف أيضًا وصول شقيقي سمير وزوجته وعائلتها وعدد من أصدقائهم إلي القدس، في رحلة كان قد بدأ الإعداد لها من شهر يوليو، وكنت قد شجعته عليها، حيث قرر القيام برحلة سياحية إلي مصر وإسرائيل، وقد اتصلت بعدد من شركات السياحة الإسرائيلية لإعداد برنامج سياحي متميز، حيث كان عددهم يصل إلي ستة عشر فردًا، فحجزت لهم في فندق «هيلتون» القدس، في ضوء رغبة المجموعة في الإقامة بالقدس، وقد جاملتني إدارة الفندق في ترقية غرفة شقيقي إلي جناح، وكنت قد قمت بحجز أتوبيس سياحي ليقلهم من المطار ويظل معهم حتي موعد مغادرتهم، وقد توجهت بالفعل إلي الفندق بعد انتهاء الاجتماع السنوي للهستدروت، فوجدت رونا هناك، وتحدثت مع موظفي الاستقبال بشأن ترتيب الغرف، وكنت قد أبلغت شقيقي بتعذر استقباله في مطار بن جوريون بسبب مشاركتي في الاجتماع، وقد عرض عليَّ موظف الاستقبال تسليمي مفتاح الجناح الخاص بشقيقي، فوافقت ووقعت علي الاستلام، ثم اصطحبت رونا إلي الجناح؛ إذ كان موعد وصول طائرة «إير سينا» بعد نصف ساعة، فضلًا عن الوقت الذي تستغرقه إجراءات خروجهم من المطار، ثم قطع مسافة تصل إلي 35 كيلو مترًا للوصول إلي القدس.
‎وفي أثناء انتظارنا، سألتني رونا عن الشيء المختلف في مظهرها، ولم أستطع تحديد الذي تقصده، هل تعني فستانها؟ أم حذاءها؟ ظللت أنظر إليها دون تمييز ما هو الجديد، فبدت غاضبة وهي تقول: «كيف لم تلاحظ أنني تخليت عن مبدئي كمدافعة عن حقوق المرأة لا تضع أي مساحيق تجميل، بينما أضع اليوم ولأول مرة في حياتي كل هذا الماكياج علي وجهي»، وأضافت أنها أقدمت علي هذه الخطوة بعد تردد؛ لأنها ترغب في أن تبدو أجمل في نظري، وحتي أكون علي قناعة من أنها تستحق أن تكون صديقتي الوحيدة!
‎كانت رونا تتحدث بغضب وإحباط، فاعتذرت عن عدم ملاحظتي لها مرجعًا السبب في ذلك إلي قلة خبرتي، وأثنيت عليها، مؤكدًا لها أن وجهها جميل، وقد كان كذلك فعلًا.
‎واستهلاكًا للوقت، بدأت رونا حديثًا مطولًا عن المجتمع الإسرائيلي، ونظام المستوطنات والحياة فيها، ثم بدأت في مراجعة الملاحظات التي دونتها عن الاجتماع السنوي للهستدروت، خاصة أنني كنت أدون ملاحظاتي من خلال الترجمة الفورية، في حين دونت رونا ملاحظاتها مباشرة لإتقانها اللغة العبرية، وتحدثت معي عن معني كلمة «هيستدروت»، قائلة إنها اختصار بالعبرية لعبارة: «الاتحاد العام لعمال أرض إسرائيل»، وقد تم تأسيسه عام 1920، واستمد فكرته من تاريخ النقابات العمالية الأوروبية، وكان الهدف منه حماية العمال اليهود وإيجاد فرص عمل لهم في إطار تنافسهم مع العمال العرب الذين كانوا يعملون بأجر أقل ومهارة أفضل، وقالت إن «الهيستدروت» الآن يضم أكثر من 90 ٪ من الأيدي العاملة في إسرائيل، وبالتالي فله أهمية اجتماعية كبيرة، وثقل سياسي يعتد به، ويمثل أكبر قوة اقتصادية في إسرائيل، حيث يمتلك مصرف «هابوعاليم»، أكبر مصارف إسرائيل، كما يملك صحيفة «دافار» اليومية، الناطقة بلسانه، كما يمتلك هيئة تأمين صحي هي «كوبات خوليم»، بالإضافة إلي عدد من المستشفيات وكليات التمريض ودور النقاهة.
‎انتقل حديثنا بعد ذلك إلي الوضع الاقتصادي، فقالت إن التاريخ يشير إلي تميز أداء رجال الأعمال اليهود في أوروبا، فمثلًا في بريطانيا برزت مؤسسة «بيت روتشيلد» في القرن التاسع عشر، حيث كانت إحدي مهام موظفي روتشيلد هي الحصول علي المعلومات المهمة قبل أن تحصل عليها الحكومات، بما في ذلك الحكومة البريطانية نفسها، وعندما كانت أوروبا كلها تنتظر نتيجة معركة «ووترلو»، حصل ناتان روتشيلد علي معلومات - من خارج لندن - تفيد بأن الأسطول الإنجليزي قد هزم نابليون، وهنا أغرق روتشيلد السوق كانت أوروبا كلها تنتظر نتيجة معركة «ووترلو»، حصل ناتان روتشيلد علي معلومات - من خارج لندن - تفيد بأن الأسطول الإنجليزي قد هزم نابليون، وهنا أغرق روتشيلد السوق بالسندات المسحوبة علي الحكومة البريطانية وعرضها فجأة للبيع، وحذا حذوه كل رجال الأعمال الذين يراقبون تحركات روتشيلد، معتقدين أن بريطانيا قد خسرت المعركة، ومن ثم هبطت أسعار السندات إلي مستوي متدنٍّ للغاية، وفي اللحظة المناسبة قام روتشيلد بشراء كل السندات المعروضة، وعند وصول الأنباء بانتصار بريطانيا ارتفعت أسعار سندات الحكومة البريطانية عدة أضعاف، وبشكلٍ مبالغٍ فيه، وكسبت مؤسسة «روتشيلد» مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية في ذلك الوقت.
‎وفي أثناء الحديث رن الهاتف، وعندما أجبت فوجئت بشقيقي سمير يتحدث من الاستقبال؛ ليسألني إن كنت قد وقَّعت علي استلام مفتاح الجناح الخاص به، وضحك بشدة عندما عرف أنني فعلت ذلك، وقال إنهم وصلوا إلي الفندق، وقام والد زوجته بتنسيق الغرف ومَن يقطنونها، وأعطاه موظف الاستقبال جميع المفاتيح، وعندما سأل عن مفتاح جناح شقيقي أخبروه بأنه قد استلمه ووقع بما يفيد ذلك، وعاد شقيقي إلي الضحك مرة أخري، قائلًا إنه شك في نفسه عندما شاهد التوقيع علي الورقة؛ لأنه مشابه جدًّا لتوقيعه، ثم أدرك أنني أخذت المفتاح ووقعت بدلًا منه، وحضر سمير وزوجته الأمريكية «بام» إلي الجناح، وبعد السلام والعناق، قدمت له رونا كزميلة وصديقة، ثم التقينا سائر المجموعة المصاحبة له، ونزلنا جميعًا لتناول مشروب، ولاحظت ورونا مدي سعادة المجموعة في استرجاع ذكرياتهم في مصر خلال الأسبوع الذي قضوه هناك، سواء في القاهرة أو الإسكندرية، أو حتي خلال رحلة قصيرة إلي الأقصر وأسوان.
‎وفي اليوم التالي ذهبت ومعي رونا إلي القدس للاحتفال بعيد الميلاد الواحد والأربعين لشقيقي، وكنت قد عدت إلي تل أبيب وكذلك رونا لارتباطنا بالعمل، علي وعد بحضور عيد الميلاد، الذي أقيم في قاعة تم حجزها خصيصًا لهذه المجموعة، حيث احتفلنا بإطفاء الشموع، ثم تناول العشاء، وكانت ليلة جميلة قضيناها في «هيلتون» القدس، وفي اليوم التالي، حضروا هم إلي تل أبيب، واصطحبتهم - بعد جولة سياحية - لتناول العشاء في أحد المطاعم، وحين غادر الجميع بعد انتهاء الرحلة كانوا جميعًا سعداء يؤكدون أنهم أمضوا وقتًا سعيدًا وممتعًا بفضل ما قمنا به - رونا وأنا - من ترتيبات.
‎صور النائب كمال حسن
‎في منزل فايتسمان
‎وجَّه وزير الدفاع عيزرا فايتسمان والذي أصبح رئيسًا لإسرائيل فيما بعد الدعوة للوفد المصري الذي حضر منتصف سبتمبر للمشاركة في لجنة التطبيع، وكانت الدعوة في منزله الخاص بضيعته خارج تل أبيب، وكنت من بين المدعوين باعتباري عضوًا منضمًّا للوفد من السفارة، وكان في استقبال الوفد المصري عدد من أعضاء الوفد الإسرائيلي، الذين رحبوا بالجميع، وبدأ فايتسمان بحديث ودي أكد فيه علي أهمية التفاهم في الشق العسكري من المباحثات لتسهيل تنفيذ المرحلة القادمة من الانسحاب الإسرائيلي من بقية سيناء، وضرورة التزام الجانب الإسرائيلي بتنفيذ تعهداته، منوهًا إلي ضرورة مرونة الجانب المصري للمطالب الإسرائيلية.
‎بعد ذلك دعانا إلي التوجه لغرفة الطعام، وكانت مفتوحة علي «تراس» كبير، وحديقة واسعة، وفي أثناء مروري لاحظت وجود عدد من الصور الفوتوغرافية للنائب كمال حسن في مراحل عمرية مختلفة، فاستوقفت الوزير فايتسمان، وقلت له: «عذرًا يا سيادة الوزير، أنا أعلم أن هناك علاقة ثقة واحترام وتقدير متبادل بينك وبين السيد النائب كمال حسن، ولكنني لم أفكر للحظة في قوة هذه العلاقة التي تجعلك تضع صوره في كل مكان بمنزلك»، وكان رده غريبًا؛ إذ قال لي: «ما رأيك؟ أليست جميلة؟»، فقلت متأثرًا برده المفاجئ: «الحقيقة أنا لا أفهم! فهناك بعض الصور لك مع النائب كمال، وبعض الصور له بمفرده، أو مع أشخاص لا أعرفهم، بينما صور أخري لها خلفية توضح أنها التقطت منذ زمن سابق.. فهل تم تركيب الصور علي خلفيات أخري؟!»، فضحك وقال: «معظم هذه الصور تعود لوالدي، الذي يشبه تمامًا النائب كمال، ومن هنا توجد لديَّ نقطة ضعف كبيرة أمام هذا الرجل، فعندما يكون له مطلب أشعر وكأن والدي هو الذي يطلب مني هذا المطلب، وعادة لا أقاوم وأستجيب بسرعة لمطالبه!»، ثم استطرد قائلًا: «عندما قام الفريق كمال حسن بأول زيارة رسمية لإسرائيل في 25/2/1980، دعوته إلي منزلي، وعندما شاهد هذه الصور، تساءل باندهاش عن سبب وجود صوره في منزلي، وازدادت دهشته عندما علم أنها صور والدي من شدة التشابه بينهما!».
‎رحلتي إلي البحر الميت
‎بعد ثلاثة أشهر من وجودي في إسرائيل، اقترح روبرت عليَّ أن أنضم إلي مجموعة الأصدقاء للذهاب في رحلة إلي البحر الميت، مؤكدًا أن الطقس سيكون معقولًا هناك حاليًا، ووافقت علي اقتراحه باعتبارها فرصة لمشاهدة أكثر بقعة انخفاضًا في العالم عن مستوي سطح البحر - كما كُتب علي لافتة هناك وحذرني روبرت من السباحة في البحر الميت نظرًا لارتفاع نسبة تركيز الأملاح في المياه، وما يمكن أن يسببه ذلك من الإصابة بالتهابات جلدية، إلا أنني لم أستمع إلي نصيحته، وكنت أرغب في تجربة السباحة في مياه هذا البحر، حيث الارتفاع المذهل في كثافة المياه، حتي إنني شعرت بأن جسمي يطفو لأعلي، واستمتعت بتجربة هذه الظاهرة في أثناء السباحة، ولكنني أصبت بالفعل ببعض الالتهابات خاصة أن الشمس كانت حارقة في هذا اليوم، وكنت قد أحضرت معي عددًا من الأكياس التي تحتوي علي ملح ومعادن مستخلصة من مياه البحر الميت لوضعها في حمامي، حيث تساعد علي استرخاء عضلات الجسم، وعدت إلي تل أبيب في اليوم نفسه، فشعرت بانسداد في أذني اليسري حتي لم أعد أسمع بها، وقررت وضع بعض هذا الملح في حمامي للاسترخاء، وبالفعل شعرت باسترخاءٍ شديدٍ حتي كدت أنام في الحمام، فخرجت إلي فراشي واستغرقت في النوم علي الفور، ولم أستيقظ إلا علي طرقٍ عنيفٍ علي باب شقتي، وعندما فتحت الباب وجدت روبرت وزوجته والقلق يبدو علي ملامحهما، وبررا ذلك بأنهما انتظراني لأذهب إليهما في الموعد المتفق عليه معهما، وعندما تأخرت اتصلا بي ولكنني لم أرد، وفي أثناء مرورهما من أمام منزلي شاهدا سيارتي فساورهما الشك في أن أكون مريضًا، وأخبرتهما بأنني مريض بالفعل ولا أكاد أسمع بأذني، فاتصل روبرت بطبيب أنف وأذن صديق له، وذهبنا إليه في عيادته رغم تأخر الوقت، وقام بغسيل أذنيَّ لأستعيد نعمة السمع مرة أخري.
‎ولم ينسَ روبرت قبل أن يتركني، تذكيري بدعوة ديفيد لي أنا ورونا علي العشاء في جناحه الخاص بفندق «ديبلومات»، وكان روبرت قد أخبرني في أثناء عودتنا من رحلة البحر الميت بأن ديفيد قد حاول الاتصال بي أكثر من مرة لدعوتي ولم ينجح في الوصول إليَّ، ووجه روبرت إليَّ الدعوة نيابة عنه، فقبلتها.
‎جدال سياسي في حفل ديفيد
‎كان حفل ديفيد صاخبًا، وبه عدد كبير من المدعوين من مختلف الطوائف، والفئات العمرية، ولم أكن أرتاح لديفيد؛ لأنني لم أكن أعرف مهنته الحقيقية ولا سر ثرائه، وكذلك لم أكن أعرف نوعية المواد الكيماوية التي يستوردها وتحقق له كل هذا الثراء! ورحب بنا ديفيد، وذكرنا بأنه من أصل روسي، مشيرًا إلي أنه يلتقي العديد من المهاجرين السوفييت، وقال إن المهاجرين الجدد يفضلون العيش مع مهاجرين سوفييت سبقوهم في الهجرة؛ لأن ذلك يساعدهم في التغلب علي مصاعب الحياة الجديدة، ومشاكل التوطن، إضافة إلي لغتهم المشتركة، حيث نادرًا ما يتحدث المهاجرون الجدد اللغة العبرية، ومن هنا نشأت فكرة معاهد «الأولبان» لتعليم العبرية للمهاجرين الجدد، وعندما سألته عن الفرق بين هذه المعاهد وبقية مراكز تعليم اللغة الأخري، قال إن معاهد «الأولبان» تقوم بتدريس دورة مكثفة للغاية تصل إلي ثماني ساعات يوميًّا، تتضمن الأحاديث الدارجة، والمحادثة في السوبر ماركت، ووسائل المواصلات العامة، والسؤال عن عنوان.. إلخ، فتساءلت عن إمكانية انضمامي إلي أحد هذه المعاهد، فهز رأسه علامة النفي، قائلًا إن هذه المعاهد - علي حد علمه - مخصصة للمهاجرين الجدد فقط، ولا يُسمح للدبلوماسيين الأجانب بالانضمام إليها، ثم عاد ديفيد إلي الحديث مرة أخري عن المهاجرين السوفييت، قائلًا إن آخر «نُكتة» أُطلقت عليهم هي أنهم بمجرد نزولهم من سلم الطائرة لأرض المطار يرفعون علامة النصر بأيديهم، والمفترض أن هذه العلامة تعني شعورهم بالنصر (Victory)؛ لوصولهم إلي أرض الميعاد، وأضاف ضاحكًا أن الحقيقة غير ذلك؛ إذ إن ما يقصده هؤلاء المهاجرون هو طلبهم من الآن الحصول علي فيلَّا (Villa) وسيارة فولفو (Volvo)، وهنا تدخل آفي قائلًا بجدية: «معهم كل الحق؛ لأنهم إشكناز، وكان أجدادهم وآباؤهم أول من دعا إلي مبادئ الصهيونية، وكانوا يؤمنون بالشيوعية أو الاشتراكية كأيديولوجية، ولكونهم أول مَن نظَّم موجات الهجرة واستوطنوا فلسطين قبل قيام دولة إسرائيل، وأول من طبَّق نظرية المجتمع الشيوعي الاختياري وتطبيقاته في نظرية المستوطنات، ولكونهم عانوا وبذلوا الجهد والعرق والدم فإن أولادهم وأحفادهم من موجات الهجرة الجديدة يستحقون ما يطلبون!»، كنت مستمعًا جيدًا لهذا الجدل، فعقبت قائلًا: «وهل يقبل المجتمع الإسرائيلي بهذه التفرقة، خاصة السفارد؟»، فرد آفي قائلًا: «إن مؤسسي الصهيونية من أجدادنا آمنوا بإمكانية أن يعيش اليهود متآخين في دولة صغيرة يلتقي فيها الشرق مع الغرب، وقد التقوا في إسرائيل التي تعتبر مجتمع مهاجرين حقيقيا يمثل فيه المهاجرون 60 ٪ من أصل أربعة ملايين يهودي يقطنون إسرائيل - طبقًا لإحصاء عام 1980 - وقد آمن قادة إسرائيل بأن الهجرة ستحتفظ للأمة الإسرائيلية بكيانها، وستكون عنصرًا داعمًا لأمنها، وأنه كما توجد ديانة مشتركة بين كل المهاجرين فإن اللغة العبرية ستكون اللغة المشتركة بين أوائل المستوطنين والمهاجرين الجدد، الذين يستحيل بدونهم تحقيق حلم إقامة دولة إسرائيل وإعادة بعث القومية الصهيونية»، وقاطعه روبرت قائلًا إن إسرائيل عبارة عن «مجتمع سياسي» من القمة إلي القاع، وفيه يهيمن السياسيون علي قطاعات الصناعة والسياحة والعمل والصحة، بل وحتي التعليم، وإن أي مواطن إسرائيلي عليه أن يكون في الاتجاه السياسي الصحيح والمناسب إذا ما رغب في الحصول علي أي عمل حكومي أو إداري، واختتم كلامه مؤكدًا أنه يجب توفر التوجه السياسي لدي رجل الأعمال ليكون ناجحًا، ووافقه ديفيد علي ذلك ضاربًا عددًا من الأمثلة.
‎وانتقد روبرت مبدأ الصهيونية الذي يوجب التمسك بالأرض التي تُنتزع بالدم باعتبارها رمز الوجود والحياة القومية، مشيرًا إلي أن ذلك يتم تدريسه في مناهج مادة التاريخ بالمدارس الإسرائيلية رغم عدم موافقة بعض طوائف المجتمع الإسرائيلي علي هذا التوجه.
‎وفي حين بدأ عدد كبير من الشباب المدعوين مغادرة الحفل، إلا أن مجموعتنا المصغرة واصلت جدلها السياسي، وقد تحدثت باعتباري مصريًّا وعربيًّا - عن حدود إسرائيل، وذكرت لهم أنه من خلال دراستي وقراءاتي المختلفة يمكنني القول إن هناك غيابًا واضحًا، بل ومتعمدًا، لأي ترسيم لحدود إسرائيل في بنود إعلان الاستقلال الذي يُعد مصدر السلطة الشرعية الرئيسي لإسرائيل، في ضوء عدم وجود دستور، وأضفت أن مُعدي إعلان الاستقلال كما هو معلوم - قد طلبوا من بن جوريون تحديد حدود إسرائيل استنادًا إلي خطة التقسيم التي أعلنتها الأمم المتحدة عام 1947، وأصروا علي أن عدم تحديد حدود أي دولة يتعارض مع مبادئ القانون الدولي، الأمر الذي من شأنه أن يضع العديد من العراقيل في علاقة دولة إسرائيل الجديدة بدول العالم، إلا أن بن جوريون رفض المقترح، وفي تقديري الشخصي أن ذلك كان لسببين، أولهما: خشيته من المعارضة الدينية، حيث يؤمن رجال الدين بأن حدود إسرائيل يجب أن تتوافق والحدود التي وعد الله بها إبراهام (أي من النيل إلي الفرات)؛ وثانيهما: أن بن جوريون كان علي ثقة من أن الحدود ستتغير بعد الحرب الوشيكة مع العرب، وهذا ما حدث؛ فقد رفض العرب قرار التقسيم، ووسَّعت إسرائيل حدودها بعد حربي 1948، و1967.
‎كنت أتحدث بحماس علي غير عادتي؛ فقد كنت حريصًا علي عدم الحديث عن الأوضاع السياسية، خاصة مع مجموعة أصدقاء روبرت، ولكنني وجدت أنه من المناسب توضيح إحدي وجهات النظر لهم، وقد فاجأني رد فعلهم علي كلامي، حيث غرقوا جميعًا في حالة من الصمت والتركيز وكأنهم يستكشفون ما بداخلي، وشاهدت علامات الرضا علي وجه رونا، التي التقطت خيط الحديث، متسائلة عن تعريف إسرائيل، هل هي الدولة التي يقطنها الإسرائيليون وبالتالي فهي دولة اليهود أم دولة الشعب اليهودي؟ وهل اليهودية دين أم قومية؟ وتصدي ديفيد للرد عليها مؤكدًا أنهما الاثنان معًا، وواصلت رونا تساؤلاتها: هل يختلف يهود إسرائيل عن يهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وأوروبا؟
‎وماذا بشأن غير اليهود القاطنين في إسرائيل من عرب مسلمين ومسيحيين؟ وماذا بشأن قوميتهم؟ وأضافت أن هذه الأسئلة كلها ليست لها إجابات قاطعة في أذهان الشباب في إسرائيل، موضحة أنها لاحظت ذلك وتأكدت منه في أثناء إقامتها في «الكيبوتس» وفي أثناء دراستها بالجامعة في حيفا، وعلَّق علي كلامها هذه المرة رجل أعمال من أصدقاء ديفيد، اسمه دان، قائلًا إن المجتمع الإسرائيلي يؤمن بمفهوم القوة الصهيونية التي تعتمد علي ثلاثة عناصر هي الهجرة والاستيطان والقوة العسكرية المتفوقة، وإن هذه العناصر الثلاثة من شأنها أن تكفل ضمان بقاء المجتمع اليهودي وتوفر أدواته الضرورية للبقاء، فعلَّقت أنا علي كلامه باقتضاب، قائلًا إن هذه المقولة تحتوي علي خلط كبير في المفاهيم ولا تستحق الرد عليها، وكان هذا الرد مثار دهشة الجميع، باستثناء رونا التي حاولت تغيير الموضوع تخفيفًا لحدة التوتر الذي نشأ فجأة، ووجهت تساؤلًا للموجودين بشأن مصير ونتائج الزيجات المختلطة في المجتمع الإسرائيلي، وسارعت راحيل - زوجة روبرت بالرد عليها، قائلة إن الزيجات المختلطة لها تداعيات علي الهوية الإسرائيلية، وكذلك علي الأطفال الناتجين من هذه الزيجات، وقدمت شرحًا بشأن إشكالية الزواج حين يكون بين رجل مسلم ينجب طفلًا مسلمًا طبقًا للإسلام وامرأة يهودية، يجب أن يكون طفلها يهوديًّا طبقًا للديانة اليهودية، الأمر الذي يعني أن الطفل من والد مسلم ووالدة يهودية سيندرج تحت ديانتين مختلفتين في آنٍ واحد، بينما الطفل من أم مسلمة وأب يهودي - وهذا غير جائز وفقًا للشريعة الإسلامية - لن يكون له أيٌّ من الديانتين، ولذا فإن الإسرائيليين يواجهون مشاكل كبيرة تتعلق بهويتهم في حالة الزيجات المختلطة، وبالتالي فإن المجتمع الإسرائيلي يرفض هذا النوع من الزيجات، كما ترفض القيادات الدينية اليهودية إتمام مراسم الزيجات المختلطة رغم أنه لا يوجد في أي قانون مدني إسرائيلي ما يمنع إتمام هذه الزيجات.
‎بعد ذلك تحدثت راحيل عن قرب إجازة «يوم كيبور» أي اليوم الكبير وهو ما يُطلق عليه «عيد الغفران»، فقالت إنها وعائلتها اعتادا الصوم عن الأكل والشرب في هذا اليوم لمدة 24 ساعة، أي من مغرب اليوم السابق وحتي غروب شمس يوم عيد الغفران، فقلت إنني سأتجول بسيارتي في تل أبيب وسأتناول غدائي وعشائي في المطاعم، وفوجئت بهم جميعًا يحذرونني من فعل ذلك، قائلين إنه يمتنع علي الجميع استخدام سياراتهم في هذا اليوم - والمخالف يتعرض للقذف بالحجارة من المتدينين الذين يذهبون إلي معابدهم سيرًا علي الأقدام، ويستثني من هذه القاعدة علي مضض سيارات الشرطة والإسعاف والمطافئ.
‎وبعد الحفل طلبت رونا قضاء الليلة معي في شقتي، ورحبت بذلك؛ إذ كنت أرغب في معرفة رأيها فيما جري من أحاديث، وانصرفنا كل في سيارته حتي لا نلفت الأنظار.
‎حديث مع رونا عن رئيس «الشين بيت»
‎بعد عودتنا إلي شقتي، لفتت رونا نظري إلي شخص يرتدي نظارة معدنية، كان يجلس علي يمين البهو عند نزولي من المصعد، وسألتني إن كنت قد انتبهت إلي طريقة نظرته إليَّ أم لا، فأجبتها بأنني لاحظته وشعرت بأنه رجل مهم؛ لوجود عدد من المحيطين به، فقالت إنه إفراهام شالوم، ويلقبه أصحابه ب«أفروم»، ثم صمتت قليلًا قبل أن تقول وهي تضغط حروف كلماتها قائلة: إنه رئيس جهاز «الشين بيت» الجديد، وقد تم تعيينه منذ عشرة أيام فقط. وسألتها إن كانت لديها معلومات عنه، فقالت إن معلوماتها عنه ليست كثيرة، وبدأت تسرد عليَّ ما تعرفه عنه، قائلة إن اسمه الحقيقي هو أفراهام بندور (Avraham Bendor)، وُلد سنة 1929 لأبوين ألمانيين، انتقلا إلي فلسطين عندما تسلَّم هتلر الحكم في ألمانيا، وقد نشأ في المستوطنات بخلفية اشتراكية، والتحق بجيش الدفاع عندما كان عمره تسعة عشر عامًا، وهو يتحدث الإنجليزية والألمانية بطلاقة، وقد التقي شخصًا مهمًّا ألحقه بجهاز «الشين بيت»، واسترسلت رونا قائلة إنه يتسم بالبرود، والصمت، كأبرز صفات شخصيته، ويعطي انطباعًا بأنه غاضب طوال الوقت، وهو أحد المشاركين في عملية اختطاف آيخمان في الأرجنتين عام 1960، وهو مقرب من شارون، وقد شارك في العديد من العمليات ضد الفلسطينيين الناشطين؛ إذ إنه يؤمن بالعمليات السرية بهدف التصفية الجسدية للقيادات الفلسطينية، وقد تدرَّج في العديد من المناصب داخل «الشين بيت» حتي وصل قبل توليه رئاسة الجهاز إلي منصب مدير وحدة العمليات.
‎كانت رونا تخبرني بكل هذه المعلومات وهي تهمس في أذني، رغم أننا كنا نجلس في «تراس» شقتي، والتلفزيون والراديو يصدران أصواتًا مرتفعة، وختمت كلامها موضحة أنها تخبرني بكل هذا من أجل أن أعامله بحذر في حالة لقائي به مرة أخري، وطلبت مني عدم سؤالها عن مصدر معلوماتها.
‎وتعليقًا علي ما دار في الحفل، قالت رونا إن الإسرائيليين يصفون أنفسهم بأنهم ليسوا عباقرة ولكنهم فقط منظمون ومنضبطون، مبدية اتفاقها مع هذه المقولة؛ إذ إن تفوقهم الفني والتكنولوجي ليس بسبب عبقريتهم، بل نتيجة ما أحضره المهاجرون اليهود معهم إلي إسرائيل من تكنولوجيا وتقنيات إنتاج من الدول الأوروبية والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
‎وأضافت رونا أن المبادئ الصهيونية تقوم علي أساس أن فلسطين هي أرض الميعاد، ووطن الشعب اليهودي، وأرض بني إسرائيل؛ لذلك فإن الهجرة إلي إسرائيل تتسم بالأهمية والسمو إلي الأعلي، وهي باللغة العبرية كلمة «عليا»، من العلا، في حين أن الهجرة من إسرائيل إلي الخارج تمثل عنصرًا وضيعًا، هدَّامًا، ولذا فهي تعرف في العبرية باسم «ياريدا»، أي الهبوط.
‎بعد ذلك تحدثت عن الفوارق بين الطوائف الدينية ومسمياتها المختلفة، فذكرت طائفة «الحسيديم» التي يكرس أعضاؤها حياتهم لدراسة الدين والفقه اليهودي، كما شرحت لي كيف أن طائفة «ناطوري كارتا» هي الفئة الوحيدة من اليهود التي تعيش في إسرائيل ولا تعترف بدولتها؛ لاعتقاد أفرادها بأن إسرائيل الحقيقية لن تقوم إلا بعد مجيء المسيح الحقيقي.
‎وتحدثت رونا عن الوكالة اليهودية، قائلة إنها منذ إنشاء إسرائيل، وحتي عام 1981 تمكنت طبقًا لإحصائيات بريطانية من بناء خمسمائة قرية، عدد كبير منها أقيم مكان قري عربية تم تدميرها، مثل منطقة «رمات آفيف» - ضاحية تل أبيب - التي تم إنشاؤها علي حطام قرية عربية اسمها «قرية الشيخ مؤنس»، وكانت مليئة ببساتين البرتقال، وقد هدمتها الجرافات الإسرائيلية وأعادت بناءها علي نمط المناطق الريفية الإسرائيلية، كما تمكنت الوكالة اليهودية من تهجير مليون وسبعمائة ألف يهودي إلي إسرائيل من مختلف أنحاء العالم، مشيرة إلي أن الوكالة تحصل علي مواردها المادية الهائلة من التبرعات التي تجمعها من أمريكا وأكثر من سبعين دولة أخري.
‎بعد ذلك خاطبتني رونا باعتباري عربيًّا، فقالت: «إن الانحياز الأمريكي والأوروبي لإسرائيل يعود إلي تصوركم كعرب، واستسلامكم، لفرضية الانحياز الأعمي لإسرائيل، باعتباره أمرًا غير قابل للتغيير أو التعديل، وهذا غير صحيح، في حين نجحت الحركة الصهيونية في تقديم نفسها للولايات المتحدة وأوروبا كحليف مطيع يملك إمكانيات الدفاع عن مصالح هذه الدول في منطقة الشرق الأوسط، وبأقل التكاليف»، وأشارت إلي حديث دار بين بيجين والسفير البريطاني ولم أكن أعرف شيئًا عنه قبل أن تخبرني به - حيث قال بيجين صراحة: «إن الولايات المتحدة لا تحب إسرائيل من أجل جمال عيونها، بل لأنها أكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم».
‎زيارة وزير السياحة المصري لإسرائيل
‎أبلغني السفير سعد مرتضي بأن وزير السياحة المصري جمال الناظر سيقوم بأول زيارة إلي إسرائيل بعد يومين، وكلفني بمرافقة الوزير وإعداد برنامج زيارته ومحادثاته، وبالفعل ذهبت معه إلي المطار لاستقبال الوزير، وكان وزير السياحة الإسرائيلي إبراهام شارير في استقباله، وقد حظيت الزيارة بتغطية إعلامية كبيرة، وعقد الوزيران جلسة محادثات بحضور السفير سعد مرتضي، والوزير المفوض محمد بسيوني، في حين ضم الوفد الإسرائيلي العديد من خبراء السياحة، وفي تقديري أن الزيارة كانت لهدف سياسي وليس سياحيًّا؛ إذ لم يتفق الطرفان علي شيء تقريبًا، بينما حرص الجانب الإسرائيلي علي إبهار وجذب أنظار الوزير المصري بالنسبة لزيارة المقاصد السياحية في إسرائيل، وبالطبع اعتذر الوزير عن عدم القيام بجولة سياحية في مدينة القدس بالرغم من قيامه بأداء الصلاة في المسجد الأقصي، حيث توجه بعد ذلك إلي تل أبيب، وكان برنامج الزيارة يحتوي علي زيارة مهمة إلي المركز الدولي لصناعة الألماس وصقله وتجارته، وكان مديره العام السيد شنيتزر علي رأس مستقبلي الوزير جمال الناظر، وقد صاحبت الوزير في هذه الزيارة، التي تحدث فيها مدير المركز - في أثناء غداء عمل - عن المركز باعتباره عصب صناعة الألماس في إسرائيل التي تُعد مركزًا عالميًّا رائدًا لصناعة الألماس وتجارته من حيث الإنتاج والتسويق، مشيرًا إلي أن تجارة الألماس تُدر جزءًا مهمًّا من دخل إسرائيل التي كانت تحقق ثاني أكبر دخل من قيمة الصادرات الإسرائيلية - بعد تجارة السلاح - وهو ما يزيد علي خمسمائة مليون دولار طبقًا لإحصائيات عام 1980.
‎وعرض مدير المركز علي الوزير المصري إقامة مركز صغير لصناعة الألماس في مصر، مؤكدًا استعدادهم لتدريب كوادر من العمال المصريين ليصبحوا عمالًا مهرة في مجال صقل الألماس والأحجار الكريمة، وقدم شرحًا للوزير حول خدمة هذا المركز للدول العربية، خاصة البترولية، في ضوء القدرة الشرائية لمواطنيها ودخولهم المرتفعة بما سيدرُ علي مصر أرباحًا نتيجة شراء العرب للألماس والأحجار الكريمة من مصر بدلًا من شرائها من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بأضعاف ثمنها نظرًا لارتفاع أجر العمالة المدربة في أوروبا وأمريكا مقارنة بنظيرتها التي تُنتَج في مصر، مضيفًا أن إسرائيل ستستفيد أيضًا من تسويق وتصدير هذه الأحجار، وبذلك ستكون مصر قناة تسويقية ومنفذًا للأسواق العربية والمواطنين العرب المعروف عنهم حبهم لاقتناء الألماس والأحجار الكريمة، وبذلك ستعم الفائدة الاقتصادية علي الطرفين.
‎واصطحب مدير المركز الوزير المصري والوفد المرافق له في جولة داخل المركز، وأطلعنا علي أحدث إجراءات الأمن الإلكترونية التي تضمنت تقنيات لم نكن نسمع بها في ذلك الوقت، وفحص الوزير الأنواع والأحجام المختلفة من الألماس، وردًّا علي سؤال للوزير جمال الناظر، قال مدير المركز إن إسرائيل قدمت خبرتها الفنية للهند التي أنشأت مركزًا صغيرًا لصقل وبيع الألماس والأحجار الكريمة، موضحًا أن إسرائيل تستورد الألماس الخام من جنوب أفريقيا.
‎ اكتشاف أجهزة تنصت في شقتي
‎في الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر وصلت رسالة تفيد بوصول وفد من إدارة الرمز بالخارجية المصرية بعد يومين، وقمت بعرضها علي السفير سعد مرتضي، وفي موعد وصول الوفد كنت مع زميلي سكرتير أول السفارة د. فاروق مبروك في استقبالهم، وكان الوفد مكونًا من أربعة أفراد، وكانوا جادين بشكلٍ صارمٍ منذ لحظة وصولهم، ولم يتحدثوا في أي شيء داخل السيارة وحتي وصولنا إلي مبني السفارة، وكان مع كل منهم حقيبة ملابس صغيرة، وحقيبة معدات كبيرة مدون عليها عبارة: «حقيبة دبلوماسية»، ولا شك أن الجانب الإسرائيلي كان علي دراية تامة بهذه المهمة بمجرد النظر إلي حقائبهم، وهذا ليس غريبًا؛ إذ إن الجانب الإسرائيلي نفسه يرسل وفودًا في مهمات مماثلة إلي القاهرة، وكانت مهمة الوفد المصري هي عمل مسح شامل لداري السكن والمكاتب، وهو مسح فني وإلكتروني بأجهزة تعمل علي اكتشاف أجهزة التنصت والعمل علي نزع أو إبطال مفعولها، خاصة في مكتب السفير أو الوزير المفوض، فضلًا عن بقية المكاتب، مع التركيز علي غرفتَي الأمن والرمز، وهو مكتبي، حيث كنت أتولي مهام الأمن والرمز بصفة أساسية، في حين كان زميلان لي يتوليان المهام نفسها بصفة احتياطية، ولذلك فقد رافقتهم في عملهم، وتحدثت معهم عن ظروف إقامتي في الفندق مدة قاربت علي ثلاثة أشهر، ثم انتقالي إلي شقتي الجديدة وشكوكي حولها، ودعوتهم علي الغداء عندي لإلقاء نظرة علي الشقة، وتحمسوا لذلك، وحضروا فرادي لعدم إثارة الشك لدي الجيران، خاصة وأن كل واحد منهم أتي ومعه بعض الأجهزة المطلوبة لفحص الشقة، وبعد الغداء فتحوا التلفزيون وجهاز التسجيل بصوتٍ مرتفعٍ ليبدو الأمر وكأننا في حفلة؛ للتغطية علي صوت الأجهزة الإلكترونية التي يعملون بها، واستمرت عملية المسح ومحاولات التحقق من كل مكان لمدة ثلاث ساعات، بعدها اتفقنا علي اللقاء في أحد المقاهي بوسط البلد، وأكدوا لي وجود عدة أجهزة للتنصت، وسلموني ورقة صغيرة كانت عبارة عن رسم كروكي لشقتي حددوا فيها مواقع علي الجدران توضح أماكن أجهزة التنصت، وكان أحد المواقع في غرفة الاستقبال خلف الأريكة التي أجلس عليها بصفة مستمرة، كما أشار الرسم إلي جهاز ظاهر داخل الأباجورة بجانب الأريكة واثنين آخرين في نجفتي الاستقبال والطعام، وأوضحوا أن أجهزة التنصت داخل الحوائط غير مرئية، وتم وضعها بطريقة حرفية عند بناء الحائط، أما أجهزة النجف والأباجورة والتليفون فكان يمكن لهم نزعها لكنهم آثروا عدم القيام بذلك؛ لأن نزعها أو تعطيلها سيثير شكوك الذين قاموا بوضعها، وقالوا لي بجدية: «عليك أن تأخذ حذرك في الحديث وأنت بالقرب من هذه الأماكن، وكذلك عندما تكون في سيارتك، أو خلال حديثك في هاتف مكتبك أو منزلك؛ لأنها ستكون مراقبة بلا شك، ويجب أن تكون علي علم ودراية بما تقدم، وأن تتحدث بحذر مع زملائك ومعارفك وصديقاتك وكأن هناك شخصًا ثالثًا غير مرئي من الجانب الإسرائيلي يتربص بك»، وقد كنت أستشعر بالفعل تواجد هذا الشخص الثالث طوال فترة خدمتي في تل أبيب، وقد استمر معي هذا الشعور في كل الأماكن التي عملت بها، حتي وأنا سفير ورئيس عدة بعثات مختلفة، ولا شك أن تواجدي وعملي بسفارتنا في تل أبيب زاد من إدراكي لهذه المسائل، وطور من الحس الأمني لديَّ طوال حياتي.
‎محاولات إسرائيل لتجنيد رونا
‎ذهبت إلي رونا وصعدنا إلي» روف « شقتها، وقالت لي إنها تنوي عمل حفلاتها خلال الصيف في هذا المكان، وكانت قد وضعت أريكة وكرسيين وطاولة، وهمست في أذني بأن احتمالات التنصت قليلة في شقتها، ولكن يصعب زرع أي أجهزة تنصت في الروف، وكانت تريد أن تتحدث بحريتها معي.
‎لاحظت أن رونا قلقة، فسألتها عن الذي يقلقها، فقالت:
‎- لقد ذكرت لك مرة أن الجانب الإسرائيلي حاول تجنيدي في أثناء تعلُّمي اللغة العبرية في مستوطنة «معيان زيفي»، حيث بدأ عدد من شباب المستوطنين في التودد إليَّ، وحاول بعضهم إقامة علاقة معي، ولكنني رفضت ذلك، وبعدها بدأ بعضهم في محاولة إقناعي باعتناق الديانة اليهودية، وعندما طرحت العديد من الأسئلة والتساؤلات فوجئت بحضور «راباي» معبد المستوطنة للحديث معي عن مزايا وفوائد وعقائد الديانة اليهودية، وفي البداية كنت متشوقة لمعرفة الكثير من المعلومات بشأن طقوس الديانة وتاريخ الشعب اليهودي، وكانت لديَّ رغبة واضحة في تعلُّم وفهم المزيد عن اليهودية، ولكن رغبتي لم تكن بهدف اعتناقها، وأثارت تساؤلاتي ومناقشاتي سوء فهم لدي العاملين في المستوطنة، خاصة رجال الدين الذين أبدوا رغبتهم وألحوا في أن أتعلم مبادئ وتعاليم هذه الديانة..
‎لم أكن أدري ماذا تريد أن تقول بالضبط؛ لذلك لم أقاطعها، فواصلت قائلة:
‎- لقد استشعرت محاولات حثيثة لإقناعي باعتناق اليهودية، وشعرت بغضبهم عندما أوضحت عدم نيتي في فعل ذلك، ثم فوجئت بأحد رجال الدين يذكرني بقصة السيد عوديد إيران الدبلوماسي البريطاني اليهودي الذي عمل في السفارة البريطانية، وكيف عاد إلي إسرائيل، وأنني في حالة اعتناقي الديانة اليهودية سيحتفظون بذلك سرًّا، موضحين أنني قد أحتاج إلي دراسة في شئون الدين اليهودي ربما تستغرق عامين قبل اجتياز الاختبارات المطلوبة، وأن ذلك يمكن أن يتم خلال فترة عملي بإسرائيل التي من المنتظر أن تكون من ثلاث إلي أربع سنوات، وأن الجانب الإسرائيلي سيدعم عودتي مرة أخري إلي إسرائيل علي غرار ما تم مع الدبلوماسي عوديد إيران..
‎كان الذهول قد بدأ يسري في نفسي وأنا أسمعها لكنني لم أظهره علي ملامحي، وبدوت مصغيًا باهتمام لما تقول، فواصلت بجدية قائلة إنها في أثناء تواجدها، كانت تقضي الكثير من الأوقات مع شباب المستوطنة، وفي الاحتفال بإحدي المناسبات فوجئت باقتراب شخص وسيم منها، قدَّم نفسه لها، وكانت هي تعرف اسمه باعتباره أحد أعلام الكنيست وعضو مؤثر فيه، فجذبتها إليه شخصيته وثقافته وعلمه ونفوذه، وفي ضوء شعورها بالوحدة في المستوطنة نشأت بينهما علاقة كان دافعها الانجذاب الجنسي، ولكن بعد عدة لقاءات - كانت معظمها تتم في الكيبوتس - بدأت تلاحظ أسلوبًا ومدخلًا غير سوي، سواء في أسئلته عن مهامها في السفارة، أو عرضه عليها الحماية وبسط النفوذ وفتح الأبوب المغلقة أمامها في المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته وحكومته، وعندما لم يجد استجابة تذكر منها، وبدأت تتهرب منه، أظهر الوجه الحقيقي للمسئول الإسرائيلي، حيث حاول ابتزازها بتهديدها بفضح علاقتهما الأمر الذي سيؤثر علي عملها ومستقبلها، وعندئذ قررت هي القيام بالخطوة الأولي، فذهبت في عطلة نهاية الأسبوع إلي تل أبيب، ونزلت ضيفة علي زميلها د. هاريس - سكرتير أول السفارة وزوجته، وفاتحته منفردًا بما حدث، وأبلغته بقرارها بقطع علاقتها العابرة بهذا المسئول الإسرائيلي، فنصحها بعدم التمادي في هذه العلاقة، موضحًا أنه سيعرض الأمر كما هو علي «Pikcب وزير مفوض السفارة للتأكيد علي ما تقدم.
‎صمتت للحظة، ثم نظرت إليَّ قائلة: «إن د. هاريس بعد لقائه معك قبل أن يغادر عمله، نصحني بإقامة علاقة عمل معك قائلًا: لقد عمل الأنصاري في لندن، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة، وهو ذكي ولماح ومطلع علي كثير من الأمور»، واستطردت قائلة إنه شجعها علي إقامة علاقة حِرفية معي باعتبارها مفيدة وفي صالح العمل للسفارة البريطانية، وطلب منها مواصلة الاتصال بي في ضوء مشاركتي في المفاوضات المستمرة بين مصر وإسرائيل في شق التطبيع وبمشاركة الولايات المتحدة في شق مفاوضات الحكم الذاتي، وأكد لها أنه التقي دانيال كيرتز سكرتير أول السفارة الأمريكية في القاهرة، والذي يتولي المتابعة والمشاركة في محادثات الحكم الذاتي، وأنه أثني علي شخصي، وسرد له نوعًا من التعاون الحِرفي الذي تم بيننا في المفاوضات سواء في مصر أو في إسرائيل.
‎وأكدت رونا أن د. هاريس أوضح لها أنه من المرغوب فيه أن تتولي مواصلة الاتصال بي خلفًا له، وأن لها مطلق الحرية في إجراء هذه الاتصالات بالطريقة التي تراها مناسبة، وبموافقة كاملة من جانب السفير ووزير مفوض السفارة، واللذين يريان أن هذه الاتصالات تسير في قنواتها الطبيعية، حيث كانت رونا تقدم لهما محاضر لقاءاتها معي، وقد كنت أختصها بعمل ملخص للمحادثات الدائرة بين مصر وإسرائيل.
‎بعد ذلك نظرت رونا إليَّ نظرة طويلة، قبل أن تقول: «كانت هذه بدايتي معك، ولكن الشق الآخر في هذه العلاقة لا يعلم به أحد وأعتبره شأنًا خاصًّا، وأعتزم الاستمرار في علاقتي معك بشقيها الحرفي والعاطفي».
‎كانت رونا تتحدث بصدق، ووجل؛ إذ أعربت لي عن مخاوفها من تفسير الشين بيت والموساد لعلاقتنا بأنها تجنيد من جانبي لها، وأنني نجحت فيما فشل فيه الجانب الإسرائيلي الذي رغب بشدة في تجنيدها.
‎تعلُّم العبرية في »الأولبان«
‎كنت أشعر بضرورة تعلُّمي اللغة العبرية، وقد شجعتني رونا علي المضي قدمًا في ذلك، وكنت قد تحدثت معها بشأن إحباطي من عدم فهم ما يتحدث بشأنه الجانب الإسرائيلي في مشاوراتهم الجانبية في أثناء جلسات لجان التطبيع والحكم الذاتي، في حين يوجد دائمًا في كل الوفود الإسرائيلية من يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ويفهم ويدرك كل ما نتحدث بشأنه، وكنت أري أن هذه نقطة تميز لدي وفود الجانب الإسرائيلي، ومن هنا كان قراري بتعلم اللغة العبرية، إضافة إلي فهم المجتمع الإسرائيلي بشكل أفضل، وقد سألت رونا عن كيفية تعلُّم اللغة العبرية، وكان ردها أن ذلك صعب جدًّا، وعددت لي سبب صعوبته، قائلة إن هناك ثلاث طرق لتعلم اللغة العبرية، الأولي من خلال دورة بجامعة تل أبيب، وقد يستغرق ذلك عدة سنوات، والثانية بالانضمام إلي إحدي المستوطنات - كما فعلت هي - وهذا غير وارد بالنسبة لي، والثالث من خلال الالتحاق بأحد معاهد «الأولبان»، وهذا لن يحدث لأن هذه المعاهد مخصصة للمهاجرين الجدد.
‎ولأن الأمر كان يشغلني، وكنت أتعامل معه بجدية، فقد تحدثت بشأنه في اليوم التالي مع السفير سعد مرتضي، فقال لي: «لماذا تحتاج إلي تعلم لغة ميتة؟ فأنت لن تستخدم هذه اللغة إلا في إسرائيل فقط؛ لذلك فالأمر لا يستحق أي معاناة، خاصة أنه يوجد في السفارة عدد من المترجمين، وفي المكتب الإعلامي أيضًا، وإذا ما احتاج أي عضو إلي ترجمة إحدي المقالات لأن عنوان المقالة يدخل في صميم اختصاصه فكل ما يحتاجه هو أن يطلب من المكتب الإعلامي ترجمة هذه المقالة كما يحدث الآن، فلا تهدر وقتك ومجهودك في هذا الاتجاه».
‎ورغم وجاهة وجهة نظر السفير، إلا أنني لم أقتنع، فتحدثت مع روبرت ياديد ورويت له ما تقدم، فاتصل بي في اليوم التالي وطلب مني الحضور لتناول الشاي معه ومع زوجته راحيل وإحدي قريباتها في فندق «ديبلومات»، وذهبت في الموعد المحدد، فقدَّم لي الضيفة باعتبارها مديرة لمعهد الأولبان الذي يقع علي بعد مسافة كبيرة من السفارة ومن موقع سكني، مضيفًا أنه وراحيل تحدثا معها بشأني وأنها أبدت رغبتها في لقائي للتعارف ومناقشة الأمر معي، وبالفعل سردت عليها وجهة نظري واستعدادي للمشاركة في محاضرات اللغة فقط، ووافقت مديرة المعهد علي استثنائي من القاعدة في ضوء تحمسي لتعلم اللغة العبرية، وتقديرها لهذه الرغبة، ونوهت إلي أن الدورة ستبدأ في اليوم التالي، ويمكنني الحضور يوميًّا لمدة ستة أيام أسبوعيًّا من الخامسة وحتي الثامنة مساءً لمدة شهرين، وهي مدة الدورة، وأنهت حديثها بأنها لا تود قبول أي أعضاء جدد من الدبلوماسيين، وبدأت بالفعل في حضور محاضرات اللغة العبرية يوميًّا، وكانت مدرستي هي السيدة داليا، البالغة من العمر 65 عامًا، وهي بولندية الأصل، وقد وجدت تشابهًا كبيرًا بين اللغتين العبرية والعربية، وبعد المحاضرة الأولي التقيت مدرستي وصارحتها بأنني ربما في إطار ظروفي الخاصة بالعمل لن أستطيع الحضور كل يوم، وفي بعض الأيام قد أضطر للحضور متأخرًا، وأن ذلك ليس تقليلًا من شأنها أو عدم تقدير لأهمية اللغة العبرية، وإنما نتيجة طبيعة عملي، ورجوتها أن تتقبل ذلك، ووافقت، وبعد أسبوع واحد فقط بدأت في التحدث بالعبرية، وشعرت بسعادة بالغة وأنا أفهم ما يُقال في نشرات الأخبار، وبعض الأحاديث واللقاءات التلفزيونية، وبعد الدورة الثانية كنت أستطيع فهم ما يقرب من 70 ٪ من الأحاديث الدارجة، وأتحدث بأسلوب متميز بالنسبة لهم نتيجة تحدثي بلهجة سليمة، وبالنطق الصحيح، ولم أكن أعلم أن تحدثي بالعبرية سيفتح لي أبوابًا مغلقة عديدة، ووجدت نفسي في داخل المجتمع الإسرائيلي بدون عوائق.
‎وقد استفدت كثيرًا من تعلمي اللغة العبرية في مفاوضاتنا مع الوفود الإسرائيلية، حيث كنت أفهم كثيرًا مما يدور من أحاديث جانبية بين أعضاء الوفد الإسرائيلي، وكنت أقوم بترجمة سريعة لما يتحدثون بشأنه، هامسًا في أذن رئيس الوفد المصري، وفي إحدي الجلسات، وبدون مقدمات، وجَّه أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي حديثه إليَّ باللغة العبرية، وبصوت مرتفع كأنه يحذر زملاءه قائلًا: «يا سيد رفعت، أنت تتحدث اللغة العبرية وربما بطلاقة، وأنا أري ذلك علي تعبيرات وجهك، فيبدو عليك الاندهاش والاستغراب في بعض الأحيان عندما نتحدث بما هو غير مقبول بالنسبة للوفد المصري، كما يبدو علي وجهك أحيانًا علامات الارتياح والسرور عندما نتحدث عن بعض النقاط التي نحن علي استعداد للموافقة عليها بما يتفق ومواقف الوفد المصري، ويمكنني القول إنك تفهم ما نقوله»، فابتسمت وقلت له بالعبرية إنني مبتدئ وأتلقي دروسًا في تعلم اللغة العبرية، ومنذ هذا اليوم بدأت الوفود الإسرائيلية تأخذ حذرها مني أثناء الحديث علانية أمامي باللغة العبرية خلال التفاوض، وبذلك شعرت أنني حققت الهدف الأول من تعلمي للعبرية، وبدأت أحقق هدفي الثاني من ناحية انفتاح المجتمع الإسرائيلي وطرقي للأبواب المغلقة؛ فقد كان مَن يراني أتحدث باللغة العبرية، ويري ملامحي التي تشبه اليهود «الإشكناز»، يعتقد أنني من المهاجرين الأوروبيين الجدد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.