جامعة الإسكندرية تؤكد دعم الطلاب ذوي الهمم تنفيذاً للمبادرة الرئاسية «تمكين»    التمثيل العمالي بإيطاليا ينظم الملتقى الثاني لحماية حقوق العمال المصريين    أسعار الفراخ في البورصة اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر    لإهدار المال العام.. وزير الزراعة يحيل ملف جمعية منتجي الأرز للنيابة العامة    انطلاق منتدى دبي للمستقبل بمشاركة 2500 خبير دولي    بسبب هجوم لفظي على إسرائيل.. واشنطن تلغي زيارة قائد الجيش اللبناني    طارق العشري: عودة فتوح من أهم مكاسب دورة الإمارات.. وإمام إضافة قوية لمصر في أمم إفريقيا    العراق والإمارات في مواجهة تكسير العظام بملحق تصفيات كأس العالم    توروب ينتظر عودة اللاعبين الدوليين للأهلي    حبس عاطل بتهمة الشروع في قتل زوجته بالقطامية    مصرع 3 معلمين أسفل إطارات سيارة نقل في كفر الشيخ    اليوم، "بنات الباشا" في عرضه العالمي الأول بمهرجان القاهرة السينمائي    محافظ أسوان يتفقد مستشفى الرمد لمتابعة جودة الخدمات الطبية    مصر تُطلق أول اجتماع لوزراء صحة دول «الثماني النامية» D-8    هيئة الرعاية الصحية تعلن نجاح أول عملية استئصال جذري للكلى بالمنظار    بروكسل تحذر من أعباء تمويل أوكرانيا حال فشل اتفاق الأصول الروسية المجمدة    الصغرى بالقاهرة 17 درجة.. تعرف على حالة الطقس اليوم    كامل الوزير: طريق «مصر - تشاد» محور استراتيجى لتعزيز التواصل بين شمال ووسط أفريقيا    محافظ أسيوط: إطلاق مسابقة لمحات من الهند بمشاركة 1300 طالب وطالبة    منال عوض تترأس الاجتماع ال 69 لمجلس إدارة جهاز شئون البيئة    انتخابات مجلس النواب.. الهيئة الوطنية تعلن اليوم نتيجة المرحلة الأولى.. البنداري يوضح حالات إلغاء المرحلة الأولى بالكامل.. ويؤكد: تلقينا 88 طعنا في 70 دائرة انتخابية    باكستان: القوات الأمنية تقتل 15 إرهابيا تدعمهم الهند    وزير الصحة: دفع 39 مليون أفريقى نحو الفقر بسبب الزيادة الكارثية فى إنفاق الجيب    دراسة جديدة: جين واحد مسؤول عن بعض الأمراض النفسية    اليوم.. نظر محاكمة 3 متهمين بقضية خلية النزهة    اليوم.. الحكم في دعوى نفقة طليقة إبراهيم سعيد    جامعة عين شمس تطلق النسخة ال12 من معرض الزيوت العطرية 2025    بث مباشر.. "البوابة نيوز" تنقل قداس ذكرى تجليس البابا تواضروس الثاني    غموض في منشور مصطفى حجاج يثير قلق جمهوره    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : استقيموا يرحمكم الله !?    عندما يتحدث في أمر الأمة من لم يجفّ الحليب عن شفتيه ..بقلم/ حمزة الشوابكة    رئيس منطقة بني سويف عن أزمة ناشئي بيراميدز: قيد اللاعبين مسؤولية الأندية وليس لي علاقة    وزير التموين يتوجه إلى بيروت للمشاركة في مؤتمر "بيروت وان"    ترامب لا يستبعد عملا عسكريا ضد فنزويلا رغم بوادر انفتاح دبلوماسي    اسعار الفاكهه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى اسواق محافظة المنيا.    استئناف عاطل على حكم سجنه بالمؤبد لسرقته شقة جواهرجي في عابدين اليوم    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 فى المنيا    أمريكا تمنح حاملي تذاكر مونديال 2026 أولوية في مواعيد التأشيرات    ترامب: العالم كان يسخر من أمريكا في عهد بايدن لكن الاحترام عاد الآن    ما بين لعبة "التحالف "ونظرية "العار"، قراءة في المشهد الانتخابي الساخن بدائرة شرق بأسيوط    الدكتورة رانيا المشاط: الذكاء الاصطناعي سيساهم في خلق وظائف جديدة    حازم الشناوي: بدأت من الإذاعة المدرسية ووالدي أول من اكتشف صوتي    مواعيد مباريات منتخب مصر في كأس العرب 2025 والقنوات الناقلة    فاروق جعفر: أتمنى أن يستعين حلمي طولان باللاعبين صغار السن في كأس العرب    تعرف على المنتخبات المتوّجة بلقب كأس العالم منذ انطلاقه عام 1930    السيطرة على حريق داخل مستودع بوتاجاز في أبيس بالإسكندرية دون إصابات    وزارة الداخلية: فيديو شخص مع فرد الشرطة مفبرك وسبق تداوله في 2022    قتلوه في ذكرى ميلاده ال20: تصفية الطالب مصطفى النجار و"الداخلية"تزعم " أنه عنصر شديد الخطورة"    عاجل – حماس: تكليف القوة الدولية بنزع سلاح المقاومة يفقدها الحياد ويحوّلها لطرف في الصراع    اتجاه لإعادة مسرحية الانتخابات لمضاعفة الغلة .. السيسي يُكذّب الداخلية ويؤكد على التزوير والرشاوى ؟!    شاهين يصنع الحلم.. والنبوي يخلده.. قراءة جديدة في "المهاجر"    شاهد.. برومو جديد ل ميد تيرم قبل عرضه على ON    اليوم عيد ميلاد الثلاثي أحمد زكى وحلمى ومنى زكى.. قصة صورة جمعتهم معاً    التأهل والثأر.. ألمانيا إلى كأس العالم بسداسية في مرمى سلوفاكيا    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم بلدة يعبد وتداهم عددًا من المنازل    الصحة ل ستوديو إكسترا: تنظيم المسئولية الطبية يخلق بيئة آمنة للفريق الصحي    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورتريه
محمد السيد سعيد.. الشهاب الذي انطفأ
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 12 - 2014

خلف تلك البنية النحيلة والملامح الخجولة والصوت الخافت، شغف هائل بالمعرفة، وشغب فكري يناوش الثوابت المستقرة والجامدة، وتصميم مبكر علي اقتحام عالم الكبار وهو لايزال طالبا بالمدرسة الثانوية في مسقط رأسه بورسعيد. تعرفت عليه عام 1965 بصحبة شقيقه الكاتب "والمخرج السينمائي فيما بعد" سيد سعيد في قصر الثقافة بحي المناخ كنت وسيد صديقين بالقاهرة وأنا أدرس بكلية الفنون الجميلة، يجمعنا عالم القصة القصيرة والرسم، حتي تخرجت وسوّحت في البلاد.. من الأقصر جنوبا حتي الإسكندرية شمالا، باحثا عن منابع الإبداع ومنائر الثقافة، ثم حططت الرحال في بورسعيد في ديسمبر 1964، وشاركت في إنشاء قصر الثقافة بها، كما فعلت قبل ذلك في قصر الأنفوشي بالإسكندرية وما أن استعدنا علاقتنا في رحاب هذه المدينة الشاعرية الهادئة آنذاك، حتي استأنفنا حواراتنا التي لا تنتهي، وسرعان ما أصبحنا شلة ثم أصبحت الشلة نواة لفرقة مسرحية من شباب بورسعيد في قصر الثقافة، وجميعنا في العشرينيات من أعمارنا بتنا لا نكاد نفترق إلا ساعات النوم والعمل "لمن يعمل موظفا"، يجمعنا القصر والشوارع الخالية والمقاهي الساهرة، مجموعة من الحالمين المجانين بالفن والأدب والفكر والمعرفة، فينا الممثل والمخرج والكاتب والرسام والمسيس والمتفلسف والمهرج وبعد شهور قليلة أخرجنا إلي الجمهور أول مسرحية.. كانت "كوبري الناموس" لسعد الدين وهبة، ثم تتالت بعدها عدة مسرحيات لنعمان عاشور ويوسف إدريس ولطفي الخولي، كان المخرج الوحيد لها جميعا هو عباس أحمد، الذي كان موظفا بهيئة البريد آنذاك، لكنه بموهبته كان زعيم الفرقة بلا منازع، وكنا جميعا نحلم ونجرب بغير سقف أو قيد.
وفوجئت يوما بمحمد سعيد الذي أتي في غياب شقيقه سيد يدخل في نقاش حماسي مع أحد الزملاء حول فكر نعمان عاشور في مسرحية "الناس اللي تحت" الحائر بين الواقعية الاشتراكية والواقعية النقدية، مستحضرا خلال حديثه أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وميخائيل رومان، ومستشهدا في ثقة العليم بمدارس الفن والأدب، وتطرق النقاش إلي نظريات الاشتراكية والماركسية، بل تخطاه إلي "التروتسكية"!.. وصمت الجميع في انبهار، ليس لخطورة ماقاله، فقد اعتدنا علي مثله في مناقشاتنا، بل لصدوره بهذا القدر من المعرفة والذكاء والوعي من شباب لا يتجاوز عمره السابعة عشرة.. فمتي قرأ كل ذلك؟.. وكيف استوعبه؟!
لاشك أن لمكتبة شقيقه سيد ولشخصيته الأبوية تجاهه دور مهما في ذلك، لكن المؤكد أنه كان يملك من السمات الفطرية مايؤهله لامتصاص ماقرأه في ذلك الزمن القياسي، وما يجعله يستوعب هذه المعرفة ويحللها وينقدها أيضا، مكونا لنفسه منذ وقت مبكر جدا وجهة نظر خاصة تجاهها، وقد تابعت مع الزمن كيف تأسس عليها بناء فكري مستقل ومتماسك، حتي أصبح فيما بعد مشروعا للتغيير وللنهوض بالوطن، واجه في ضوئه تحديات الواقع الاجتماعية والسياسية، مرورا بقضايا الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم.. بل والثورة.
لم يتح لنا اللقاء والتواصل عبر السنين اللاحقة إلا لماما، فقد أخذت الحياة كلا منا في طريق، وإن جمعتنا هموم الوطن والحلم بتغييره، لكننا في المرات القليلة التي جمعنا خلالها نشاط ثقافي كان بالنسبة لي دائما هو ذات الشاب الصغير ... الحماس والذكاء، الجامع بين المعرفة العريضة وبين الوعي بقضايا الواقع، متابعا لما يجري من تطورات الفكر والسياسة والاقتصاد في العالم، قابضا علي حذر المشكلة وليس أطرافها، مقدما الرؤي العملية لحلها، حالما في الوقت ذاته بأحلام الشعراء.
وبعيدا عن فكره السياسي ودوره الوطني ومواجهاته الدرامية لنظامي السادات ومبارك، حتي أوشك أن يدفع حياته ثمنا لما يؤمن به وهو بين أيدي سجانيه وجلاديه، وبعيدا كذلك عن مؤلفاته ومقالاته وأدواره المتعددة في قضايا الحرية والعدل الاجتماعي وحقوق الإنسان "فتلك جميعا أمور يستطيع أن يعرضها من هم أفضل مني"، سوف أذكر عدة مشاهد تعاملت معه فيها عن قرب، وهي تكشف عن الجوانب العميقة لشخصيته.
المشهد الأول : جمعتنا فيه عضوية لجنة مشكلة من مجموعة أساتذة في علم الاجتماع ومن الباحثين والمثقفين في شتاء عام 1978، لإعداد مشروع تنموي سوف يقام بمجموعة قري المجلس القروي في "برج نور الحمص" بالدقهلية. دعت إليه إحدي هيئات الأمم المتحدة والتزمت بتمويله من خلال وزارة السكان علي ما أذكر، يحضرني من بينهم الأساتذ السيد ياسين والدكاترة عبدالباسط عبدالمعطي "رحمه الله" ونادر الفرجاني وطه عبدالعليم وثريا عبدالجواد ومحمود منصور فضلا عن محمد سعيد وشخصي .. وآخرين، وكان الحوار يدور حول مختلف مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والزراعية.. إلخ، وعلي رأس اللجنة كان الدكتور عزيز البنداري "رئيس جهاز تنظيم الأسرة والسكان" كمسئول من قبل الوزارة وجهة التمويل الدولية، وهو شخصية ليبرالية بامتياز، يستمتع بالملاكمات الجدلية ، لكنه يجمع عدة تناقضات : بين الديمقراطية والتسلط، وبين الرأسمالية والإصلاح، وبين حب المعرفة والاستعراض بالمعرفة، وقيل إن
والده كان إقطاعيا لكنه أصبح من الباشوات المنحازين للفلاحين حتي لقب بالباشا الأحمر!.. لذلك كانت المناقشات تتحول في كل اجتماع إلي عصف ذهني بين شتي الأفكار والاتجاهات، وكثيرا ما وصلت المناقشة إلي حد "الشيطنة " بسبب تسلط البنداري محاولا الانتصار بالضربة القاضية علي الأغلبية، وهي تنتمي إلي اليسار بشكل عام، بدون أن يفصح عن رفضه لفكر اليسار، وإن لم يستطع إخفاء قلقه منه، لكنه كان يسعي لإثبات أنه ليس أقل منهم تقدمية بعيدا عن النظريات. وبالرغم من امتلاك الجميع للحجج الموضوعية للرد عليه، فقد كان استبداده راجعا لقوة مركزه الإداري في المشروع، ما يعطيه الحق في الحديث منفردا أغلب الوقت دون أن يستطيع أحد مقاطعته، كما كان راجعا لإلمامه بأمثلة من تجارب التنمية في العالم الرأسمالي بين أوربا وآسيا، خاصة سويسرا واليابان.. وأذكر أن محمد سعيد هو الذي كان قادرا علي تحويله إلي مستمع، بنغمة صوته الهادئة، وبمعرفته العميقة بالتجارب التي يستند إليها البنداري، وبالفروق بينها وبين خصوصية الواقع المصري وما يتطلبه من حلول مختلفة.. وقد تركنا "ابن الباشا الأحمر" نبدأ العمل علي أرض الواقع بجمع البيانات وإجراء استطلاعات الرأي لسكان المنطقة، وبالتمهيد ميدانيا لتنفيذ مشروع التنمية الثقافية "الذي كنت أنا المكلف به" قبل الدخول في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وربما رأي في ذلك اختيارا أوليا يكشف له ماننوي عمله وكأنه يقول : حسنا.. دعنا نر..!
وبعد أقل من شهرين من بدء برنامج محو الأمية وتكوين فرقة الفلاحين المسرحية فوجئنا بإيقاف التمويل اللازم لهما، بعد أن نجح المخرج عباس أحمد في أكتشاف مواهب لمجموعة من أبناء القرية الفلاحين، وفي إقامة درس عمل معهم أسفر عن تأليف نص جماعي نابع من واقع حياتهم حتي بدأوا التدريبات عليه بالفعل، وبعد أن تم طبع كتابين لبرنامج محو الأمية، أحدهما للدارس والآخر للمعلم، بمنهج يستفيد من نظرية "باولو فريري" ومن تجارب بعض شعوب أمريكا اللاتينية، ويستعين بالأدب والفن للقيام بدور رئيسي في تحويل مشاهد الواقع المعاش للفلاحين إلي مادة يستطيع الأمي قراءتها بلغة الحروف والصور الفنية، فتحولت الأقصوصة المكونة من نصف صفحة، وقصيدة العامية المكونة من أبيات قليلة، والرسوم الواقعية لأبطال الحكايات والأحداث، إلي أدوات للانتقال بالأمي إلي مرحلة الوعي بأسباب شقائه، ثم إلي المشاركة في تغيير واقعه وامتلاك مصيره، فترتبط الكلمة المكتوبة التي تعرف علي معناها بالمعرفة، وترتبط المعرفة بامتلاك الوعي بالأسباب، ومن ثم بإدراك الوسيلة لتغييرها، لذا كان عنوان الكتاب هو : أقرأ أعرف أتقدم". واستعنا في تأليف النصوص بكاتب القصة محمد المنسي قنديل، وبالشاعر سمير عبدالباقي، وقمت شخصيا بعمل الرسوم التي تجسد القصص والأشعار، وقام الفنان محمود الهندي بالإخراج الفني للكتاب. واستطاع الزميلان حسن شعبان المشرف علي برنامج محو الأمية، وبشير صقر.. المعد لمنهج كتاب المعلم، تطبيق كل ذلك عمليا من خلال دورة تدريبية للمعلمين المرشحين من أبناء القرية والقري المجاورة الذين تطوعوا للتدريس لأهاليهم، وشهدنا تسابقا ملحوظا من شباب المدرسين والطلبة الجامعيين للمشاركة في المشروع بغير مقابل، بمن فيهم الآنسات اللآتي تجشمن مشاق الانتقال عبر مسافات طويلة بين القري إلي مقر الدورة التدريبية، وكان محمد سعيد هو أكثر اعضاء اللجنة العليا بالقاهرة متابعة للتجربة وفرحا بها وإضافة إليها بآرائه.
ظننا في البداية أن تأخر وصول التمويل اللازم لاستكمال البرنامج يرجع لأسباب بيروقراطية بداخل جهاز تنظيم الأسرة والسكان المختص بالجانب المالي حتي فوجئنا بأجهزة أمن الدولة تلقي القبض علي من وجدوهما بالقرية من أعضاء الفريق، وهما حسن شعبان وعباس أحمد، وقضيا في السجن عدة أشهر بتهمة التأليب ضد نظام الحكم..! ولم تكتف مباحث أمن الدولة بذلك بل صادرت جميع النسخ التي طبعت بداخل جهاز تنظيم الأسرة ذاته من كتابي محو الأمية للدارس والمعلم واختفت هذه النسخة بغير رجعة، واختفي معها "ابن الباشا الأحمر" !.. وأظنها المرة الأولي في تاريخ مصر والعالم ربما التي يصادر فيها كتاب لمحو الأمية!.. ولم يتأخر محمد سعيد طويلا في دفع نصيبه من فاتورة الحساب، سرعان مااستضافه ليمان طره، حتي وإن كان ذلك لأسباب أخري، أما أنا فقد بقي ملفي لدي "المباحث" كقنبلة موقوتة تنتظر الوقت المناسب لتفجيرها.. وقد جاء الوقت.. ولو بعد حين!
المشهد الثاني : كان محمد سعيد هو مؤسس وأول رئيس تحرير لمجلة "أحوال مصرية" الصادرة عن مؤسسة الأهرام، وكنت مسئولا عن مراكز الحرف التقليدية بوزارة الثقافة في التسعينيات، حيث تبنيت الدعوة لإنقاذ تراثنا الحرفي من الاندثار، وكان محمد سعيد كلما قابلني يبادرني بالسؤال عما انتهت إليه جهودي لتحقيق هذا الهدف، ويؤكد طوال الوقت أن تنمية هذه الحرف كفيلة بوضعها علي رأس مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمصر، وكان ذلك قبل أن تتعالي أبواق الحكومات المتعاقبة بالحديث الأجوف حول المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر كطريق للتنمية، وكان محمد يبهرني بمعرفته العميقة بنظام طوائف الحرفيين في مصر طوال القرون الوسطي حتي عصر محمد علي، كبنية أساسية قام عليها الاقتصاد المصري، إلي جانب ما استوعبته الحرف من أيد عاملة استطاعت تصدير منتجاتها إلي العالم، مثل أعمال السجاد والنسيج والتطريز والمشغولات الخشبية والنحاسية والفضية وغيرها، وكان ذلك مؤهلها لإضافة الوجه الحضاري لتركيا بعد استيلاء الغزاة العثمانيين علي الحرفيين المصريين وإرسالهم بالمئات إلي الآستانة، كما أضافت أيدي الحرفيين المصريين هذا الوجه الحضاري كذلك إلي شتي الدول العربية في عمائرها ومفروشاتها ومطالب حياتها اليومية.
وترجم اهتمامه هذا بتخصيص ملف في أحد أعداد المجلة أواخر التسعينيات لهذا الموضوع، قام بإعداده سيد سعيد، وتضمن استعراضا لما كانت عليه فنون الحرف ونظم ممارستها في الماضي، وتحديات الحاضر ورؤي المستقبل، وأصبح هذا الملف مرجعا للباحثين حول هذا الموضوع، وواصل محمد سعيد اهتمامه به مع غيره من مجالات الفنون خلال رئاسته لتحرير جريدة البديل قبل رحيله عن عالمنا، مؤكدا شمولية ثقافته التي تتجاوز الشأن السياسي والاقتصادي إلي صعيد البناء الحضاري.. وهو الثقافة والإبداع، لكنهما لا ينفصلان عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان في منظوره الفكري.
المشهد الثالث : في متحف الفن المصري الحديث بساحة دار الأوبرا عام 2007، وكنت مدعوا من الفنان أحمد فؤاد سليم "رحمه الله" مدير المتحف للمشاركة في ندوة حول أحد فنانينا الراحلين بعد أن أقام معرضا استعاديا للوحاته، وهو الفنان محمود عفيفي. وكنت قد نشرت عنه فصلا في كتابي "فنانون وشهداء" الذي سبق أن أوصي محمد بنشره ضمن إصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2000 فترة عمله فيه، وكان مدعوا معي علي المنصة، وبقيت مستشارا لسماع كلمته، لظني أنه كان بعيدا عن شئون الفن والفنانين، لكني ولدهشتي استمعت إلي محاضرة قصيرة لكنها بالغة الثراء حول الأبعاد الجوهرية للفن وأهميتها في تأسيس نهضة الأمم، وحول القيم الجمالية العليا للفن عامة والفن التشكيلي خاصة، بامتداده داخل طبقات حضاراتنا السالفة، واستعراض متغيراته التاريخية في ضوء علاقته بالنظم الطبقية والتحولات السياسية من الإقطاع إلي الرأسمالية إلي عصر الشعوب وصولا إلي الزمن الحديث، وحكي عن ذكرياته في متحف المتروبوليتان بأمريكا فترة إقامته هناك، وعن قدر الإشباع الثقافي والانتشار الوجداني خلال زياراته المتكررة له، وشعوره بالزهو عند مشاهدته أجنحة الفن المصري التي تضم نماذج من حضارتنا المتعاقبة به، وكيف استعاد من خلالها اكتشافه لهويته وثقته في وطنه، معلنا أن مصر دولة عظمي في الفن، وكيف تعلم أن ينظر إلي أي مرحلة من مراحل تطور الفنون من منظور حضاري لا من منظور تقني وفق مدارس الفن الحديث، بما يستدعي من فنانينا ألا يطغي تأثرهم بمدارس الحداثة وما بعد الحداثة في الفنون الغربية علي هذا الجزر الحضاري العميق في الفن المصري، وأن ينطلق سعيهم إلي الحداثة من هذا الجذر، مع الاستفادة من إنجازات الحداثة هناك باعتبارها ملكا للإنسانية لا للغرب وحده، مستشهدا لتأكيد وجهة نظره بتجارب فناني الجماعات الفنية الثورية بمصر خلال أربعينيات القرن الماضي، مثل "الفن والحرية" و"الفن المعاصر".. وامتداد هذه التجارب إلي الستينيات، عبر أعمال رمسيس يونان والجزار وندا والسجيني وإنجي أفلاطون وتحية حليم وجاذبية سري وغيرهم.. حيث تنافس أعمالهم إبداعات الحداثة في الغرب مع أنها نابعة من جذور التربة المصرية، ثم عرج علي أعمال الفنان محمود عفيفي التي رأي فيها تطبيقا لهذه النظرة، مع معاصرتها لاتجاهات الحداثة.
كان يتحدث بطلاقة وبنبرة هادئة بغير توقف، وكأنه ناقد فني محنك لم يبتعد يوما عن قضايا الفن والجمال، ونجح بذلك في شد انتباه جميع الحاضرين حتي خيم الصمت تماما علي القاعة طوال فقرته التي استغرقت نحو عشرين دقيقة، كانت درسا بليغا بدون حذلقة أو استعلاء، وجالت بخاطري جلستنا علي المقهي في بورسعيد قبل أكثر من أربعين عاما وهو يتحدث عن قضايا المسرح والأدب ويقارن بين مدارسها.
محمد سعيد يبدو لي وكأنه جاء إلي العالم كطلقة أو كشهاب خاطف متوهج، ينير ولا يحرق، وقد أنار وأنار.. ولم يستطع أن يطفئه في النهاية إلا الموت.. عدو الحياة والأمل.. لكن نوره لايزال ينتشر أينما تواجد بفكره وعطائه.
الآن ينام بنفس الابتسامة الوديعة أكثر طفولة وبراءة مما رأيته لأول مرة.. لكنه بلا تمرد هذه المرة.. وعلي شفتيه بقايا كلمات لم تنطق!.. كانت هذه الابتسامة المعلقة بين البراءة والشقاوة علي شفتيه هي آخر صورة احتفظت بها ذاكرتي لملامح وجهه النبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.