رواية رتوش اللوحة هي الرواية الأولي للكاتبة الشابة لمياء مختار. وقد صدرت الرواية عن دار العين التي أخذت تضيف بقوة إلي المشهد الروائي المعاصر, خصوصا إبداع الأجيال الجديدة التي أخذت تصوغ ملامحها الإبداعية الخاصة التي تمايز رؤيتها أو- بمعني أدق- رؤاها المائزة عن العالم. ورواية لمياء رواية تكوين شريحة من جيل ولد مع زمن السادات, وعاصر زمن مبارك إلي أن أسهم في الثورة علية آملا- ولايزال- في تغيير جذري للنظام الذي لم يرحل بعد. والعلامة الأولي علي تشكل الوعي السياسي لهذا الجيل هي انتفاضة الخبز في يناير 1977 التي رأي أحد الأبطال الأساسيين للرواية بعض آثارها علي زملائه من الطلاب القدامي حين كان في سنته الأولي في كلية الطب. ولذلك يمكن تحديد الزمن الروائي في رتوش اللوحة بأنه يبدأ من بعد هزيمة 1967 وموت عبدالناصر وتولي السادات الحكم في مطلع السبعينيات إلي امتداد حكم مبارك لثلاثين عاما, انتهت بالثورة عليه. أعني الثورة التي نري بداياتها في نهاية الرواية, حيث يبرز جيل أشب يساهم في أحداث الثورة, علي نحو ما فعل ابن البطل الأساسي نفسه الذي سبقت الإشارة إليه. والبطولة في الرواية جماعية, إذ تتوزع أحداثها علي عشر شخصيات تقريبا, تربط بين كل اثنين منهم علاقة ثنائية, هي ثنائية تواز أحيانا, وثنائية تضاد في أحيان أخري. وتتوزع الثنائيات في تراتب طبقي, أعلاه الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة, وأدناه الشريحة الأكثر فقرا التي تتجاور مع الشريحة الفقيرة من معذبي الأرض في المجتمع. وتمضي حياة الأبطال عبر زمن صاعد, ينقلهم من الطفولة إلي النضج, ومن أول التعليم إلي ما بعد التخرج, حيث تتباين المصائر نتيجة تفاعل كل شخصية مع واقعها الخاص والعام, خاضعة لكل المؤثرات التي تمايز ما بين الشخصيات من ناحية, وتسهم في تكوين اللوحة الروائية التي تتولي تصوير حياة الأبطال الأساسيين والفرعيين بكل رتوش اللوحة وتفاصيلها من ناحية موازية. وهي الدلالة التي ينبني عليها عنوان الرواية: رتوش اللوحة. أعني دلالة لا تبتعد كثيرا عن حيوات الأبطال الذين يبدون كما لو كانوا انعكاسات متغايرة الخواص للمؤلف المضمر الذي ليس متورطا بحكم النشأة في نشاط سياسي مباشر, فالأبطال كلهم عينات لشرائح اجتماعية, تتأثر بأحداث وطنها, ويحركها شعورها الوطني لكن دون أن يكون واحد منها عضوا في حزب, أو جماعة, فهم جميعا يحملون الهموم الوطنية نفسها, بحسب الوضع الطبقي (ومن ثم الوعي الطبقي) لكل شخصية من الشخصيات. ولذلك نراهم بعيدين عن النشاط السياسي الذي يتخذ شكل الانتماء إلي جماعة سرية أو علنية, أو حتي حزب. والمسارات المتوازية أو المتعارضة التي يمضون فيها, خلال الزمن الروائي, هي مسارات تحدد الملمح النوعي للرواية من حيث هي رواية تكوين نري فيها تعاقب أشكال التفاعل الإجتماعي التي تجعل الأبطال علي ما هم عليه. وانتماء أغلب الأبطال للطبقة الوسطي بشرائحها المختلفة يجعل منهم نماذج لأبناء هذه الطبقة التي هي العمود الفقري للمجتمع المصري. وهي الطبقة التي تنتج اليمين واليسار, في كل تنوعاتهما الفكرية, والتي هي منبع الفضائل والرذائل علي السواء. وهي الصفات التي قامت بتأصيلها روايات نجيب محفوظ علي وجه التحديد, خصوصا في مرحلته الاجتماعية. وإذا كان محفوظ كتب عن القاهرة 30 ومضت الأجيال المعاصرة له أو اللاحقة له في الكتابة عن قاهرة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات, فإن جيل لمياء مختار يكتب عن قاهرة الثمانينيات والتسعينيات إلي مطالع القرن الحالي الذي شهد نهاية زمن وبداية زمن لم تتشكل ملامحه بعد. ولذلك نري في رواية لمياء شخصية علي الانتهازي الذي يغدو أستاذا في كلية الطب مجاملة لأبيه الأستاذ الكبير, ويتنقل ما بين ملامح الفساد, بعد أن فقد حلم البراءة الذي كانت تجسده مروة زميلته التي تنتسب إلي شريحة اجتماعية أدني, ويظل علي البرجوازي علي ما هو عليه من انتهازية إلي أن ينال عقابه القدري بمرض ابنه. وفي مقابل شخصية علي شخصية أخته نورا التي تفضي أزمة وفاة والدتها بها إلي الانغماس في التدين والإفراط فيه, لعلها تهرب من مأساتها, فينتهي بها الحال إلي الوقوع في شباك جماعات التطرف الديني, فتنفصل عن صديقتها أسماء التي تمثل التدين الوسطي والعقلانية المدنية, وذلك في ثنائية ضدية توازي الثنائية نفسها التي تصل بقدر ما تفصل بين علي ومجاهد, وتمضي الثنائية الضدية نفسها لتصل بقدر ما تباعد بين مروة وعلي, وبين أحمد وهديل, وذلك مقابل علاقة التوازي التي تصل بين مسار عبير ومجاهد. وظني أن غلبة الثنائيات الضدية علي علاقات الشخصيات إنما هي علامة علي زمنها الروائي وزمنها التاريخي في آن. ويفرض نوع الرواية, من حيث هي رواية تكوين, حضورها علي تقنية الحكي, فالراوي يبدأ من الزمن الحاضر, عائدا إلي نقطة البداية للتعاقب التاريخي لحيوات الشخصيات, وذلك علي هيئة حركة بندولية جزئية للزمن, لا تتعارض مع المسار الكلي للاسترجاع, حتي لو أدت إلي ارتباك السرد في بعض المواضع. وهو أمر يشفع له قدرة التشويق في القص, ورسم ملامح الشخصيات, وإيقاع التوازن بينها, وذلك في نسيج لا يخلو من علاقات التناص والإشارات إلي الأعمال الإبداعية التي تسهم في تحديد التوازي بين الزمن الروائي والزمن التاريخي. قد يجد القارئ الخبير بالفن الروائي بعض الاستطرادات هنا أو هناك, وبعض الإسراف في النزوع الأخلاقي, وشيئا من التورط في اتخاذ مواقف سياسية, أو تسطيحا لبعض المواقف, ولكن كل هذه الهنات هي ضريبة البداية التي قد تقترن ببعض الرعشة التي تصيب الأصابع التي تضع رتوش اللوحة. وهي رعشة يغفر لها النتيجة التي تدل عليها اللوحة نفسها بكل ما تنطوي عليه من وعد بما هو أكمل. المزيد من مقالات جابر عصفور