حين جلس علي طريق مكة ذات نهار صائف من شهر آب وهو يراقب سلسلة القوافل البرية من الجمال والحمير والبغال التي تعبر في رحلة الشتاء والصيف مرة إلي الشام وأخري إلي أرض اليمن في درجة حرارة قد تصل أحياناً إلي حد الجحيم سأل لماذا لم تكن هذه المدينة مثل سائر المدن التي رآها طوال حياته وأثناء عبوره في كل تلك الصحراوات المترامية الأطراف من مكة إلي مدن الشام ومن أرض نجد إلي صنعاء هناك حيث بساتين اللوز والمشمش والتفاح البري وعسل النحل والزيتون والرمان والجنات التي تجري من تحتها الأنهار والأنهار التي تجري من تحتها الجنات من الشمال إلي الجنوب ومن الجنوب إلي الشمال ناهيك عن البنات الأسطوريات واللائي كن يتراءين له في الحلم واليقظة وهن يتخطرن في ملاءاتهن الحريرية والمحبوكة علي أجسادهن كالتماثيل والوشم في دمشق واللاذقية والرقة مدينة عشتار المقدسة وكذلك علي أرض الفينيقيين العظام التي تشبه عِرْق الجنة والتي تتغطي بالحسناوات من النساء الفارهات والصبايا كأنهن اليواقيت والمرجان أما عن الولدان الذين يمشون في الشوارع الخلفية أو يجلسون علي الأرائك كالتحف المزركشة وفي أيديهم مزاميرهم ودفوفهم وهم يغنون ويرقصون مثل الحمامات أو كأنهم ملائكة الرب وقد هبطوا إلي الأرض فجأة وخيطوا الشمس إلي جباههم بضحكاتهم التي تشبه حبات الكرز وأجسادهم التي تتفوق علي البللور والزمرد فحدث ولا حرج الأمر الذي يمكن معه للرائي أن يري الماء وهو يتحدر من حناجرهم إلي كافة شرايينهم كأنها الأنهار التي تصب في الأنهار والبحر الذي يجري إلي البحر ولا يحتاج الرائي كذلك إلي سعة أفق وهو يحدق في السماء الواسعة ليتطلع إلي النجوم التي تلمع والشهب التي تتنقل من مكان إلي مكان إذ ذاك تذكر حياته التي أنفقها فوق هذه الصحراوات وهو يتنقل من بادية إلي بادية ومن وادٍ غير ذي زرع إلي وادٍ غير ذي زرع خلف الأغنام والزبل وليس ثَمّ غير السحالي والثعابين التي تبخ سمها وتبحث عن فريسة والشمس التي تأكل صدره وتجعد أرض روحه المرحة وخلفته هناك كالخرقة من الجوع والعطش كذلك تذكر عمه الذي كان يلفه في بردعة من الصوف في ليالي الشتاء القارسة البرد والذباب الذي كان يتنطط علي السكك والشوارع هناك في بطن مكة ليأكل أي شيء و كل شيء ولا يترك في الحُفَر سوي حبات التمر الناشفة وتذكر أمه التي تركته في يد مرضعة أجنبية علي ما يذكر كان اسمها حليمه وظل لسنوات لا يعرفها أو يتذكرها إلي أن ماتت في ليلة جهنمية بالتيفود وتذكر كذلك الدم الذي كان يسيل للركب بين القبائل من أجل جحش هارب أو بئر فارغة أو حتي نخلة ضاوية وأن السنوات التي أنفقها في هذه المدينة سوف يأكلها الرمل ويسفها الهباء واللا معني في قلب كل تلك الصحراوات التي تغص بالعفاريت وقردة البابون المفترسة إلي أن رأي ذات ليلة ذلك الحلم الحلم الغريب الشامخ والذي ظل يطارده لليلتين كاملتين كأن ملاك الرب الحارس يشق صدره ويخرج قلبه من جوفه الذي رآه كاللؤلؤة وأخذ يمص منه الدم حتي أصبح القلب كالبذرة ثم أخذ يغسّله بالثلج والبَرَد وهو مغمي عليه إلي أن أعاده إلي صدره الذي انشق إلي نصفين و أخذ ينبض كالذبيحة وأمره أن يصعد إلي الغار هناك في أعلي الجبل لمدة أربعين ليلة تماماً كما فعل موسي علي الطور وهناك سوف يتجلي له ملاك الرب الحارس كما تجلي لموسي وإبراهيم وإسحق ويعقوب من قبلُ وقال له لك ولنسلك أعطي كل هذه الأرض وكما أمر نوح النبي أن يصنع سفينة وتجري في البحر بأمره من قبل أن يأتي الطوفان أنت نفسك سوف تكون طوفان كل هذه الأرض وكالسفينة التي تبحر فوق الرمل سوف تلقي بقلوعك ومراسيك كلماتك سوف تنحفر علي الصخر وضحكاتك سوف تحتفظ بها الريح كل ما تقول أو تفعل سوف يردده العالم من بعدك وسوف تصبح أسطورة من الأساطير التي تغير وجه التاريخ والزمن سوف تقعد بمفردك علي دكة خشبية وتحت عمود الخيمة يضئ وجهك وإليك سوف يشير كل عابر سبيل الآلاف سوف يهتفون باسمك والملايين سوف تتبعك إلي أي مكان تذهب إليه بأنيابك وأظافرك سوف تصبح ملح الأرض وسوف تنحت جوف الصخر و من كل ثقب إبره سوف تنفذ بكلماتك لا بعصاك سوف تغير وجه الكلمة الكلمة التي هي أنا لأنه في البدء كان الكلمة وفي الختام كذلك يكون وسوف تصنع أنت الآخر فُلْكاً ولكن هذه المرة من الفقراء والمعوزين لكي تبحر فوق الأرض التي لا تصلح فوقها أي سفينة وأن الرب لا يكرر نفسه ولكن لا تجرب الرب الهك الحي أبداً وسوف تأتي الجنات والأنهار إلي بطن مكه وكذلك سوف تأتي الحسناوات من النساء من كل فج لكي يطفن حولك ويتمسحن بالتراب الذي كنت تمشي عليه ويشربن من نفس البئر التي كان يشرب منها قبلك إسماعيل وأمه هاجر في قلب الهاجرة يطفن حولك وهن يضربن بِخُمُرهن علي جيوبهن وسوف تتحول هذه الأرض في يوم من الأيام إلي معجزة من معجزات الرب وإلي جنة من الجنات التي تسحر اللب وتدير الرأس تحت كل هذه الشمس الحارقة لكي تكون هناك معجزة في قلب الصحراء وبين كل هؤلاء الوحوش من الأعراب والبدو الرحل سيختفي أثر الجمال في الرمل وتحط الطائرات والحوامات وستفيض الأرض بالنفط بدلاً من السمن والعسل أو المن والسلوي وسوف يقصدها كل عارف وصاحب تجارة وسوف تعج الأرض بالصلوات واللبن أرض خير تكون وتحت سماء تحرس وترعي ومثلما تجلي الرب لموسي فوق جبل سيناء المقدس من خلف العليقة سوف يجعلك الرب آية للناس لك ولنسلك من بعدك سوف أعطي هذه الأرض أمةً تكون وحدك وأمةً تبعث وحدك وخلفك مدن وشعوب تسير في نفس الطريق الذي تسير فيه وسوف يقتتلون علي كل كلمة تخرج من فمك ويؤولون كل حرف يقول به لسانك هنا أخذ النبي يفرك عينيه ويصرخ في قلب الغار أين أنت يارب موسي وهارون وما هو شعبي وامرأتي عاقر ولم يبق لي ولد علي الأرض ليرثني !!