عندما نقف قُبَالة الدولة ،أى دولة، ونتكلم عن العدالة فنحن نهذى هذيان ذبيح تحت أقدام قاتله، أو أننا، بتعبير الشاعر الفرنسى شارل بودلير، «كمن يجلس فى بيت المشنوق ليتغزل فى الحبال». فالدولة، على ضرورتها، فكرة متعسفة بالأساس، وهى بتعبير كارل بوبر «شر لابد منه» لأنهاتختصر الإرادات العامة ضمن إرادتها الجامعة والقامعة فى آن، ومن ثم ترخص لنفسها احتكار مصادر القوة بما فى ذلك شرعنة القتل.ومع ذلك كان تبلور فكرة الدولة الحديثة لدى كبار المؤسسين مثل روسو وفولتير يعنى حتمية انتقال الإنسان من حالته الغريزية إلى حالته المدنية كنتاج طبيعى لعصور من الاقتتال الذى تركه لنا ميراث المشاعية. وقد كان ولا يزال البناء الفقهى والقانونى للدولة هو أعلى تمثيلات القمع المشروع ، من هنا لن يكون بإمكانى التعليق على الحكم الصادر فيما يسمى «قضية القرن»، ولا أظن أن هذه توطئة لائقة للنقاش حول الحكم الجلل. فقد حدد لنا القانون الطريق الوحيدة للتعليق على الأحكام والتى ليس من بينها منبر الرأى بجريدة الأهرام . لكن ثمة مفارقة خطيرة تتعلق بتمدد «دولة اللا قانون» تحت شعارات دولة القانون نفسها وتحت شعارات العدل الساحقة، وعلى الأرجح لا يتم ذلك سوى عبر القوة الباطشة وتمدد مجازتها اليومية. ومن ثم رأينا كيف تحولت الدولة خلال أربعين عاما مضت إلى غابة من العسف والتراتبية ثم انتهت إلى أبوية لم يكن مثالها ونموذجها من هم أكثر نصاعة بين بنى وطننا، بل ظل مثالها من هم الأسوأ بامتياز. وقد ساءنى، كما ساء غيرى، أن يعزز قاض جليل من قلب مؤسستنا الوطنية الرشيدة فكرتَيْ الأبوية والتراتبية عندما أصر، خلال جلسة النطق بالحكم،على تقديم أسماء رفاقه، من المستشارين ورجال النيابة العامة، مسبوقة بلقب «بك». القضاء المصرى، بكل جلاله، يستعير أوصافه من مدونة سوداء. فالألقاب عبودية، وطبقية، وكهنوتية، ومن ثم فهى مرفوضة أخلاقيا وإنسانيا. ففى إطار الحلم الوطنى بالحرية الذى دشنته ثورة يوليو ضد عبوديات متراتبة ومتفاوتة فى درجات إذلالها للمصريين؛ شهد الاجتماع الثانى لحكومة ثورة يوليو برئاسة على ماهر باشا فى الرابع من سبتمبر عام 52 إلغاء الألقاب والرتب المدنية بصفة نهائية، وأصبح قرار الإلغاء جزءا من جميع الوثائق الدستورية التى صدرت فى الحقبة الناصرية، وقد تعزز الأمر فى المادة 22 من دستور 71، ثم فى المادة 13 من دستور 2012، ثم فى المادة 26 من دستور 2014. غير أن الأمر يبدو متجاوزا لفكرة الوثيقة الدستورية التى لا تبدو إلا تعبيرا طموحا عن المستقبل الذى كان يجب أن يكون لكنه، بكل أسف، لم يكن . وهاهم المصريون يطلقون ثورتين عظيمتين ثم يجدون ماضيهم الأسود يقاتل معركته الأخيرة على شرف إذلالهم طمعا فى استعادة امتيازات تنجح عادة فى خلق ظهيرها ممن أصبحوا مرضى بأسيادهم، ومن ثم أسرى لمذلتهم. ومن الخدمات الجليلة التى قدمها رجال الدين للقتلة وكبار الملاك تلفيق ذرائعية إلهية تحمى التفاوت الطبقى مستندة فى ذلك على أن الله خلق الأعلى وخلق الأدنى، ومن ثم لا يجب على الفرد أن يغادر موقعه فى الهيئة الاجتماعية لأن فى ذلك قلبا لقوانين النظام وهدما لناموس الكون. ويسخر الفيلسوف الأمريكى «آرثر لفجوى» من أمثال هؤلاء الواعظين عندما يقول: «لقد بدا رجال الدين وكأنهم يصكون مصطلحا بالعبودية الأبدية للبشر تحت زعم أن المطالبة بالمساواة أمر مناف للطبيعة ومن ثم لإرادة الله». وقد أجمع المحافظون فى عمومهم على أن التراتب جزء من الحفاظ على التوازن الطبيعى للحياة، ومن ثم لا يجب على النملة أن تتحول إلى طاووس أو أن يتجاسر الخادم على الصراخ فى وجه سيده. وعبر التاريخ حافظت كل الطبقات الحاكمة على ألقابها، بل وأنفقت المال والسلاح والدم من أجل الحفاظ على امتيازاتها. فالملوك حافظوا على صفوية العائلة المالكة عبر الحفاظ على نقاء السلالة ، وقد كان الكهنة ورجال الدين وراء عشرات الخرافات التى ربطت بين الملوك والآلهة مرات بالتزاوج ومرات بالبنوة، ولم يكن غريبا أن ينافح رجال الدين أنفسهم عن أنهم وسطاء الله على الأرض، أما رجال الإقطاع فقد حافظوا على امتيازاتهم عبر تعميق حاجة الفقراء للحفاظ على أنماط إذلالهم. لذلك ليس بوسع المرء أن يتفهم إصرار رجال السلطة على استعادة هذا التاريخ الشائن رغم أن الدولة رتبت لرجالها ثلة من الألقاب الصالحة للاحترام أحيانا والصالحة لبث الرعب فى معظم الأحايين، ومن ثم فإن القراءة الوحيدة الممكنة لتلك الظاهرة تتعلق بذلك التماهى والخلط الحادثين عبر عشرات السنين بين مفهوم الدولة وبين القائمين عليها بحيث أصبحت المسافة بين مفهوم الدولة ومفهوم رجل الدولة غائبا تقريبا، فقد يتفهم المرء كونه عبدا لمفهوم الأمن لكنه لن يتفهم كونه عبدا لرجل الأمن وبالمنطق نفسه قد نتفهم عبوديتنا للقانون لكننا لن نتفهم عبوديتنا لرجال القانون، ومن ثم فإن الضمانات التى يمنحها القانون لرجال السلطة، أى سلطة، إنما تُمنح لحماية مفهوم الدولة وليس لحماية تجاوزات أفرادها، من ثم تبقى المسافات المختلطة بين مفهوم السلطة وبين القائمين عليها ضربا من الارتهان الحقيقى والمخزى الذى لا يجب أن تتركه الدولة الجديدة لأهواء الحاكمين تكريسا لاستبداد المحكومين . وكما أن العدالة ليست هبة الطبيعة فهى كذلك ليست حالة إنشائية نتسقطها من حناجر الكذبة من الخطباء والساسة، لذلك لا يمكن الحديث عنها بعيدا عن تجسيداتها فى الواقع كما قال الهندى «أمارتيا سن» الذى أشار إلى أن عدالة البشر تراجعت بأشكال ودرجات مخزية، فالصراع الآن فى الكيفية التى نجعل بها العالم أقل ظلما. من هنا لابد أن تطرح الدولة على نفسها وعلى رجال عدلها سؤالا عاجلا : كيف استساغت الهيئة القضائية استعارة ألقابها من مدونة داسها أحرار العالم بأقدامهم..إنها مدونة السيد والعبد ؟! لمزيد من مقالات محمود قرنى