بداية فمن الشجاعة بمكان أن نعترف نحن الممارسين لحرفة المسرح إبداعا كان أو تأصيلا بأننا لم نكن نمتلك قرابة العقدين الأخيرين الماضيين جمهورا للتلقي بشكل حقيقي وصادق، وأن ارتياد المسارح كان يشوبه الكثير من العيوب التي تستوجب وضعنا لكثير من علامات الاستفهام والتعجب، فإننا حملنا في أعطافنا قضية الصدق مع الذات حين شرعنا ممارسة هذه الحرفة كأجيال عاشت محنة المسرح وندرة الجمهور الحقيقي. عروض نادرة وإذا افترضنا أنه كان لدينا بعض العروض القليلة جدا التي شاهدنا فيها لافتة كامل العدد علي شبابيك مسارحنا، فإني أقول بلا تردد هما عملان للمسرح القومي: أولهما أهلا يا بكوات، وثانيهما: الملك لير، وربما الملك هو الملك للمسرح الحديث، أما فيما عدا ذلك فالمسارح تعاني ندرة ارتياد الجمهور الحقيقي للمسرح. وإذا كانت هناك أجهزة معنية برصد ظاهرة تردد الجمهور علي مسارح القطاع العام أو الخاص ورصد نسبتهم، فإن بعض الدراسات النظرية التي تؤكد مدي أهمية عنصر الجمهور في المسرح، لأن المتفرج لابد أن يتقبل فكرة العرض المسرحي باعتبارها واقعا، حتي يأتي له اليقين بأن تتمثل هذه الرؤية المسرحية فكريا ووجدانيا بحيث تصبح إضافة إلي نظامه المعرفي، وإذا كانت الدراسات الميدانية قد أكدت أن الجمهور عنصر من العناصر التي يتوقف عليها نجاح مسرحيات الظل وأن شباك التذاكر هو الذي يحدد دائما العمل الفني، وأن اعترافنا بأننا ندور في حلقة شبه مغلقة. إن لم تكن مغلقة تماما، فحين تعتمد بعض المسارح علي تحصيل ثمن بعض التذاكر من المشاركين في العرض ليتم لمن قد تعاقدوا علي صرف كامل مستحقاتهم وأن يسعي البعض إلي تقديم دعوات لمن لم يدخل المسرح ضمن اهتماماتهم، فيصاب العرض المسرحي بالكُساح نظرًا لعدم جدية المتلقي وعدم مصداقية الطرح أيضًا؟! أما في عروض المسرح المشاركة في المهرجانات فإن شبابا ممن لهم ولع شديد بمحاكاة الشباب الأوروبي الذي كان يشارك مثلا بعروضه ضمن مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ومظاهر الاحتشاد علي أبواب المسارح سواء بالدعوات المجانية أو الكارنيهات التي كانت تُمنح مجانا أيضا من الإدارة العامة للتنمية الثقافية، وكذلك الدعوات التي توجهها للنخبة العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة. ويمكننا طواعية أن نستبعد أن تكون هذه المهرجانات جاذبة أو مستقطبة للجمهور العادي وحتي جمهور النخبة من المثقفين أو المتعلمين سوي عن طريق الصدفة وربما معانقة للصدق فإن طلاب الجامعات والمعاهد الفنية كانوا يشكلون نسبة ضئيلة جدا من مجموع هذا الجمهور المنشود استقطابه، وإن المسرحيين في المهرجانات المسرحية الدولية أو العربية يشاهدون عروض بعضهم البعض، بالإضافة إلي النقاد وطلبة أقسام النقد بالأكاديمية أكاديمية الفنون المصرية أو أقسام المسرح في الجامعات. عروض سرية وإذن فإن معظم عروض مسارح الدولة وبعض فرق القطاع الخاص ظلت بعيدة عن كونها جمهورا مسرحيا نوعيا، غائبا أو مغيبا عن تلك العروض التي تواجدت من أجل جمهور النخبة، تاركة جمهور العامة بينما قامت عروض حكومية أنتجتها بيوت وقصور الثقافة بالثقافة الجماهيرية في دور مسارح ليست مؤهلة علميا ولا تقنيا للتلقي ولا للمتلقي، فإنها عروض سرية قوامها أن تكون «سبوبة» لكل من الكاتب والمخرج والمجسدين والإداريين في قصر أو في بيت الثقافة وأن بعض العروض تتم علي الورق فقط دون أن تعتلي خشبات المسارح. ثم لدينا المسرح الجامعي الذي يسعي شباب الجامعات من خلاله إلي خلق مناخ فني داخل الجامعات، فهناك مهرجان المسرح الصغير الذي يشارك فيه الطلاب باختيار النصوص ويقومون بإخراجها لبعضهم ويشاهدونها لبعضهم، ثم مسابقات المسرح في التعليم العالي التي تتعامل الوزارة مع عروض الجامعات والمعاهد الخاصة كما لو كانت أيضا سبوبة للطاقم الإداري وليس مهما لدي الوزارة أن تصعد العروض المتميزة وأن تخصص لها أيام عرض علي مسرح وزارة الشباب الذي أعد خصيصا لهذه العروض الشبابية. أما في مهرجانات المسابقات المسرحية فإنها تتم حسب رغبة أصحاب القرارات السيادية، ذلك لأن المسرح الجامعي صداع يصيب رءوسهم، ومتاعب وأموال تنفق رغم تواضعها إلا أنها تذهب إلي مسارب أخري، أي أن مسألة حصد المكاسب دون ردع من ضمير آفة أصابت الكثير ممن هم وكل إليهم مهمة الإشراف والتنفيذ والتنسيق أو الإنتاج أو رعاية هذه الأنشطة التي تمثل البنية الأساسية في ثقافة الأمة. وإننا إذا اعترفنا بأن الجمهور قد وقع ضحية ممارسات مسرحية خاطئة، فإن السياسة كانت تمثل الركيزة الأولي لفساد دور المسرح في قطاعيه الخاص والعام بشقيه الحكومي والإقليمي والجامعي، كما أن الاهتمام بالمسرح المدرسي لم يكن علي المستوي التربوي اللائق لبناء جيل جديد من الواعين، بينما كانت خدعة المسرح التجاري أكثر ضررا علي المتلقي، وإذا اعترفنا ضمنا بأن عروض المسرح الخاص كانت كلها استهلاكية، قد تكون قد نجحت في استقطاب جمهور الساحة العربية الموسمية. وكذلك كبار التجار ورجال الأعمال والمنتفعين بالانفتاحات التجارية والاقتصادية والمسارح التي أعنيها هنا، هي تلك الفرق الموسمية التي تقدم كل ما يجذب الباحثين عن: التسلية وقضاء الوقت وبعض من المتع البصرية للرقصات، وأما طالبي المتعة العابرة والسطحية في ظل ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية مأساوية مضطربة وشائكة بالغة القسوة والتعقيد، حتي وإن كان الزعم بأن المسرح الخاص قد صُنع لعروضه الهابطة لجمهور خاص به، وإن حاجاتنا الماسة إلي الجهة العلمية التي ترصد لنا وللجمهور المسرحي والأدبي في مصر فيضا من سيسولوجيا المسرح وسيسولوجيا الإبداع بشكل أعم وأشمل، وتعميقا لدور الفن في حياتنا، رغبة منا في رفع الوعي الثقافي بدور المسرح ورجاله في حياتنا، ولكي ندرك أن الجمهور لدينا، هو المحور الأساسي في المنتج النهائي، ولكن من الأهمية بمكان أن نطرح بدواخلنا نحن النخبة المسرحية المنتجة للدراما المسرحية أن نهتم بدراسة سيسيولوجيا التلقي تلك التي تعتني بالكشف عن العوامل الاجتماعية التي تؤدي بالجمهور إلي تقبل عمل فني دون آخر، وكذلك محاولة التعرف علي الإطار الاجتماعي الثقافي للفرد، والإطار الثقافي والاجتماعي الذي يتم في إطاره المنتج المسرحي. طرف المعادلة وإن كان مبحثنا هو أننا كمسرحيين لم نضع الجمهور، وهو الطرف المهم في المعادلة المسرحية لا تستقيم إلا به، ويجب أن نضع نصب أعيننا هدفا مهما في عملنا المسرحي ولم نسع بشكل منهجي جاد للتأثير الحقيقي في جمهورنا، ولقد فقدنا ريادتنا في المسرح بعد أن كان الوالد الروحي للمسرح العربي في الوطن العربي كله الرائد المخرج رجل المسرح من الطراز الأول: زكي طليمات والذي أنشأ معاهد المسرح بأقسامه المتخصصة في كل من: الكويت، تونس، سوريا، وفنانين من أبناء أكاديمية الفنون والمعهد العالي للفنون المسرحية مثل الفنان أحمد عبدالحليم الذي شغل منصب عميد المعهد العالي للمسرح في دولة الكويت، والفنان كرم مطاوع في الجزائر. وكانت مسرحياتنا خير سفير للوطن العربي الآن، فقدنا هذه الريادة وكذلك لم تعد عروض فرقنا المسرحية سواء كانت قطاعا عاما أو فرق القطاع الخاص لم تعد تمتع جمهورها بما تقدمه، وكذلك لم نسع وبشكل جاد في التأثير الحقيقي في جمهورنا، أو إمتاعه بفن مسرحي نظيف وبعيد عن الزغزغة من أسفل الآباط واللجوء الاضطراري إلي سيل من الإفيهات الجنسية، لأن النصوص بزعم نجوم هذه العروض لا ترقي وطاقة النجم الذي ىُخضع كل شيء لمشيئته وحده، حتي اختيار الأدوار التي تشاركه العمل. ذلك فضلا عن أن عروضًا كثيرة من مسرحيات القطاع العام والخاص لم تكن ممتعة، لا عقليا ولا نفسيا ولا فنيا، فقد كان المسرح يستهين بالقيمة المرجوة سعيا إلي الإضحاك الساذج، ثم لدينا بعض العروض التجريبية وغير التجريبية لم تكن تحمل قدرا معقولا من المتعة المطلوبة، المنتظرة بعيدا عن التسلية العابرة والمسطحة والساذجة، إذن نحن الآن أمام مشكلة موروثة ومستعصية كانت مؤجلة علي الدوام، تتمثل في غياب الجمهور المسرحي الحقيقي صاحب الذائقة الموضوعية والجمالية في وجود جمهور من المتفرجين الذين ورثناهم أيضا من زمن لم يكن فيه المسرح سوي للمتعة التافهة، أو المرتكز أساسًا علي «النمر المسرحية» التي كانت تقدم في المقاهي والموالد في السرادقات، وامتدت إلي الموالد، واندحرت تماما كما اندحر المسرح التجاري قسرًا بسبب الظروف السياسية والثقافية التي طرأت علي حياتنا. رؤية مستقبلية: إن مشروعنا المستقبلي لابد أن يحمل في أعطافه بث الثقافة المسرحية في المناهج المسرحية المُعدة للطلبة في المدارس، ويخضع إلي المناهج التعليمية التربوية لكي نُعد جمهورا من النوع الممتاز. تفعيل دور مسرح الطفل لكي يصبح حقيقة ماثلة متطورة في حياتنا الأسرية وأن تكون مشاهدة المسرح لأطفالنا واجبة علي الأسرة التربوية التي تمهد له هذا المناخ العلمي والثقافي الجيد لهذه المشاهدة.. وأن يكون المسرح الطلابي ليس مادة تكميلية، بل مادة أساسية. مسرح لطلبة الجامعات الذي يجب أن يصنعه الطلبة باسترشادات القدوة التي تفي دور المسرح الطلابي، وأن نفتح نافذة علي اتساع الوعي ليتواجد لأولادنا مسرح طلابي علمي قائم علي علم النفس والاجتماع وأهمية الثقافة والأدب في حياة البشر، وأن يكون مسرح الثقافة الجماهيرية والمسرح العمالي ومسرح الشركات بمسابقاته التي غابت عن الحياة المسرحية فغيبت الجمهور عن مسارح المحترفين عاما وخاصا.