لا أحد بمن في ذلك المتحمسون لمشروع النشر في وزارة الثقافة، ينكر أنه في أزمة، وأنه فقد ثقة القارئ تماماً ، والعارفون ببوطن الأمور يعرفون أن تقليد "سلاسل النشر" سواء في هيئة الكتاب أو الثقافة الجماهيرية ما هو إلا " غلوشة "علي النشر ، فهذه السلاسل المشكورة من البعض لا تطبع أكثر من ألفي نسخة في أفضل الأحوال، ولما تنفد، وطبعاً نادراً ما يحدث هذا، لا توجد آلية ولا لائحة لإعادة طبع الكتاب كما هو متبع وبديهي في كل دور النشر عبر التاريخ، وذلك لأنه كتاب مدعوم بالكامل تقريباً، وإعادة طبعه مهلكة فعلياً لهذه المؤسسات . وأنا باعتباري ضليعاً في نشر الثقافة الجماهيرية لن أتحدث عن خيباته والتي لم تكتف بالسلاسل التي لا معني لها ولا المجلات التي لا معني لها وإنما وصل إلي عبث الإدارات التي لا معني لها سوي انتهاز النشر، تصور أن الثقافة الجماهيرية بها الآن ما لا يقل عن أربع إدارات عامة ممولة وإدارتين مركزيتين يرأس كل واحدة منهما وكيل وزارة ولا عمل لهم إلا النشر الذي تقوم به فعليا إدارة صغيرة واحدة- وسأنتهز الفرصة لتقديم مشروعي الذي قدمته مراراً وتكراراً لمسئولي الثقافة الجماهيرية لكن هيهات في ظل هذا الولع المجنون بالنشر الوهمي، وهو يتلخص في توزيع الكتاب، أو علي الاقل المزاوجة بين نشر الكتاب وتوزيع الكتاب في وزارة الثقافة عموماً وفي الثقافة الجماهيرية خصوصاً. الدولة الشمولية.. لا الأدق وزارة الثقافة من أول جمال عبد الناصر حتي حسني مبارك تولت أمرالانتاج الفني والثقافي عموماً والنشر خصوصاً، وهي تولته كخدمة ورسالة مدعومة بالكامل تقريبا، ولا يمكن انكار أنها أنجزت، وفي السبعينيات والثمانينيات احتكرت تماماً صناعة النشر علي الأقل علي مستوي نشر الأدب، وكل ما عداها كان عبارة عن مطبوعات ماستر علي طليعيتها وريادتها الأدبية فقيرة ومحدودة الانتشار، وفي التسعينيات أنجزت عدة مشاريع كبري طورت فعلياً في شروط صناعة وتوزيع الكتاب ونجحت في توفير الكتاب الأدبي بأيسر الأسعار بل يكاد أن يكون مجانياً ومع باعة الصحف علي قارعة الطريق . لكن هذه الطفرة بل قل الثورة في الصناعة والانتاج لم تواكبها الطفرة المأمولة في التوزيع والرواج ، وظهرت أو قل استفحلت المعضلة العويصة: الكتاب جيد وعلي أعلي مستوي طباعي من أول الغلاف للورق ومجاني تقريباً ولا يوزع، وهذه الأعجوبة نموذجها الأمثل المركز القومي للترجمة وطبعاً الثقافة الجماهيرية التي يعمل بها قرابة العشرين ألف موظف وكتابها في الغالب الأعم لا يوزع مائتي نسخة، وهذه المأساة وهي لا ترجع فقط للمادة المنتقاة -وإن كانت سبباً معتبراً- وإنما الأهم الي ما أكاد أسميه انعدام الثقة بين القارئ ، والقارئ الادبي تحديدا وبين الكتاب المنتج في وزارة الثقافة واتجاهه كليا للناشر الخاص ، ليس هو فقط وانما الكاتب نفسه اتجه للناشر الخاص ، وظهر تقليد والأدق جرح اضطرار الكاتب لتحمل تكلفه كتابه للفرار من مصير، وطبعا سياق، النشر الحكومي المدعوم، وبات طبيعياً أن معظم الأعمال الأدبية التي راجت في ربع القرن الاخير صدرت من دور نشر خاصة ، وانه علي تعدد السلاسل التي تتبني الكتابات الشابة في هيئة الكتاب والثقافة الجماهيرية والمجلس الأعلي للثقافة تخرج الكتابات الشابة الطازجة والجديدة والرائجة والمتجاوزة حقا من دور النشر الخاصة ، وأن الأعمال الكاملة لأساتذة كبار من أمثال خيري شلبي و إبراهيم اصلان مثلا مطبوعة في هيئة الكتاب وتباع كاملة بسعر اقل من سعر عمل واحد لأي منهما صادر عن دار الشروق مثلا لكن عمل الشروق يوزع أكثر! وكلها شواهد تثبت أنه آن الاعتراف بأن النشر الحكومي علي انجازاته غير المنكورة غير متمكن من شروط الانتاج والتوزيع المثلي للكتاب الأدبي عموما والكتاب الحرّ الجديد المتجاوز خصوصا ، تكفي حقيقة انه من المال العام ودافعي الضرائب لتصعيب مهمته ، وأنه آن الأوان لدعمه او قل تطويره بالتوزيع، من خلال مشروع قومي كبير لتوزيع الكتاب في مصر من أقصاها لأقصاها، وجعل علي الأقل عرض الكتاب معلما واضحا وثابتا في أي مكان. والثقافة الجماهيرية بمواقعها وكوادرها وإمكانياتها وخبرتها الطويلة مهيأة تماما لهذا المشروع، بل انه لا توجد مؤسسة كبري تليق او حتي توجد تقدر علي تنفيذه سواها، وهو مشروع لا يقتصر علي توزيع الكتب وانما يشمل كل مجلات الانتاج الثقافي والفني ، ولو اسس له جيدا سينقل الثقافة الجماهيرية من دور (المنتج) كأي منتج للآداب والفنون إلي الساحات الكبري المحتضنة لكل الآداب والفنون. لكن خلينا في مشروع توزيع الكتاب، وهو طبعا غير مقصور ولا يجب أن يكون مقصوراً علي انتاج الثقافة الجماهيرية ولا مطبوعات مؤسسات وزارة الثقافة عموماً ولكن مفتوح للكتاب المصري من كل دور النشر المصرية وفي كل المجالات، وهذا فضلاً عن كونه سيكون أول وأوحد مؤسسة لتوزيع الكتاب في مصر فإن النسبة المستحقة من توزيع الكتاب ستدعم إنتاج الكتب، وستحد من الأعباء المالية المنهكة التي يتكلفها الكتاب المدعوم الذي يذهب سالماً إلي المخازن، ثم إن تبني الثقافة الجماهيرية لهذا المشروع يمكن أن يساهم في تخفيض أسعار الكتب في مصر عموماً بتخفيض نسبة التوزيع التي تصل أحيانا إلي 60٪ من سعر الكتاب، كما أنه سيوفر فرصة أكبر لرواج أو علي الاقل عرض مطبوعات الثقافة الجماهيرية ووزارة الثقافة عموماً في سوق نشر حقيقية بين أهم الأعمال التي أصدرتها كل دور النشر المصرية علي الأقل .