تتناول رواية "رياح يناير" للكاتب أشرف الصباغ تمرد عام 1977، مستعرضاً الأسباب التي أدت إلي هذا التمرد من خلال تتبع مسيرة البطل، لنجد أنفسنا في حقيقة الأمر داخل ثورة 25 يناير، بنفس الأسباب التي أدت إلي نشوبها. وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية، يستحضر المؤلف تاريخ مجتمع يعاني من العفن، ليس فقط لأن السلطة قررت أن يحدث هذا، بل أيضاً لأن الأفراد قرروا أن يكون هذا مصيرهم، حتي لو بمجرد التواطؤ. أول ما يلفت الانتباه في الرواية أنها تحمل خطاباً أيديولوجياً، ورغم أنني لا أحب التصنيفات إلا إنها تبدو "واقعية اشتراكية". كيف تري علاقة الأدب بالأيديولوجيا؟ -لا أدب بدون أيديولوجيا. وما من أيديولوجيا بدون خطاب أدبي ثقافي معرفي خاص بها. المسألة كلها تكمن في الحِرَفيَّة، وجماليات الطرح. وأعتقد أن المدارس النقدية أيضا تنطلق من أرضية الأيديولوجيا بصرف النظر عن المسميات الرقيقة والرشيقة. وإذا عدنا حتي للمدارس الكلاسيكية في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، سنجد أن ذلك ينسحب بدرجات مختلفة حتي علي المدارس والاتجاهات التي لم تستمر وتجد التربة الأيديولوجية التي ترعاها. وفي الرواية، حاولتُ مناقشة الأيديولوجيات وليس طرحها. قد يتكون انطباع بوجود "الواقعية الاشتراكية"، وهذا ليس عيبا علي الإطلاق. فالواقعية الاشتراكية كنزعة إبداعية تمتلك الحق في الوجود كغيرها من النزعات. غير أننا إذا تخلينا قليلا عن النظرة المسبقة، سنجد الكثير من مبادئ "الواقعية الاشتراكية" قد تم هدمها. فليس هناك أي شكل من أشكال التطهير، لا للانتفاضات أو الاحتجاجات، ولا حتي لإرهاصات الثورة. وسنجد أن الأبطال غير مقدسين، بل معظمهم يرتكبون نفس الأخطاء ويكررونها. كما لا يوجد ذلك الخط المستقيم لتطور الوعي عند الشخصية عبر خطاب أيديولوجي واضح وصارم ومباشر.. كل ما في الأمر أن هناك طرحا اجتماعيا. وقد يكون ذلك هو السبب في إشاعة هذا الانطباع. استخدمت في الحوار بين الشخصيات اللغة الفصحي مع أنها شخصيات قادمة من مناطق شعبية، واستخدمت في السرد نفسه كلمات عامية، ما يعني أنك لست ضد استخدامها. كيف تنظر إذن للحوار بالعامية؟ ولماذا كان اختيار الفصحي؟ -سيظل هذا الموضوع يمثل اشكالية، طالما هناك أكثر من لغة في المجتمع. فهناك نصوص للأبطال مكتوبة باللغة الفصحي، وربما بلغة كلاسيكية تتناسب مع وعيهم وشكل الطرح الذي كانوا يطرحونه في سنهم وظروفهم ومحاولاتهم "الثورية". وربما كان ذلك أحد عوامل تدشين المسافة بينهم وبين الآخرين الذين لا يعتمدون ولا يعرفون إلا العامية التي تعتبر اللغة الأساسية للتعبير. من الصعب التنظير بشأن اللغة في الحوار، لأن ذلك مرتبطاً بوعي الشخصية وعوامل مكوناتها. ولكن لغة السرد التي تجمع بين العامية والفصحي قد تعتبر اشكالية إلي حد ما. وأنا عن نفسي أعتمد علي سلاسة السرد وانسيابيته بلغتين (وكلمة لغتين هنا مهمة للغاية). شكل السرد الذي أعتمده، أراه مثل الطفل الصغير الذي يتعامل مع الأم بلغة، ومع الأب بلغة مختلفة. وفي نهاية المطاف يبدأ الطفل في التعامل بلغتين وكأنهما لغة واحدة. أعرف أن هناك اشكاليات وتعقيدات في تقديم نص سردي علي هذا الأساس. ولكن سلاسة السرد وانسيابيته قد تكونا مبررا فنيا إلي أن نجد مخرجا من هذا المأزق. تدور أجواء الرواية فيما "تحت الواقع" بل وتصل أحياناً ل "الطبيعية"، يسير هذا بالتوازي مع أفكار مجردة عن المثلثات والمربعات والهندسة الفراغية. ما الذي كنت تريد أن تصل إليه في الجمع بين بعيدين؟ - أنا مؤمن بوحدة المعارف والثقافات والفنون والعلوم. وبالتالي مؤمن بوحدة الكون. هذا الإيمان يجعلك تري النظام النسق الذي تسير عليه الحركة بكل أشكالها حتي في إطار "الفوضي" بمعناها العلمي: حركة الذرات والجزيئات والجسيمات الدقيقة في المادة، حركة الأفراد والمجموعات في المجتمع، حركة الاحتجاجات والانتفاضات والثورات، حركة الأفكار وانزياحاتها.. تري توازيات وتحركات بحاجة إلي طرح قد يكون صعبا أو سهلا أو غير مطروق. من جهة أخري قد يبدو ذلك تعليميا أو مدرسيا. ولكننا بحاجة شئنا أم أبينا إلي التعبير عن وحدة الكون والمعارف والثقافات والعلوم والتعامل معها كجزء من العملية الإبداعية تتناول "رياح يناير" الانتفاضة ضد السلطة، والبطل القادم من الطبقة الأكثر فقراً. ألا تعتقد أن الطبقة الوسطي هي مفجرة الثورات؟ - هنا نصل إلي مربط الفرس. لقد حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن طرح التصورات النظرية أو ترديدها وتبريرها. الطبقة الوسطي كما هي لاعب أساسي في "تفجير الثورات"، هي أيضا لاعب أساسي ومهم في إجهاض الكثير من الحركة إلي الأمام. فهي الطبقة الرئيسية التي تتكون منها المنظومة الإدارية للدولة. تلك المنظومة العميقة التي تحمل كل التناقضات. ولكن إذا نظرنا بدقة سنجد أن الطبقات الدنيا بشرائحها المهمشة لا تتحدث لا عن انتفاضات ولا احتجاجات ولا ثورات. وفي الرواية، كما في الحياة، تكون هذه الطبقات والشرائح وقود أي انتفاضة، سواء بسبب تهميشها والمتاجرة بها من النظام السياسي وقادة الطبقة الوسطي، أو بسبب عدم وعيها وسيرها الدائم في خطوط متوازية مهما انحنت هذه الخطوط وتفرعت. من جهة أخري، لا يمكن أن نتحدث عن طبقات وشرائح اجتماعية بمعناها العلمي في المجتمع المصري. هناك حركة عشوائية علي كل المستويات، بما فيها الحراك الطبقي. يساهم في ذلك مجمل الحركة العشوائية لكل مؤسسات الدولة. كل ذلك له تفسيراته ومبرراته. والانتقال من طبقة إلي طبقة أو من شريحة إلي أخري في نفس الطبقة لا يعني إطلاقا في المجتمع المصري بالذات أن الفرد أو المواطن اكتسب المقومات اللازمة لهذه النقلة الاجتماعية. ولننظر إلي شخصيات الرواية من مثقفي الطبقة الوسطي الذين يجلسون لمناقشة الثورة وهي تسير إلي جوارهم! بينما المستوي الآخر يظهر في توازيات حركة المهمشين والطبقات الدنيا والشرائح الطفيلية التي قد تثير التعاطف والبكاء، ولكنها ألعن من مثقفي الطبقة الوسطي الذين يرفضون رؤية الثورة التي لا تتفق مع أفكارهم النظرية المجردة. تظهر في الرواية شخصيات حقيقية ومعروفة في الوسط الثقافي، فإلي أي مدي تشغلك فكرة الإيهام أو كسره داخل الرواية؟ وهل يمكن نسب هذه الأحداث للسيرة الذاتية أم مجرد تأليف؟ - قد يكون هذا موجود بدرجات. ولكن لنتخيل أن قارئا من خارج الوسط الثقافي يقرأ الرواية.. هل يمكن أن يتطرق ذهنه إلي هذا الموضوع؟ قد تكون هناك أسماء متشابهة، أو حادثة ما وقعت في ظرف ما أو زمن ما.. ولكن إذا كان القارئ مهتم جدا بالتلصص علي حياة هذا أو ذاك، معتبرا أن ما يكتب له علاقة بشخصية حقيقية في الواقع، فعلي هذا القارئ أو المتلصص أن يقرأ صفحة الحوادث والقضايا في أي صحيفة أو مجلة. في الحقيقة، تراودني ابتسامة خبيثة، عندما ألاحظ الغمزات والإيماءات بهذا الصدد.. وأعتبر أن هذا الغمز واللمز أحد مكونات أو هوامش الرواية نفسها أو العمل الأدبي عموما. في نهاية المطاف، يمكن أن نضع "شطحات السيرة الذاتية" إلي جانب "مجرد تأليف" لنتعامل مع حاصل تفاعلهما، حتي إذا لمحنا تفاصيل تخص شخصية ما أو حدثا ما. أليس من مهام النص الأدبي أن يفجِّر الذاكرة؟ أن يوسِّع موجات المياه في البركة الراكدة؟ لا يوجد، ولم ولن يوجد عمل أدبي أو فني أو شعري صنع ثورة أو انتفاضة. الانتفاضات والثورات تصنع في الشوارع والميادين والورش والمصانع. أما العمل الأدبي فهو حوار متحضر نسبيا من مهامه أن يثير القلق والشبهة والاشتباه.