وزيرا المالية والتخطيط أمام البرلمان الأسبوع القادم    د.حماد عبدالله يكتب: صندوق موازنة للأسعار !!    غرفة الحبوب: مفيش مخبز في مصر هيبيع بأكثر من 1.5 جنيه يوم الأحد.. الغلق للمخالفين    الصين: العضوية الكاملة لفلسطين بالأمم المتحدة أكثر إلحاحًا في الوقت الحالي    نبيل فهمي: الشرق الأوسط على حافة الهاوية.. وإسرائيل وإيران لم تنتصرا    محمود عاشور يفتح النار على بيريرا ويكشف كواليس إيقافه    مدرب زد ردًا على تفويت علي لطفي للأهلي : «كلام عيال»    نجم الزمالك السابق: لاعبو الأهلي انشغلوا ببرامج رمضان قبل القمة.. وهناك أزمات بسبب التشكيل بين اللاعبين    ظهور أسماك حية في مياه السيول بشوارع دبي (فيديو)    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    50 قرشا للرغيف وزن 25 جراما.. تطبيق خفض سعر الخبز الحر من الأحد.. فيديو    12 دولة تصوت لصالح قبول العضوية الكاملة لفلسطين فى الأمم المتحدة وامتناع دولتين    فورين بوليسى: الهند تجرى أكبر انتخابات فى العالم وسط فوز متوقع لمودى    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الاتحاد الأوروبى يشيد بدور مصر فى تحقيق السلام المستدام بالمنطقة.. ونتنياهو يطلب تدخل بريطانيا وألمانيا لمنع إصدار أوامر اعتقال ضده من الجنائية الدولية    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر رد على طهران    الصفدي لنظيره الإيراني: الأردن يريد علاقات طبية مع إيران لكن تحقيقها يتطلب إزالة أسباب التوتر    فيتو أمريكي يُفسد قرارًا بمنح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    تخفيض سعر الخبز السياحي بجنوب سيناء    يقفز بقيمة 120 جنيهًا.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 أبريل «بيع وشراء» في مصر (التفاصيل)    محافظ الإسكندرية يفتتح أعمال تطوير "حديقة مسجد سيدى بشر"    سيد عيد يدخل تاريخ الدورى المصرى.. 4 قصص صعود للممتاز مع 3 أندية مختلفة    أتالانتا يتأهل إلى نصف نهائى الدورى الأوروبي على حساب ليفربول.. فيديو    سيراميكا يعلن إصابة محمد شكرى بقطع فى الرباط الصليبي    تعرف على الأندية الأوروبية المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    رسميًا.. سيراميكا كليوباترا يُعلن إصابة محمد شكري بالرباط الصليبي    أنقذ عائلة إماراتية من الغرق في دبى.. عمل بطولى لمدير ببنك مصر فرع الإمارات (فيديو)    بسبب أزمة نفسية.. فتاة تنهي حياتها بالحبة السامة بأوسيم    المشدد 5 سنوات لشقيقين ضربا آخرين بعصا حديدية بالبساتين    لإقامتها دعوى خلع.. المشدد 15 عامًا لمتهم شرع في قتل زوجته بالمرج    إصابة 4 أشخاص في تصادم سيارة زفة عروسين على الطريق الإقليمي    تحذير شديد بشأن الطقس اليوم الجمعة : تجنبوا السفر لمدة 4 ساعات (بيان مهم)    انتهاء عمليات رفع ميكروباص معلق أعلي الدائرى وسط انتشار الخدمات المرورية    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    متحدث التعليم: لا صحة لدخول طلاب الثانوية العامة لجان الامتحانات بكتب الوزارة    بمناسبة صدور العدد 5000.. جابر القرموطي يجري جولة داخل مجلة روز اليوسف    "عمر ماكان بينا غير كل خير".. نيللي كريم ترد على اعتذار باسم سمرة لها    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    هل يجوز صيام يوم الجمعة منفردا؟    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    جامعة الأزهر تتقدم في 7 تخصصات علمية لأول مرة بالتصنيف العالمي «QS»    جامعة برج العرب التكنولوجية تختتم اليوم مشاركتها في مؤتمر «EDU-TECH»    أبرزهم ولاد رزق 3 واللعب مع العيال.. أعمال فنية ضخمة في موسم عيد الأضحى 2024    مصطفى بكري: لا يوجد نص دستوري لاستقالة الحكومة فور أداء القسم الرئاسي    الكشف على 1265 مواطنا بقافلة طبية بقرية كوم النصر في المحمودية    نصائح لتفادى تأثير أتربة رياح الخماسين على العين عند السفر    27 أبريل.. فريق «كايروكى» يحيى حفلا غنائيا فى تركيا    خالد الجندي ينصح السيدات باحتساب العمل في المطبخ منح إلهية.. لماذا؟ (فيديو)    فيلم السرب.. تعرف على الأبطال وتوقيت العرض في السينمات    علاقة في الظل تنتهي بجريمة.. فضيحة يوتيوبر خليجي بأكتوبر    تكريم سيد رجب وإسلام كمال وأحمد عرابي في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    رئيس مدينة منوف يتابع الخدمات الطبية المقدمة للأشقاء الفلسطينيين    الشرقية.. إحالة 30 من العاملين المقصرين بالمنشآت الخدمية للتحقيق    هل يجوز صيام يوم الجمعة منفردا للقضاء؟.. «أزهري» يحسم الجدل (فيديو)    مسئول بأوقاف البحر الأحمر: زيارة وكيل مطرانية الأقباط الكاثوليك تعزز روح المحبة    شوقي علام يفتتح أول معرض دولي بدار الإفتاء بالتعاون مع روسيا (صور)    وكيل الأزهر ورئيس قطاع المعاهد الأزهرية يتفقدان التصفيات النهائية لمشروع تحدى القراءة في موسمه الثامن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد في حوار "ما بعد السبعين":
لا أكتب أدباً سياسياً
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 04 - 2014

يعتبر يوسف القعيد واحدًا من أهم كتّاب الرواية في الوطن العربي حيث قدم للمكتبة العربية أكثر من عشرين عملاً روائيًا منها (الحداد)، (أخبار عزبة المنيسي)، (أيام الجفاف)، (البيات الشتوي)، (يحدث في مصر الآن)، (الحرب في بر مصر)، (شكاوي المصري الفصيح)، (في الأسبوع سبعة أيام)، (وجع البعاد)، (أربع وعشرون ساعة فقط) وغيرها من أعمال روائية، عكست في مجملها ارتباطًا عميقًا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبسطاء والمهمّشين والتزامًا نبيلاً بقضاياهم ومشكلاتهم، من خلال لغة شاعرية مترعة بالشجن وأسلوب رشيق أخّاذ وتناول مثير للدهشة، كما صدر له سبع مجموعات قصصية منها: (طرح البحر)، (تجفيف الدموع)، (الفلاحون يصعدون إلي السماء). وقد ترجمت بعض هذه الأعمال إلي العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والصينية والروسية. وبالإضافة إلي الإنتاج الأدبي والإبداعي ليوسف القعيد فإنه أثري المكتبة العربية بالعديد من الكتب الفكرية المهمة مثل (مفاكهة الخلان في رحلة اليابان) و(الكتاب الأحمر)..وبمناسبة عيد ميلاده السبعين جري معه هذا الحوار الذي يلقي الضوء علي بعض من سيرته وعالمه الإبداعي.
القارئ لأعمالك الأدبية سواء الروايات أو القصص القصيرة يدرك أن ثمة وعيا خاصا لديك بأحوال وظروف وعادات وأخلاقيات البسطاء من أبناء القرية المصرية في كفاحهم اليومي المرير مع الواقع، ومن خلال علاقاتهم المتشابكة مع بعضهم البعض. فما الظروف الموضوعية التي ساهمت في صياغة وتشكيل تلك النظرة المتعمّقة لديك؟
- لقد ولدت في قرية الضهرية مركز إيتاي البارود - محافظة البحيرة. وهي قرية أم، فيها كل الأبنية التي يمكن أن تقدم الخدمات المطلوبة لقرية مصرية. فيها المستشفي والمدرسة والمركز الاجتماعي وكتاب تحفيظ القرآن الكريم، كل هذا لم يكن له وجود في سنة (1944) ميلادي كل ما كان موجودًا هو مكتب لتحفيظ القرآن. والمدرسة الابتدائية الأولي جري افتتاحها بعد ذلك. قريتي إذن تكاد أن تشكّل نموذجًا للقرية المصرية العادية. كثيرون يولدون في قري، لكن الجديد بالنسبة لي كان ميلادي لأسرة فقيرة، وهذا كان ولايزال نعمة من نعم الله عليّ. رأيت الحياة عندما بدأ الوعي في التفتّح من القاع وهي مسألة مهمة. الذين يرون الدنيا من أعلي، لا يرون سوي الشواشي وزعازيع القصب. وهو أقل ما في عود القصب قيمة وأهمية. وهذا ما جعلني أتشرّب جزيئات وتفاصيل الحياة اليومية عند الفلاح المصري. لكن الحلو لا يكتمل أبدًا. في طفولتي الأولي كان والدي (يرحمه الله رحمة واسعة) يحاول أن يتعلق بحياة التجّار. كان تاجرًا صغيرًا. ولهذا عشت حياة القرية، الحارة وداير الناحية والجرن والوسعاية، والمصطبة وسلم الجامع، ولكني لم أعش في هذه السنوات الأولي حياة الحقل بكل تفاصيلها. لقد جاءت هذه التجربة، ولكن بعد ذلك، عندما تحوّل والدي في الخمسينيات من التجارة إلي الزراعة. ولأننا لم نكن نمتلك أرضًا زراعية. فقد مارس الزراعة ولكن من خلال نظام المزارعة. وهو الحل - ربما الوحيد - الذي يلجأ إليه مَن يريد ممارسة الزراعة ولا يمتلك أرضًا زراعية. وهو نظام ظالم وجائر. مالك الأرض هو المستفيد، والمستأجر هو المظلوم علي طول الخط. بعدي عن الحقل في سنوات عمري الأولي، جعل رواياتي عن الريف - كما لاحظ ذلك مصطفي بيومي في كتابه: (الفلاح والسلطة في أدب يوسف القعيد) أقول جعل هذه الروايات تخلو من مشاكل مياه الري وتوزيعها وما يمكن أن يجري بسبب ذلك، ولقد اكتشفت أن مياه الري كانت هي موضوع رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي. لقد عرفت القرية وحياة الفلاح، لأنني عشت في القرية، ورغم أنني أرغمت علي الحياة في المدينة (القاهرة تحديدًا) منذ ديسمبر 1965 وحتي الآن، فما زلت مؤمنًا بأن القري خلقها الله، وأن المدن بناها البشر، وأن الإنسان لا يمكن أن يغادر مدينة طفولته مهما ابتعد عنها وغادرها إلي العديد من المدن الكبيرة. لقد عشت في المدينة مغتربًا عنها، لم أستطع أن أكون جزءًا منها أبدًا، حملت غربتي علي كتفي وعشت في المدينة مرغمًا. عندما جلست لأكتب أول رواية، أدركت ساعتها - ومن خلال الكتابة وحدها - أن الرواية (والقصة القصيرة إلي حد ما) هي فن التفاصيل الصغيرة، وأن هذه التفاصيل بقدر ما تنبثق في ذهن الروائي انطلاقًا من تجربة حيّة، فإن ذلك يكون أفضل ألف مرة من القراءة أو الاستماع أو المشاهدة. عندما قدمت رواية (الحداد) وهي روايتي الأولي في مايو 1969 إلي نجيب محفوظ قال لي يومها: هل تعرف أن أول نص روائي لي كان عن القرية؟! كانت مفاجأة، قلل منها أن الرجل لم يبق معه من هذه الرواية سوي عنوانها الذي مازال علي جدار الذاكرة (أحلام القرية) أما النص نفسه فقد فُقد منه. فالرجل لا يحتفظ في بيته بأوراق أو كتب كثيرة. وهو لم ينشر النص لأنه لم يكن راضيًا عنه بعد الانتهاء من كتابته.
نحن نعرف جيدًا أنه كان لديك ومنذ سني الدراسة الأولي شغف شديد بالقراءة، وكان سطح منزلكم هو المهد الأول الذي احتضن تلك القراءات المبكرة. فهل من الممكن الرجوع إلي هذه المرحلة المبكرة وإحاطتنا بنوعية الكتب التي كنت تطالعها، وأبرزها ، خصوصا التي ساهمت في صياغة رؤيتك للكون والمجتمع والإنسان؟
- لم تكن في الضهرية في زمن صباي ومراهقتي مكتبة عامة. ربما لم توجد فيها مثل هذه المكتبة العامة حتي الآن، وأول مكتبة عامة تعاملت معها، كانت مكتبة البلدية في مدينة دمنهور عندما عشت فيها ثلاث سنوات (59-1961) هي سنوات دراستي في معهد المعلمين. في قريتي كانت هناك مشكلة الحصول علي ما يقرأ. كانت أمي - أمدّ الله في عمرها - مبكّرًا جدًا تقتطع من قوت البيت لكي تشتري لي الصحف القليلة التي تصل إلينا متأخرة عن موعدها، لكن مكتبة المرحوم الحاج عبدالقوي سمك، في عزبته بدمسينا، كانت هي المكتبة التي أقامت علاقتي المبكّرة جدًا مع ألف ليلة وليلة، حيث سحر الحكايات الذي لا يقاوم، وكانت هناك مكتبة المرحوم عبدالعزيز سمك. كان تاجر (مني فاتورة)، وكان يحب الفن والأدب، وكان يكتب الزجل الجميل يزيّن به إمساكية رمضان التي كان يطبعها بمناسبة شهر الصوم المعظم، فالمكتبة كانت أقرب إلي الأدب والفن، كانت عنده كل مطبوعات الكتاب الذهبي والكتاب الفضي، وهكذا قرأت الطبعات الأولي لأعمال نجيب محفوظ والسحار وباكثير وعبدالحليم عبدالله، وهي كتب كانت قد اختفت من الأسواق في هذه المرحلة، وكنت أحب فيه حرصه الشديد علي استرداد الكتاب بعد يوم واحد من استعارته، كان هذا تعبيرًا عن حرصه الشديد علي الكتاب وعلي العلاقة الفريدة بينه وبين الكتاب. في دمنهور وجدت ملاذي ومرفئي في مكتبة البلدية بدمنهور، وكذلك مكتبة قصر ثقافة دمنهور، وكانت الأولي مكتبة محترمة فيها الحديث من الكتب الصادرة ليس في مصر وحدها، ولكن في بيروت ودمشق، وأمكنة أخري من العالم. في القاهرة ترددت علي دار الكتب في باب الخلق، وكانت نظرات الناس توشك أن تأكلني عندما يكتشفون أنني ذهبت إلي المكتبة من أجل استعارة رواية أو ديوان شعر أو مجموعة من القصص القصيرة، جمهور المكتبات ربما كان لديه مفهوم غريب للثقافة. والبعض لا ينظر إلي النص الأدبي باعتباره قد يكون رافدًا مهمًا من روافد هذه الثقافة، بعد نكسة 67 أصبح لدينا في الوحدة العسكرية مكتبة، ذلك أن دور النشر المختلفة قدمت للوحدات العسكرية نسخًا مما تنشره. وهكذا وجدت لديّ مكتبة كاملة. كل كتاب مطبوع في الصفحة الأولي منه ختم عن المجهود الحربي، وعبارة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، مع أن هذه الكتب كان فيها ما أخذني من كل أصوات المعركة. لم تصبح لي مكتبتي الخاصة إلا بعد ذلك بسنوات عندما أصبح لي بيت يخصّني في هذه المدينة الرهيبة. وفي الوقت الذي يفصل بين المكتبات العامة ومكتبتي الخاصة، كانت هناك مكتبات الأصدقاء، كانت مكتبة جمال الغيطاني هي مكتبتي، ما من كتاب لم نقرأه معًا. وكنت أستعير بعض الكتب أكثر من مرة لإعادة قراءتها، لدرجة أنه من كثرة استعارة رواية (دروب الجوع) لجورجي أمادو، كتب جمال الغيطاني عليها إهداء وأهداها لي. ومكتبة المرحوم جلال السيد وهو أنبل مَن تولي مسئولية باب للكتب في تاريخ الصحافة المصرية. كنت أستعير منها بعض الكتب، خاصة النادرة منها أو التي لم يعد لها وجود، كانت لدي جلال أجندة كبيرة، يدوّن فيها أي كتاب استعاره صديق، ولا يشطب اسم الكتاب ومن استعارة إلا بعد استعادة الكتاب مرة أخري. وجودي المبكر في القاهرة نجّاني من أن يكون الكتاب هو مصدر ثقافتي الوحيد. كان هناك الفيلم السينمائي والعرض المسرحي، وحفلات الموسيقي العربية، واحتفالات أوركسترا القاهرة السيمفوني، ومعارض الفن التشكيلي، وجميعها روافد لا تقل أهمية عن الكتاب. المشكلة أننا نتكلم عن الكتب فقط عند الحديث عن مصادر ثقافتنا. لا يتحدث أحد عن لوحة أو فيلم أو قصيد سيمفوني. وهل يمكن أن أنكر دور البرنامج الثاني (الثقافي حاليًا) خلال وجودي في قريتي؟لولاه ما عرفت الكثير من التجلّيات الجديدة في الكتابة والأدب والفن. لولا حسين فوزي ما عرفت كيف تتعامل الأذن مع السيمفونية. ولولا إبراهيم الصيرفي ما قرأت أول قصة لي في هذا البرنامج. ولولا بهاء طاهر والشريف خاطر وعزت النصيري ما سمعت تلك المقابلات التي كانت تقدم مع أدباء العالم. كانوا يترجمون المقابلة ويمثّلونها. وهكذا يخيّل إلي أنني استمعت إلي صامويل بيكيت أو ملك راج أنانت أو ميشيل بوتور. كانت القراءات تختلف من زمن إلي آخر. لقد قرأت الرواية وعنها، وقرأت عن مصر، المكان والناس والتجربة، وقرأت عن الحلم الاشتراكي، مثلا بعد نكسة يونيو 1967 قرأت الكثير من مذكرات العسكريين، في محاولة فردية، لمعرفة سبب ما جري، قراءتي في التراث جرت وراء التراث الشعبي، الملاحم والسير الشعبية خاصة بعد نكسة 1967.
الاغتراب والهجرة
(بلد المحبوب)، (وجع البعاد)، بمنزلة تنويعات علي وتر الغربة، فما سر اهتمامك بموضوع الغربة والاغتراب عن الوطن الأم؟
- أنا لم أغترب، لم أمر بتجربة الغربة، ولكني عاصرت هجرة المصريين بصورة تصل إلي حدود الظاهرة، وربما تتعداها كثيرا، شدّتني هذه الظاهرة عندما كنت أذهب إلي قريتي فلا أجد في الحقل سوي النساء والشيوخ والأطفال. أما الفلاح التقليدي فقد هجر الحقل سواء إلي المدينة أو إلي الدول العربية الشقيقة. عندما جلست لتناول هذه الظاهرة كان من الصعب عليّ الكتابة عن المصري في الغربة، عن التغريبة نفسها وهو ما كتبه الذين تغربوا. ولهذا جاءت الكتابة عن أثر غياب الذين سافروا، في الواقع الذي تركه كل منهم وراءه. في رواية: وجع البعاد، أقص وأحكي عن الذين غابوا وابتعدوا ولم يعد لهم وجود. وفي بلد المحبوب أحكي وأروي عن الذين عادوا من الغربة، وماعادوا. عندما كتبت هذين النصين، ما كنت قد مررت بتجربة غربة ابني أحمد عندما سافر إلي كندا من أجل عمل دراسات عليا هناك. وهكذا عشت التجربة التي حاولت أن أحياها بعين الخيال من قبل، وأدركت أن الفارق ضخم بين أن يعيش الإنسان حالة إنسانية ما وبين أن يكتب عنها. المصري شديد الارتباط ببلده. في روايتي المبكرة (أيام الجفاف)، يصاب بطلها خلف الله البرتاوي خلف الله بالجنون لمجرد أنه ترك بلدته المنصورة وسافر إلي قرية قريبة من دمنهور ليعمل مدرسًا. أعرف أن المنصورة ودمنهور تقعان في الوجه البحري، بالتحديد دلتا نهر النيل، وأن المسافة بينهما لا تتعدي المائة كيلومتر. ومع هذا يصاب البطل بالجنون لمجرد انتقاله من المنصورة إلي قرية قريبة من دمنهور.
تعد السياسة محورًا من أهم المحاور التي ارتكز عليها مشروعك الروائي، وهنا تبرز إشكالية كبري تتعلق بمسألة الصراع بين رؤيتك السياسية ومقتضيات المعالجة الفنية للنص الأدبي فإلي أي مدي استطعت التغلب علي هذه الإشكالية؟ وما الكيفية التي تغلبت بها عليها؟
- أنا لا أكتب أدبًا سياسيًا، ولكن ما أكتبه أدب يطرح همًا سياسيًا. وعندما أعود الآن إلي ما قلته عن هذه الكتابة الجديدة، أو التي كانت جديدة وقت كتابتها منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، أكتشف أنني كنت أركز علي ضرورة وأهمية أن يكتسب النص شرعيته من شكله الفني أولاً. (يحدث في مصر الآن) رواية (الحرب في بر مصر) رواية، أي أن شرعية النص تأتي من احتوائها علي المفردات الجمالية للنص الروائي. عندما كنت أكتب رواية (يحدث في مصر الآن)، كنت أتساءل عما يمكن أن يبقي بعد سنوات طويلة من الحدث الجوهري الذي تدور حوله الرواية. إنني أحكي في هذه الرواية عن موكب الرئيس الأمريكي نيكسون، فماذا يمكن أن يبقي من هذا الحدث بعد سنوات؟! إن مثل هذه الأحداث ربما يكون لها رنين صاخب وقت حدوثها، وقد لا يبقي منها شيء بعد تقدم الزمن، لذلك لابد أن تتم كتابة الرواية علي أساس كونها رواية فقط، يجب أن تأتي شرعيتها من هذا الاعتبار، أيًا ما كان موضوعها وقضيتها، فهي رواية قبل أي اعتبار آخر.. لم أحاول الحفاظ علي ميراث الرواية التقليدية في كتابة هذه النصوص: يحدث في مصر الآن. الحرب في بر مصر ثلاثية شكاوي المصري الفصيح: نوم الأغنياء (المزاد) أرق الفقراء. بل إن فيها مغامرة فنية، لن أتحدث عن هذا، ولكن المقالات المنصفة، والرسائل الجامعية التي قدمت عن هذه الروايات الثلاث هي التي يمكن أن تؤكد هذا. وآخرها رسالة دكتوراه مغربية حول آليات السرد في (يحدث في مصر الآن). إن الاشتباك مع الشأن الآني في قصيدة أو مقالة قد يكون مقبولاً، وقد يحقق بعض المراد منه. ولكن هذا الاشتباك إن تم في نص روائي، أو حتي قصة قصيرة، يصبح من الأمور التي تحمل العديد من المحاذير المهمة، والوعي بهذه المحاذير كان مبكرًا، سواء مما كتبه النقاد وقت صدور هذه الأعمال - ولن أتعرض لما كتب رغم أنه من نقاد كبار، لويس عوض وعلي الراعي وفيصل دراج - وأيضا مما أقوم به عادة من مراجعة للنفس لما قمت به، وهذه مراجعة دورية، وأقوم بها بقدر كبير من القسوة أحيانًا.
انكسار الأحلام
الفشل والإحباط وانكسار الأحلام قدر معظم أبطال قصصك، فهل ذلك يرجع إلي تراجع المشروع القومي بعد نكسة 67 وتأثرك إلي حد بعيد بها؟ أم أن ذلك يرجع لأسباب شخصية؟
- الأمران معًا. العام والشخصي، الزمن ومسيرة الحياة الشخصية، الجيل والفرد، السياق العام والخاص. لو أردت الكلام والحكي حول هذه المسألة، لاحتجت إلي مجلدات لأن ما سأحكيه هو قصة العمر نفسها. من المؤسف أنني عشت حتي هذه الأيام، أنا لم أتقدم في العمر بعد، ولكني أقصد ما يحدث للإنسان عندما يحيا حتي يتهدم كل ما بناه، ويتبدد المشروع الذي حلم به، ويكتشف أن كل ما آمن به لا يخضع لإعادة النظر، ولكنه يتعرض لحالة من الانهيار التام والمطلق. الأمور كلها مترابطة. لقد قام مشروعي الروائي كله، من الكلمة الأولي وحتي الآن، ولا أقول حتي الكلمة الأخيرة، لأنه لا كلمة أخيرة أبدًا، قام هذا المشروع علي فكرة جوهرية هي الرهان علي الجماهير. أكتب من أجل أن تشعر هذه الجماهير أن ثمة خطأ ما في الواقع الذي نحيا فيه، وأن تتحرك هذه الجماهير بالغريزة والعقل والشعور والإحساس من أجل تغيير هذا الواقع إلي الأفضل. أنا ضد تحويل النص إلي مصنع لتصدير الأحلام إلي الناس، وأنا أيضًا ضد التصوير الفوتوغرافي للواقع لأن مثل هذه المهمة قد تقوم الكاميرا بها أفضل مني ألف مرة، ولكني مع الكتابة التي تحرك وجدان من يقرأها. لذلك أراهن كثيرًا علي القراءة الإيجابية من قبل القراء. وأعتبر القراء هم الجانب الأكثر أهمية في العملية الإبداعية وأشركهم معي كثيرا في كتابة النص، التي أمارسها كلعبة. ولهذا ظهر المؤلف كثيرًا في أعمالي الروائية، أحكي هذا كله حتي يدرك القارئ عمق دوره في المشروع كله، وإذا بكل شيئ ينهار، كل ما يمت إلي الفكرة بصلة، لم يعد له وجود، ثم لا تريد مني أن أشعر بالإحباط وألا أسكن عند الضفة الأخري لليأس؟
يعتبر الأدب بمنزلة مرآة عاكسة للتاريخ فهل تري أن مشروعك الروائي قد استوعب تمامًا هذا البعد؟
- من الصعب علي أي روائي أو مبدع عمومًا، أن يرجع كل ما يقوم به في العملية الإبداعية إلي عناصره الأولي، وأن يقول إن كتابته فيها كذا وكذا، إن كان سؤالك عن قضية الوعي بالتاريخ سواء لدي الروائي أو لدي مخلوقاته وشخوصه التي يبدعها عند الكتابة الروائية. وإن كان المطلوب مني أن أؤكد أو أنفي وجود هذا الوعي في ثنايا النص الروائي، إن كان هذا هو مقصدك، فأحيلك إلي النصوص نفسها، النص أفضل شاهد. لا مشكلة عند الكلام عن وعي الكاتب بالتاريخ، ولكن المشكلة تكمن عند تناول وعي الأبطال بالتاريخ. ذلك أن الأبطال الذين يتحركون في نصوصي الروائية من الفلاحين، أغلبهم من الأميين. وتحميل البطل الأمي مايفوق وعيه ويتفوق علي إدراكه يعكس عيبًا فنيًا، يشكل نقطة ضعف في أي نص روائي، حتي عندما ينطق مثل هذا البطل بالعربية الفصحي، يكون في ذلك خطأ منهجي، إن إنطاق الشخصيات بآراء لا يمكن أن يتوصل إليها سوي المؤلف، خطأ منهجي، وخطأ في الكتابة الروائية. أيضًا فإن جعل البطل الأمي يتصرف وكأنه لديه حس بالتاريخ وشعور به، ربما كان في ذلك بعض الافتعال الذي يقف ضد الكتابة الواقعية التي أؤمن بها وأمارسها، ولا أستطيع أن أحيد عنها، ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح في مواجهة هذه النصوص هو: هل النص فيه وعي بالتاريخ؟! لا أقصد أن يكون ذلك مباشرًا، ولكن أقصد روح النص ومعناه والرسالة التي تقف وراء النص كله. وأنا أكتفي بطرح السؤال فقط لأنني أعتقد أن الإجابة عنه ليست مسئولية المبدع نفسه أبدًا.
في عصر التلفزيون والحاسب والإنترنت هل مازلت تراهن علي القراءة بالنسبة لتوزيع الكتاب وهل سعيك من أجل تحويل رواياتك إلي أعمال درامية مرجعه تراجع عدد القراء؟
- لا أسعي أبدًا لتحويل أعمالي سواء إلي السينما أو التلفزيون. توشك الفقرة الأخيرة من سؤالك - وأرجو الإبقاء عليها كما هي - أن تشكل اتهامًا لي، لو كنت أسعي لتحويل أعمالي إلي التلفزيون أو السينما، لكتبت لهذه الفنون مباشرة، والعروض أكثر من كثيرة، أكثر من الهم علي القلب كما يقولون. إن حولت هذه الأعمال إلي السينما أو التليفزيون، دون أي تنازلات جوهرية من جانبي فأهلاً وسهلاً، وإن لم تحول فلا مشكلة هناك. رهاني الأساسي والجوهري علي قراءة النص، وأي شيء بعد هذا تفاصيل لا يتوقف الإنسان أمامها طويلاً، لا أقلل من أهمية السينما والتليفزيون في مواجهة حالة الأمية بأنواعها المختلفة، وعدم الإقبال علي القراءة الذي وصل حتي إلي المثقفين أنفسهم. ومن المؤكد أن القراءة عمومًا تتراجع، ولكن هذه المحنة لا تجعل الإنسان يحيد عن الكتاب، الذي أعتبره الوعاء والوسيلة الجوهرية لإقامة صلة وعلاقة بين المؤلف والقارئ عبر نصه المكتوب، كانت هذه هي قناعتي. ومازالت وستظل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.