ظلت الثقافة عبر التاريخ حكرا للأغنياء، والموهوبين الأفذاذ فقط. ومع بداية المشروع الرأسمالي / الديمقراطي، كانت هناك ضرورة لزيادة عدد المهتمين بالعالم الثقافي لغرض واضح ووحيد هو تقوية الطبقة المتوسطة القادرة علي دفع حركة الاقتصاد، وتوسيع دائرة المهتمين بالشأن العام، وزيادة عدد الذين يذهبون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، وبالتالي إنجاح المشروع الديمقراطي. ولرسم هذه السياسات وصياغة هذه الآليات اعتمدت الحكومات علي دراسة الأرقام والإحصائيات الكمية والكيفية بدقة. فالسياسة ليست فقط أفكار، أو رؤي، أو فلسفات، وإنما خطط ملتحمة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والدولي والثقافي، ولا يمكن تطبيقها إلا عبر آليات إدارية وتنفيذية لتحقيق الأهداف المجتمعية والسياسية، وإلا ظلت هذه السياسات حديثا نظريا محضا لا معني له في عالم السياسة. بالإضافة إلي أن هذه الأدوات السياسية يجب تقييمها، لتطوير السياسات وتصحيح مسارها. ولا يمكن التقييم دون أرقام وإحصاءات. ويظل السؤال حول نجاح السياسات الثقافية من عدمها عبر العالم هو: هل نجحت في زيادة عدد مستهلكي الثقافة من الطبقات الدنيا والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة أم لم تنجح؟ وبالتالي فمراكز الإحصاء هي الأساس لرسم السياسات وتقييمها. فعلي سبيل المثال لا يمكننا الحديث عن سياسة للمسرح إلا ونحن نعرف بدقة كم عدد المسارح العاملة الموجودة الآن في مصر، وكم عدد المسارح المغلقة، وكم عدد المسارح الموجودة داخل مؤسسات، أو قصور ثقافة، و غيرها. وكم عدد المقاعد في كل مسرح. وكم عدد التذاكر التي قطعت كل يوم في كل مسرح، ثم من هؤلاء الذين ذهبوا إلي المسرح في كل يوم. كم امرأة؟ كم رجل؟ نسبة من هم دون الثلاثين الذين ذهبوا إلي المسرح، ويمكن توزيع هذه النسبة إلي كل حي، أو مدينة، أو داخل مسرح بعينه. كم نسبة من لا يتعدي دخلهم الشهري كذا جنيه؟ ما عدد العروض التي تقدم في يوم بعينه؟ ما نوعية هذه العروض؟ إلي آخره من إحصائيات كمية وكيفية، دونها لا يمكننا الحديث عن رسم سياسات ثقافية. فكيف يمكنني أن أتحدث عن سياسة للمسرح دون أن أعرف مثلا أن نسبة الفئة العمرية من كذا إلي كذا لا تذهب إلي المسرح. فيمكنني في هذه الحالة دراسة لماذا لا يرتادون المسرح، والعمل علي توجيه جهود تسويقية لهذه الشريحة العمرية بعينها. ولو سألنا اليوم أي مسئول عن المسرح في مصر عن عدد التذاكر الي قطعت في مسارح طنطا، ومن ارتاد هذه المسارح خلال الشهر المنصرم، وما رأيهم فيما شاهدوه؟ ولماذا كانت نسبة النساء في الشريحة العمرية التالية شديدة الانخفاض؟ فلن تكون لديه أي معلومات. وبالتالي سوف تظل سياساته حديثا نظريا لا طائل منه. أعلم أن حديثي هذا يبدو أنه خارج تماما عن السياق. ولكن في الحقيقة أن أول استثمار يمكن أن تقوم به وزارة الثقافة هو القيام بوضع نظام إحصائي دقيق جدا ينشر الإحصائيات الكمية والكفية لكل نشاط ثقافي. فلا يكفي أن نعرف مثلا أن هذا الكتاب تم بيعه بعدد كذا في الشهر الماضي، ولكن يجب أن تكون هناك إحصاءات كيفية عن بيع هذا الكتاب. فهل يمكن أن يرد أحد بدقة علي سؤال: نسبة النساء للرجال في مصر في شراء الرواية عام 2013؟ أو توزيع مبيعات كتب العلوم الاجتماعية علي الشرائح العمرية المختلفة؟ لا يمكن أن يرد أحد. وبالتالي لا يمكن الحديث عن سياسات ثقافية. فلنبدأ أولا بالمبتدأ. نقيم مراكز إحصائية جادة، ومراكز استطلاع رأي قبل الحديث عن سياسات ثقافية.