»اخترت الطريق الذي يناسبني« بهذه الكلمات البسيطة بلور الأيب جارالنبي الحلو مجمل تجربته. لم يكتب سوي ما يشعر به.. تمسك بالبقاء بمدينته المحلة الكبري، رغم أن جميع الأصدقاء تركوه ورحلوا، بقي هناك وعبر عن مدينته في رباعية خالدة: حلم علي نهر، حجرة فوق السطوح، قمر الشتاء، عطر قديم. في هذا الملف نلقي الضوء علي تجربة هذا المبدع، الذي أهدانا فصلا من روايته التي لم تنشر من قبل وتحمل عنوان»العجوزان« كما كتب لنا عن علاقته بمدينته، وحاورناه لنعرف هل استطاع أن يحقق شهرته كمبدع وهو في مدينته أم شعر بالندم لأنه لم يغادرها، وبكلمات تحمل حبا شديداً لجار ولتجربته تجئ شهادة الأديب سعيد الكفراوي بعنوان »كون لجار النبي الحلو«. ولدت في مدينة المحلة الكبري، عشت فيها عمري وحكاياتي وقصصي ورواياتي. عاشت فيّ فصرت و الشوارع والأزقة والحواري أصحاباً بيننا ألفة. منذ سبعة وستين عاماً ولدت في بيت علي نهر بناه أبي ليفرحنا بجنينة صغيرة تفوح منها رائحة النعناع والريحان والتمرحنة. منذ طفولتي أصبحت ولعاً بحواديت العفاريت ومتابعة نمو الشجر، وتصادقت مع زهور البنسيانا الحمراء من شجرتين أمام بيتنا. من النهر استخرجت حكايات الغرقي، وسحر الصمت حين أكون في المركب مع صاحب أبي. كان أمامنا النهر ثم الغيطان الممتدة بلا نهاية، وخلفنا كانت المحلة التي بدأت طفولتها مع الفراعنة مروراً بالتاريخ المصري حتي اليوم، خلفنا المحلة ومصانعها الكبيرة والصغيرة والأنوال والصباغة ودكاكين البقالة ودكاكين بيع الراديو وعربات حنطور. للمحلة شكل المدن في الشوارع والأسفلت والمقاهي المضيئة التي كان يزهو فيها الراديو بمكانة لائقة، أيضاَ في المحلة بوسطة وبلدية وكوبري سفلي ودور سينما. في السابعة كنت أقطع شارع العباسي التجاري ولكن بدون العشوائيات والصخب الذي يميزه الآن، حتي أعبر النهر علي الكوبري لأقابل أبهي ما يميز حياتي وأجمل ما حطني مباشرة في قلب الخيال: السينما. بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات تبدل وجه المحلة وتجهم، غزت الملابس المستوردة السوق، الطوابق الأولي للبيوت تحولت لسوبر ماركت، ودكاكين الموبايل، ومكاتب مجهولة، وباعة جائلين يحتلون الشوارع والغيطان صارت أبراجاً بالطوب الأحمر وليست مسكونة. هكذا المكان الذي عشقت فيه كل بهجته وألمه وهواجسه وأحلامه وإنكساراته في رواية من أربعة أجزاء عن المحلة هي: حلم علي نهر، حجرة فوق السطح، قمر الشتاء، عطر قديم وبالمناسبة كتب عن المحلة أيضاً فكري الخولي رواية الرحلة، كما كتب عباس أحمد عن المحلة رواية البلد. أعرف كل شخوص رواياتي قابلتهم في البيوت والطرقات والمقاهي والمدرسة، قدمتهم بشكل فني في مآزقهم الحياتية، أحلامهم، انكساراتهم. في الأجزاء الأربعة الشوارع باسمائها ودور السينما والأحياء، الروح والجغرافيا في آن. لم أفقد عمري الذي مضي لأنني كتبته، انحزت في كتاباتي للفقراء والمهمشين، وجذبني حي الغجر، اقتربت من نارهم ووشمهم ودورهم الطين، ركبت القطار الفرنساوي الذي كان يتهادي أمام خيامهم، كنا نقفز منه وهو ماض في طريقه، لعبت كرة القدم في ساحتها وشوارعها، وجلست وقرأت في دكاكين الكتب، بقروش قليلة صار عندي مكتبة وانا في الثانوي. أعطيت المحلة عمري واعطتني سر الشخوص وحواديت الخيال الشعبي وكنوز الدهشة، وكتبت متعتي الحقيقية في كتاب "حكايات جارالنبي الحلو". هي المحلة التي ألتقيت فيها برفاق العمر من الكتاب والمثقفين: جابر عصفور، سعيد الكفراوي، محمد صالح، نصر أبو زيد، رمضان جميل، فريد أبو سعدة، المنسي قنديل، أحمد الحوتي، محمد الرفاعي، صالح الصياد، عبدالستار محمود. كنا ننطلق من قصر الثقافة إلي ظلمة الشوارع وفضاء حرية الفكر، نتسكع، نأكل الطعمية، نجلس علي سور "المستعمرة"، ونمدد علي حواف الترع، ومن قصر ثقافة المحلة إلي مكانين أثرا فينا جميعاً من حيث التكوين والتعرف علي العالم الثقافي: شقة سعيد الكفراوي في شارع الانتاج، وحجرتي فوق السطح بالوراقة. وحين غادرها الجميع لمنصب أو دراسة أو هجرة كلها للقاهرة لم أغادر، حتي اللحظة أمر علي اسواقها، علي الصهاريج، باعة الجرائد، والشون .. هو ميدان الشون .. ميدان الثورة حيث سهرنا فيه الليالي رافعين أعلامنا المصرية بفرح المستقبل. هنا .. كان النهر، وساحات اللعب، وشون القطن، وأشجار البنسيانا.. تبدلت الوجوه والأماكن والأحلام ولكن تسكنني المدينة وأسكنها.