فتحت عيني بصعوبة بعد سهرتنا الطويلة الصاخبة بليلة الأمس, كنت أقف مشرئبا بمنتصف ملعب كرة قدم, علي نقطة البداية, بمنتصف الدائرة المخطوطة بالأبيض ووجهي شطر المرمي مباشرة, أرتدي بدلتي الكاملة ورابطة عنقي الأنيقة القابضة علي تفاحة آدم دافعة إياها لأعلي, كان الجاكت لامعا مناسبا لسهرة حافلة, والقميص مجسما لجسدي وحذائي الجلدي أملس لا تمسه الأتربة, اقترب مني الحكم وقطب جبينه وهو يشير إلي بسبابته أن أبدأ, ثم أشار لساعة يده موضحا أننا تأخرنا عن الموعد المحدد, أطلق نفيرا متكررا من صافرته المستقرة بين شفتيه, شعرت أنني يجب أن أجاريه وامتثل لطلبه, فقررت أن أبدأ, لم أجد كرة بين قدميّ, اقتربت حثيثا من الحكم وقلت له " أين الكرة؟ أنا لا أجدها", انفعل الحكم ووقع نظري علي ركبتيه العاريتين فكتمت ضحكة داخلي بينما قذف الحكم بصافرته من فمه حتي طارت خلفي وصاح معنفا "ابحث عنها يا أخي." جريت علي الأرض المعشوشبة ويبدو أن أحدهم قد رطب أرضية الملعب ببعض قطرات الماء فشعرت بأقدامي تنغرس قليلا بين الأعشاب, ظل الحكم يترقبني ويركض بجواري ولكنه أبقي علي المسافة التي تفصل بيننا, تعثرت في رجل افترش الأرض بجوار زوجته وأمامهما صينية بدت ساخنة من فرط الدخان المتصاعد من بين ضلوعها محملا برائحة ورق العنب, تجنبت الرجل والتفت إليه معتذرا فصدمت ولده وهو يلعب مع أخيه ويحفران بأرض الملعب... فككت رابطة عنقي وما لبثت أن طارت أثناء جريي بحثا عن الكرة الضائعة. استوقفني صوت يصيح باسمي, فألتفت إلي يميني, كان المدرب ينادي عليّ من خارج الملعب, قال بلهجة حماسية " تقدم.. تقدم", ولكنني توقفت لأتأمله, كان حليق الرأس تماما, ظننت لوهلة أنه من أولاد حسن, غيرت وجهتي وتقدمت نحو خط التماس مقتربا منه بابتسامة طفولية شاردة وغاصت يدي بجيب البنطلون بحثا عن الكاميرا لألتقط لي صورة مع نجم طفولتي, عبس الكابتن وعلا صوته المبحوح بالصراخ والشتائم, أشار إلي بوسطاه وقال مجددا" تقدم إلي الأمام .. تقدم". عدت لأتقدم باتجاه المرمي مرة أخري, عبرت بين مجموعة من الفتيات الحلوات اللاتي اعترضن طريقي, اصطدمت بأجسادهن عمدا ودون قصد, عطلوني قليلا قبل أن أمد يدي وأضم إحداهن واخذها بطريقي, لم أتبين ملامحها جيدا إلا بعد أن جرينا بعض الأمتار. نظرت خلفي إلي الفتيات, لمحت سمراء نافرة النهدين, كدت أفلت يدي من بين يد فتاتي عائدا إلي السمراء, لكنها لوت ذراعي حتي كاد ينكسر بين قبضتها, دفعتني إلي الأمام غصبا فأطعتها. أثناء جريي وعند اقترابنا من حدود منطقة الجزاء, لحقت برجل عجوز, نظر إلي عندما سمع صوت لهاثي وسألني بصوت متقطع مرهق "هل وجدتها؟", سكت لدقيقة ثم قلت "ما هي ؟", فأجابني "الكرة يا ابني, الكرة" ! كنت قد نسيت أمر الكرة برمته, نسيت أنني أبحث عنها, وكان اهتمامي بالركض فقط. علي دائرة منطقة الجزاء جلس شاب طويل الشعر يشرب الخمر ويضحك وهو يردد بصوت متقلب من جملة لأخري " لا توجد كرة, لقد أوهموكم.. الملعب يخلو من الكرات." لمحت شابا يضاجع فتاة شقراء علي خط المرمي, صوت تأوهاتها وصلني عبر منطقة الجزاء, كانت تمارس عهرها دون أي خجل من النظرات المتابعة, تسمرت للحظات أتابعها حتي خطفت نظري نيران مشتعلة بجوار راية الكورنر اليمني, كان رجلا قد أشعلها ورفع راية بجوارها وأعلن استقلاله عن باقي الملعب, قال أنها أرض أجداده, علق أحد المارة قائلا " لا بد أن جده كان روبرتو كارلوس." لقد تاهت فتاتي ولم ألحظ تيهها إلا متأخرا, لم أعبأ, النساء هنا كثيرات والرحلة مرهقة وطويلة. أوقفت شابا يدخن سيجارة مستوردة, وسألته عن الكرة فسألني بعين نصف مفتوحة "أي فريق تتبع ؟؟". أوووف, كيف فاتني أن أسأل هذا السؤال, كادت المباراة تنتهي دون أن أعرف أين الفريق الذي ألعب له, هل كان يجب علي أن أجري بالاتجاه المعاكس!! ولكن الكابتن أشار إلي أن أتقدم وهو خبير بتلك الأمور. كان عليّ أن أسأل الحكم, غير أنه أختفي وسط الجموع. منعني ضابط من دخول منطقة الست ياردات, قال لي أن دخولها يتطلب تصريحا من المسئولين عن إدارة الملعب, سألني عن رقم فانلتي, تحسست بدلتي واعتذرت له أني لا أملك رقما, فكاد يقبض علي قبل أن أعطيه خمسة جنيهات ثم أضفت خمسة أخري. عندما اقتربت من خط الست ياردات, أدركت أن من يضاجع الفتاة الشقراء هو حارس المرمي, لم يكن يرتدي إلا قفازه المميز, لقد ترك المرمي خاويا وانغمس في حضنها الساخن. الجو حار جدا بمنطقة الجزاء, قال لي أحدهم أن منطقة الجزاء تمر بالقرب من خط الاستواء. وقف رجل بذقن مهندمة علي حدود المنطقة مخاطبا جماهير تحيطه, دفع رشوة إلي مساعد الحكم علي خط التماس فأعطاه دكة البدلاء, صنع منها منصة ووقف فوقها وبدأ يصيح بهم ثم رفعه بعضهم علي الأعناق وهتفوا باسمه وهتفوا للقدس حتي هاجمتهم قوات الأمن المركزي مرتدين فانلات فريق برشلونة بالخطوط الحمراء والزرقاء, مغطين رؤوسهم بالخوذ وحاملين عتادهم, وألقوا علي المتظاهرين قنابل مسيلة للدموع. مازلت لا أجد الحكم. انضممت إلي جمع يصلي صلاة المغرب, خلعت بدلتي وحذائي واستقمت بين الصفوف, صلينا ثم ذهبت لأصافح الإمام, بدا شبيها جدا بباراك أوباما, ابتسم ابتسامته الشهيرة ورد تحيتي بالإنجليزية. ذهلت وتحركت بالجوار دون أن أرتدي ما خلعته من ملابسي. بالكورنر الأيسر تجمع بعض الشباب بجوار راية الزاوية بينما تغطيهم سحب من الأدخنة, سحبت كرسيا وأشرت إلي النادل طالبا كوبا من الشاي, نسيت سبب وجودي هنا مرة أخري, بحثت في أركان ذاكرتي دون جدوي, طرطقت أذني آملا في التقاط أية معلومة عن الهدف من تلك المباراة, سمعت رجلا يتحدث عن فرح سيقام الليلة عند نقطة الجزاء, تحدث الرجل عن زجاجات البيرة وراقصات من كل صنف ولون وأغان مبهجة. تركت عملتين معدنيتين للنادل علي الكرسي الخشبي ورحلت متجها نحو نقطة الجزاء, بدا الطريق مزدحما, كانت الأنوار والزينة تمتد حتي حدود منطقة الجزاء, وقفت علي حدود الفرح حيث علا صوت الأغاني الشعبية, أعطاني شاب أسمر زجاجة من البيرة الساقعة, لم أشرب أي كحوليات من قبل, رشفت من الزجاجة لأول مرة, تجولت بالظلام, كان الضباط المحاصرون للست ياردات مندمجين مع أنغام الفرح, تسللت بينهم دون أن يلحظوني, عبرت فوق جسد حارس المرمي العاري الذي كان يضاجع فتاة أخري, لامست خط المرمي الأبيض بأطراف أصابع قدمي متخوفا, تركت زجاجة البيرة علي الأرض وخطوت فوق الخط بقدمي كاملة, عبرته وحاصرتني الشباك والقائمان والعارضة, وجدت بأرضية المرمي مجموعة من الحفر الطولية, غلبني الفضول لاكتشافها, هبطت بإحداها, كان طولها مساويا لطولي بالضبط, حيث تساوت قمة رأسي مع أعشاب الملعب. قام حارس المرمي من فوق صديقته, لف وسطه بفوطة صغيرة, بدا منزعجا, أحضر بعض الطين من كومة بجوار المرمي ورماها فوق رأسي وعندما نفضت الطين عن رأسي منفعلا, أجاب سؤالا لم أسأله وقال أنه سيغلق عليّ الحفرة حتي الصباح ثم سيزيل عني الطين ويطلق سراحي, كان صوت الفرح قد أصابني بالصداع, كما أن الخمر قد أصابتني بالدوار فشعرت أنني بحاجة لراحة فعلا, أرخيت مفاصل جسدي وساعدته في مساواة الطين فوق رأسي منتظرا أن يأتي الصباح, تذكرت أنني كنت أبحث عن الكرة ولكنني لم أقو علي النداء علي الحارس, تثاءبت وانغمست في نوم طويل.