بالرغم من وجود حجرة مكتب خاصة به أعدها أعلي البرج المربع الواقع في الجزء الجنوبي الغربي من منزله الواقع في سان فرانسيسكو بولاية نيفادا، إلا أن هيمنجواي كان يرتاح للكتابة في غرفة نومه، ولا يصعد لتلك الحجرة إلا إذا أحس أن إحدي شخصيات الرواية التي يعكف علي كتابتها تدفعه إلي هناك، ربما لسبب خفي لا يعلمه. حجرة النوم تقع في الدور الأرضي، مفتوحة علي القاعة الرئيسية، إلا أن الباب بين الحجرتين يبقي مواربا بسبب وجود كتاب ضخم ثقيل يحتوي قائمة ووصف تفصيلي لمحركات الطائرات بالعالم. حجرة النوم متسعة، مشمسة، نوافذها متجهة ناحية الشرق والجنوب، تبقي مفتوحة طوال ساعات النهار لتضيء الشمس الجدران البيضاء وبلاط الأرضية الأبيض المشوب بالأصفر. الحجرة يقطعها نصفين زوج من خزائن الكتب العالية، التي تنتصب بثبات بزاوية قائمة مع الجدارين المتقابلين، وهناك سرير مزدوج كبير يحتل أحد القسمين، وعلي الأرضية بجانبه مجموعة من الشباشب والأحذية مرتبة بعناية، أما المنضدتان الجانبيتان فمكدستان بالكتب. وفي الناحية الأخري من الحجرة، ثمة مكتب ضخم مع كرسيين عند جانبيه، بينما علي سطحه فوضي مرتبة من الأوراق والتذكارات، وفي آخر الغرفة دولاب، وجلد نمر معلق فوقه، والجدران الأخري تصطف عليها رفوف الكتب البيضاء التي من كثرة الكتب فاضت علي الأرض بجوار صحف قديمة، ومجلات مصارعة الثيران، وأكوام من الخطابات في مجموعات تضم كل منها أربطة مطاطية. داخل أحد الرفوف الموجودة بجوار النافذة الشرقية، والتي تبعد نحو ثلاثة أقدام عن سريره، ثمة مكان للكتابة أطلق عليه همينجواي "مكتب العمل"، وهو مساحة ضيقة لا تزيد عن قدم مربع تطوقها الكتب من ناحية، ومن الناحية الأخري صحيفة تغطي تحتها مخطوطات مكتوبة وكراسات، ولا تسع سوي آلة كاتبة، يعلوها لوح خشبي للقراءة وخمسة أو ستة أقلام رصاص، وقطعة من النحاس تعمل كثقالة للأوراق حين تهب الرياح من النافذة الشرقية. يكتب همينجواي واقفا فوق جلد أحد أنواع الظباء الأفريقية، يكتب أولا بالقلم الرصاص مستخدما لوح القراءة في الاستناد عليه، حيث يحتفظ بحزمة من الأوراق البيضاء علي يسار الآلة الكاتبة، يسحب ورقة واحدة منها كل مرة، ومن النادر أن يكتب بدايات الجمل أو الأسماء بالحروف الكبيرة" الكابيتال"، وحين يفرغ من كتابة ورقة يرفقها بسابقتها بدبوس "كليبس" كبير مقلوبة علي وجهها ويضعها في الحافظة يمين الآلة. يدير ظهره للآلة الكاتبة تاركا لوحة الكتابة، فقط عندما تسير الكتابة بسرعة وسهولة، أو تكون الكتابة من وجهة نظره بسيطة مثل كتابة حوار، ويواصل تتبع تقدمه يوميا علي لوحة رسم بياني مصنوعة من ورق مقوي ثبتها تحت أنف رأس الغزال المعلق علي الحائط، تظهر عليه أرقام مختلفة 450، 575،1250... فالأرقام المرتفعة تزيح عن كاهله الإحساس بالذنب إذا قرر في اليوم التالي ممارسة الصيد بجولف ستريم. همينجواي رجل العادة، لا يستخدم المكتب الموجود في المكان الآخر والمناسب تماما للكتابة، بالرغم من أنه يتيح مساحة أكبر وبه محفزات أدبية متنوعة: أكوام من الرسائل، لعبة محشوة علي شكل أسد اشتراها من "برودواي"، كيس صغير من الخيش ممتلئ بأسنان الضواري آكلات اللحوم، رصاص بنادق، منحوتات خشبية علي شكل أسد ووحيد القرن وحمارين وحشيين. بطبيعة الحال هناك كتب مكدسة فوق المكتب بجوار ألواح القراءة، تزدحم الأرفف عشوائيا بالروايات، وكتب التاريخ، ودواوين الشعر، والمسرحيات، والمقالات. وعلي الرف المقابل لركبة همينجواي، حين يقف للكتابة، تجد فيرجينيا وولف، و"منزل بن آمز ويليامز المنقسم"، وكتاب عن الأحزاب السياسية، وآخر عن الحزب الجمهوري، وغزو نابليون لروسيا، وكتاب "كيف تبدو أكثر شبابا" لبيجي وود، مع تشكيلة غريبة من التذكارات: زرافة مصنوعة من الخرز الخشب، سلحفاة صغيرة من الحديد الزهر، نماذج قاطرة صغيرة، سيارتان "جيب" وجندول من البندقية، ودب لعبة بمفتاح في ظهره، وقرد يحمل زوج من الصاجات، وجيتار غاية في الصغر.. كل تلك الأشياء قد تدل لأول وهلة علي الاضطراب، أو اختلاف الغايات، أو ولعه بالتفتيش والتحقيق، وأنه رغم أناقته الشخصية إلا أنه لا يتحمل إلقاء أي شيء بعيدا. وفاته الغامضة أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" انه تم العثور علي هيمنجواي مقتولا بطلقة نارية في الرأس في بيته بإيداهو، وقالت زوجته إن ذلك حدث أثناء تنظيفه سلاحه، وأنه قتل نفسه خطأ، الساعة السابعة والنصف صباحا، كما صرح فرانك هيويت، مأمور مقاطعة بلين، أن الفائز بجائزة نوبل والبوليتزر توفي مقتولا، مضيفا: "يبدو أنه حادث، ليس هناك أي دليل علي وجود مؤامرة"، وكان همينجواي خبيرا في الأسلحة النارية مثل والده الدكتور كلارنس هيمنجواي، الذي انتحر بإطلاق النار علي نفسه هو الآخر بمنزله في "أوك بارك" بولاية "إلينوي" عن عمر يناهز 57 عاما يأسا بسبب إصابته بمرض السكر. تعرض هيمنجواي للخطر مرات كثيرة، حيث أصابته قذيفة هاون في إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولي، كما نجا من الموت بأعجوبة خلال الحرب الأهلية الإسبانية عندما سقطت ثلاث قذائف في غرفته بالفندق. وفي الحرب العالمية الثانية أصيب في حادث، حين كان راكبا سيارة أجرة ، كما كاد يموت من تسمم في الدم في رحلة سفاري بأفريقيا، ونجا هو وزوجته من حادث تحطم طائرة سنة 1954. حين وافته المنية، كان ابنه جريجوري، 28 عاما، يدرس الطب بجامعة ميامي، وابنه الثاني باتريك في رحلة سفاري بأفريقيا، والثالث جون في رحلة صيد بولاية أوريجون، وقد نعاه الرئيس كينيدي الذي وصفه أنه: "أحد أعظم الأدباء في أمريكا، وأحد أعظم المواطنين في العالم".