"الثورة تأتي معها بأرض مليئة بالقتل وسفك الدماء وترمل النساء وتيتم الأطفال وتقلب كل شيء رأسا علي عقب.. ولهذا ضعوا نصب أعينكم أنه لا شيء أكثر فتكا أو ضررا أو خبثا من الثورة". هكذا كتب مارتن لوثر الذي فعليا كان قد بدأ "الثورة" قبلها بأعوام قليلة حين تجرأ علي ترجمة الكتاب المقدس للغة الألمانية داعيا كل مواطن إلي فهم رسالة الله دون وساطة ورفض توريد متحصلات كنيسته إلي الكنيسة الأم في روما وشجع علي تبني القومية الألمانية. لوثر الذي افتتح الثورة فعليا وتسمي أتباعه بالبروتستانت أو بالمتمردين تنكر للثورة حين وجد أن ما يقارب 40 ألف فلاح قد حملوا السلاح في وجه حكامهم. لوثر الثوري كان يفهم الثورة كإعادة صياغة للعالم وفق شروط العدل والمساواة والمحبة وكان يعرف أن أدوات الثورة جزء من شروط تحقق أهدافها وأن ثورة تستهدف الحرية لا يمكن أن تفرض الحرية قهرا وأن ثورة تستهدف العدل لا يمكن أن تحقق للثوار عدلا أكثر مما تحققه لخصومهم وأن ثورة تستهدف المساواة لا يمكن أن تعترف بأحقية البعض في مساواة أكثر من غيرهم وأن ثورة تستهدف شروطا أفضل للحياة في بلد لا يمكن أن تضحي بالبلد نفسها من أجل تحقيق شعاراتها. قد لا يحتاج أي نظام، في طريقه للتشكل بعد ثورة، كثورة يناير العظيمة، لأفكار أفضل مما سبق لكي يبرهن لمواطنيه علي أنه إنما يحمي الوطن حين يتخذ أياً من الاجراءات المعادية للثورة، وليس أفضل من هذه أفكار لتبرير التضحية ببعض من شباب الثورة من أجل أن يعيش الوطن. لهذا بادرت بنفسي بطرح هذه الأفكار، التي أتفق مع بعضها، وأتحفظ علي بعضها. صحيح أن بلدا لا تساوي ثورة، وأن المحافظة علي البلد أهم من المحافظة علي ثورة عابرة، ولكن من قال إن التفريط في ثورة عابرة ضمانة جيدة للحفاظ علي بلد، خصوصا إذا ما كانت الناس قد ثارت بالأساس من أجل الحفاظ علي البلد الذي كان في طريقه للضياع أو للتوريث. النظام يريد الحفاظ علي الوطن، ونحن أيضا نريد الحفاظ علي الوطن. لكن الفارق بين ما نرغبه نحن أبناء هذا الوطن ممن شاركوا في ثورة يناير وبين ما يرغب فيه النظام، أننا لا نعتقد في صحة المفهوم الذي يحاول النظام تسويقه مرة أخري للوطن. يحاول النظام تسويق مفهومه الأبوي للوطن باعتباره ضمير الغائب، باعتباره قيمة متعالية، باعتباره كائنا يقبل القرابين، نموت نموت ويحيا الوطن، غير مدرك هذا النظام الأبوي أن الوطن، بموتنا، لا وجود له، فوفق هذا المفهوم يمكن للنظام أن يزيح مطالب شعبه لأن وقتها لم يحن، وأن يزيح شعبه نفسه لأن الوطن أهم. فيما نفهم نحن الوطن باعتباره المكان الذي علينا العيش فيه، ومن ثم فعلينا تنظيمه بشكل يسمح لنا بالعيش الكريم، ويسمح لأجيال ممن سوف يقدر لهم العيش هنا أن يعيشوا عيشا كريما، بما يعني الحفاظ علي الوطن لأجيال قد لا تسمع بنا أبدا، ونفهم أن تنظيم هذا المكان بهذه الطريقة لا ضمان له إلا بالعدل والمساواة والحرية والإبداع والمحبة، لا بالظلم والقهر وإعادة ترديد الكلام القديم مرات ومرات، لا ضمان له إلا بترجمة أناجيله، بدفع الناس لقراءتها بعيدا عن الكهان، كهان الدين، أو كهان السياسة، أو كهان النظام، وإلا فلن ينجو منا أحد، لا نحن، ولا النظام.