من علياء قامته النحيلة السامقة، وملامح وجهه المنحوتة في استطالة مميزة، خاصة في الأنف والذقن، يجلل هامتها شعر أبيض مهوَّش وشارب رمادي مثل قوسين فوق فم مضيء ببسمة تشرق بحذر في ظهور عزيز كشمس الشتاء وسط صمت ممتد علي شفتيه، مضمرا حزنا نبيلا يليق برسول، أو بإحدي شخصيات الفنان الجريكو، ومن شرفة عينين عميقتي الخضرة نافذتي النظرة كأشعة الليزر، يظللهما حاجبان نافران كحارسين.. كان يطل علي من حوله وما بين يديه وعلي العالم بغير كبرياء، نائيا عنه وحميما إليه في الوقت ذاته، يختزن المشهد ويحلله ويفككه ويعيد تركيبه داخل ماكينة عقل دائم اليقظة، يرسم بخطوط موجزة تعرف طريقها إلي الهدف من أقصر طريق، أو يصمم غلاف "صباح الخير" بحس شعبي زخرفي أو تعبيري هندسي، أو يصور لوحة زيتية من دروب قري الواحات أو جبال وسهول سيناء أو حواري القاهرة التاريخية، أو يضع تصميم الأزياء الريفية أو البدوية أو النوبية لرقصات الفرقة القومية للفنون الشعبية، أو يخطط الإطار الجرافيكي والمانشتات الصحفية بخط رشيق يرسمه بيده لمقال أو موضوع علي صفحات "روز اليوسف" أو "صباح الخير"، أو ينظم حملة للباحثين عن التراث في أقاليم مصر النائية، أو رحلة نيلية للفنانين لتسجيل تراث النوبة ومراحل بناء السد العالي. كان عبدالغني أبوالعينين (1929 - 1998) هؤلاء جميعا في شخص واحد، لكن الموهبة التي تجمعهم علي اختلافهم لم تكن فنية فحسب، إذ إن الموهبة الإبداعية تكون شخصية بالطبيعة، إنما كانت خلف ذلك كله موهبة المواهب، وهي القدرة علي جمع القلوب حوله، فيتحول العمل الذي يقوم به إلي ورشة جماعية، تتفتح من خلالها مواهب الآخرين، ويقوم هو فيها بدور الأسطي... هكذا بدأ منذ أوائل الخمسينيات في مجلة روزاليوسف، وهو يؤسس ملامح مدرسة جديدة للإخراج الصحفي بدعم من السيدة فاطمة اليوسف وإحسان عبدالقدوس وعدد من الكتاب والفنانين الثوريين، وظهر لأول مرة مصطلح (رسم الصفحة) وهو فن التوضيب أو الإخراج الصحفي، بدءاً من شكل حروف المطبعة وخطوط المانشيت ووضع الأعمدة وترك الفراغات البيضاء أو المظللة أو الملونة التي تتنفس المادة من خلالها، والعلاقة بين الأعمدة المرصوصة وبين الرسم والصورة والفراغ، وصولا إلي الاستغناء تماما عن الصور الفوتوغرافية والاعتماد علي الرسوم التوضيحية والكاريكاتيرية، وإلي الاستغناء عن حروف المطبعة التقليدية في العناوين، لتحل محلها خطوط مرسومة فنيا بريشته في ايقاعات شابة لم تعرفها الصحافة من قبل، ليتطابق بذلك، الشكل الجمالي المتحرر، مع المضمون الفكري والسياسي لمجلة ثورية معارضة للنظام، وعمل طوال الوقت علي تكوين مجموعة من الفنانين والفنيين يتشاركون كل يوم في ورشة عمل مفتوحة لاتخلو من الفكاهة والصخب والقفشات والمقالب الطريفة، فيما يقف بينهم كعمود الخيمة، صامتا أغلب الوقت، متقمصا سمت الجدية، ينثر التعليقات الناقدة والمحفزة أو دعاباته الخافتة ومقالبه التي تكتسي بالبراءة. لذلك لم يكن الأمر بحاجة إلي مجهود كبير لإصدار مجلة صباح الخير عام 1956، ليكون هو "الشيف" لمطبخها الصحفي، وكان في السابعة والعشرين من عمره، مقاربا لسن أغلب أفراد المجموعة من الرسامين والشعراء والصحفيين.. تلك المجموعة المحتشدة بمواهب فوارة ومتعطشة للتجديد.. الفرق الأساسي بين صباح الخير وبين روزاليوسف أن رئيس تحريرها هو أحمد بهاء الدين الذي كان في نفس السن تقريبا، وأكثر حماسا وجرأة لجعل المجلة تحقق شعارها الذي اتخذته منذ أول عدد "مجلة القلوب الشابة والعقول المتفتحة"، وفيما كان الفنان حسن فؤاد هو مؤلف الرؤية التشكيلية كنص جمالي يضم رسوم الفنانين مصاحبة للكتابات، فإن أبوالعينين كان المايسترو الذي يقود العازفين لترجمة هذه الرؤية إلي أنغام