"اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا".. عنوان عظة البابا تواضروس بالقوصية    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 2-10-2025 في الصاغة بعد ارتفاعه 60 جنيهًا    التفاح ب60 جنيهًا.. أسعار الفاكهة في أسواق الإسكندرية اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025    تعطل الاتصالات والإنترنت بالقاهرة اليوم.. والسبب المتحف المصري الكبير    أودي تعتزم طرح أول سيارة إس.يو.في ذات 7 مقاعد العام المقبل    ترامب يقرر اعتبار أي هجوم على قطر هجومًا على أمريكا    حقي هيرجع في الآخرة.. «أمن القاهرة» تكثف جهودها لكشف غموض «وصية» تركتها فتاة قبل التخلص من حياتها    استعدوا للأمطار.. بيان عاجل بشأن حالة الطقس: العاصفة الليبية تقترب من الحدود المصرية    اليوم.. محاكمة المتهم بدهس شخص بسيارة دبلوماسية بالمهندسين    معركتك خسرانة.. كريم العدل يوجه انتقادات حادة لمخرج فيلم «اختيار مريم»: انتحار فني كامل    ترتيب مجموعة منتخب المغرب بعد الفوز على البرازيل في مونديال الشباب    تطور جديد في أسعار الذهب بعد موجة الصعود القياسي بسبب الإغلاق الأمريكي    وفاة بشير صديق شيخ القراء في المسجد النبوي عن عمر ناهز 90 عاما    على خطى حماس، تلميح غامض من الجهاد الإسلامي بشأن خطة ترامب في غزة    بهدفين لا أجمل ولا أروع، المغرب يضرب البرازيل ويتأهل لثمن نهائي مونديال الشباب (فيديو)    الخطيب يحبه ويثق به، شوبير يكشف موقف هشام جمال بشأن خوض انتخابات الأهلي (فيديو)    ترامب: على الجمهوريين استغلال فرصة الإغلاق الحكومي للتخلص من "الفاسدين لتوفير المليارات"    شركة مايكروسوفت تطلق "وضع الوكيل الذكي" في 365 كوبايلوت    المسرح المتنقل يواصل فعالياته بقرية نزلة أسطال بالمنيا    بلاغ أم يقود لضبط مدرس متهم بالاعتداء على طفل فى الأهرام    خطة ترامب لغزة.. قراءة تحليلية في وهم السلام وواقع الوصاية    «قولاً واحدًا».. خالد الغندور يكشف رحيل فيريرا عن تدريب الزمالك في هذه الحالة    85 شهيدًا فلسطينيًا حصيلة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة خلال 24 ساعة    عبدالله مجدي الهواري: «بحب الفن ونفسي أبقى حاجة بعيد عن اسم أمي وأبويا»    الدكتور محمود سعيد: معهد ناصر قلعة الطب في مصر وحصن أمان للمصريين    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    النائب العام يلتقي أعضاء إدارة التفتيش القضائي للنيابة العامة.. صور    التحقيق في العثورعلى جثة شاب داخل مسكنه بالجيزة    السيطرة على حريق شب داخل مخلفات بعين شمس    إصابة 4 عمال في حادث تصادم نقل وميكروباص أمام كارتة ميناء شرق بورسعيد    4 أهداف.. تعادل مثير يحسم مواجهة يوفنتوس أمام فياريال بدوري أبطال أوروبا    رياضة ½ الليل| هشام يسلف الزمالك.. إيقاف تريزيجيه.. قائمة الخطيب.. والموت يطارد هالاند    رئيس مجلس المطارات الدولي: مصر شريك استراتيجي في صناعة الطيران بالمنطقة    شهادة صحفي على مأساة أفغانستان الممتدة.. جون لي أندرسون يروي أربعة عقود في قلب عواصف كابول    زكريا أبوحرام يكتب: الملاك الذي خدعهم    أكاديمية «أخبار اليوم» في ثوبها الجديد.. وفرحة الطلاب ببدء العام الدراسي| صور وفيديو    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    وصول وفد رسمي من وزارة الدفاع السورية إلى موسكو    مرض اليد والقدم والفم (HFMD): عدوى فيروسية سريعة الانتشار بين الأطفال    تحذير لهؤلاء.. هل بذور الرمان تسبب مشاكل في الجهاز الهضمي؟    أكلة مصرية.. طريقة عمل محشي البصل خطوة بخطوة    الخارجية التركية: اعتداء إسرائيل على "أسطول الصمود" عمل إرهابي    حل 150 مسألة بدون خطأ وتفوق على 1000 متسابق.. الطالب «أحمد» معجزة الفيوم: نفسي أشارك في مسابقات أكبر وأفرح والدي ووالدتي    مايولو: سعيد بالتسجيل أمام برشلونة.. نونو مينديش قام بعمل كبير    «مقتنعوش بيه».. ماجد سامي: كنت أتمنى انتقال نجم الزمالك ل الأهلي    الجيش الإسرائيلي: إطلاق 5 صواريخ من شمال غزة واعتراض 4 منها دون إصابات    ارتفاع أسعار الذهب في السعودية وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 2-10-2025    محافظ الشرقية يكرّم رعاة مهرجان الخيول العربية الأصيلة في دورته ال29.. صور    السكر القاتل.. عميد القلب السابق يوجه نصيحة لأصحاب «الكروش»    أرسنال بالعلامة الكاملة في الإمارات ينتصر بثنائية على أولمبياكوس    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    تسليم 21 ألف جهاز تابلت لطلاب الصف الأول الثانوي في محافظة المنيا    مدير معهد ناصر: اختيار المعهد ليكون مدينة طبية لعدة أسباب ويتمتع بمكانة كبيرة لدى المواطنين    اعتراضات على طريقة إدارتك للأمور.. برج الجدي اليوم 2 أكتوبر    ماذا كشفت النيابة في واقعة سرقة الأسورة الأثرية من المتحف المصري؟    أحمد موسى يوجه رسالة للمصريين: بلدنا محاطة بالتهديدات.. ثقوا في القيادة السياسية    تعرف على مواقيت الصلاه غدا الخميس 2 أكتوبر 2025فى محافظة المنيا    مجلس حكماء المسلمين: العناية بكبار السن وتقدير عطائهم الممتد واجب ديني ومسؤولية إنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف القعيد في حوار "ما بعد السبعين":
لا أكتب أدباً سياسياً
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 04 - 2014

يعتبر يوسف القعيد واحدًا من أهم كتّاب الرواية في الوطن العربي حيث قدم للمكتبة العربية أكثر من عشرين عملاً روائيًا منها (الحداد)، (أخبار عزبة المنيسي)، (أيام الجفاف)، (البيات الشتوي)، (يحدث في مصر الآن)، (الحرب في بر مصر)، (شكاوي المصري الفصيح)، (في الأسبوع سبعة أيام)، (وجع البعاد)، (أربع وعشرون ساعة فقط) وغيرها من أعمال روائية، عكست في مجملها ارتباطًا عميقًا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبسطاء والمهمّشين والتزامًا نبيلاً بقضاياهم ومشكلاتهم، من خلال لغة شاعرية مترعة بالشجن وأسلوب رشيق أخّاذ وتناول مثير للدهشة، كما صدر له سبع مجموعات قصصية منها: (طرح البحر)، (تجفيف الدموع)، (الفلاحون يصعدون إلي السماء). وقد ترجمت بعض هذه الأعمال إلي العديد من اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والصينية والروسية. وبالإضافة إلي الإنتاج الأدبي والإبداعي ليوسف القعيد فإنه أثري المكتبة العربية بالعديد من الكتب الفكرية المهمة مثل (مفاكهة الخلان في رحلة اليابان) و(الكتاب الأحمر)..وبمناسبة عيد ميلاده السبعين جري معه هذا الحوار الذي يلقي الضوء علي بعض من سيرته وعالمه الإبداعي.
القارئ لأعمالك الأدبية سواء الروايات أو القصص القصيرة يدرك أن ثمة وعيا خاصا لديك بأحوال وظروف وعادات وأخلاقيات البسطاء من أبناء القرية المصرية في كفاحهم اليومي المرير مع الواقع، ومن خلال علاقاتهم المتشابكة مع بعضهم البعض. فما الظروف الموضوعية التي ساهمت في صياغة وتشكيل تلك النظرة المتعمّقة لديك؟
- لقد ولدت في قرية الضهرية مركز إيتاي البارود - محافظة البحيرة. وهي قرية أم، فيها كل الأبنية التي يمكن أن تقدم الخدمات المطلوبة لقرية مصرية. فيها المستشفي والمدرسة والمركز الاجتماعي وكتاب تحفيظ القرآن الكريم، كل هذا لم يكن له وجود في سنة (1944) ميلادي كل ما كان موجودًا هو مكتب لتحفيظ القرآن. والمدرسة الابتدائية الأولي جري افتتاحها بعد ذلك. قريتي إذن تكاد أن تشكّل نموذجًا للقرية المصرية العادية. كثيرون يولدون في قري، لكن الجديد بالنسبة لي كان ميلادي لأسرة فقيرة، وهذا كان ولايزال نعمة من نعم الله عليّ. رأيت الحياة عندما بدأ الوعي في التفتّح من القاع وهي مسألة مهمة. الذين يرون الدنيا من أعلي، لا يرون سوي الشواشي وزعازيع القصب. وهو أقل ما في عود القصب قيمة وأهمية. وهذا ما جعلني أتشرّب جزيئات وتفاصيل الحياة اليومية عند الفلاح المصري. لكن الحلو لا يكتمل أبدًا. في طفولتي الأولي كان والدي (يرحمه الله رحمة واسعة) يحاول أن يتعلق بحياة التجّار. كان تاجرًا صغيرًا. ولهذا عشت حياة القرية، الحارة وداير الناحية والجرن والوسعاية، والمصطبة وسلم الجامع، ولكني لم أعش في هذه السنوات الأولي حياة الحقل بكل تفاصيلها. لقد جاءت هذه التجربة، ولكن بعد ذلك، عندما تحوّل والدي في الخمسينيات من التجارة إلي الزراعة. ولأننا لم نكن نمتلك أرضًا زراعية. فقد مارس الزراعة ولكن من خلال نظام المزارعة. وهو الحل - ربما الوحيد - الذي يلجأ إليه مَن يريد ممارسة الزراعة ولا يمتلك أرضًا زراعية. وهو نظام ظالم وجائر. مالك الأرض هو المستفيد، والمستأجر هو المظلوم علي طول الخط. بعدي عن الحقل في سنوات عمري الأولي، جعل رواياتي عن الريف - كما لاحظ ذلك مصطفي بيومي في كتابه: (الفلاح والسلطة في أدب يوسف القعيد) أقول جعل هذه الروايات تخلو من مشاكل مياه الري وتوزيعها وما يمكن أن يجري بسبب ذلك، ولقد اكتشفت أن مياه الري كانت هي موضوع رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي. لقد عرفت القرية وحياة الفلاح، لأنني عشت في القرية، ورغم أنني أرغمت علي الحياة في المدينة (القاهرة تحديدًا) منذ ديسمبر 1965 وحتي الآن، فما زلت مؤمنًا بأن القري خلقها الله، وأن المدن بناها البشر، وأن الإنسان لا يمكن أن يغادر مدينة طفولته مهما ابتعد عنها وغادرها إلي العديد من المدن الكبيرة. لقد عشت في المدينة مغتربًا عنها، لم أستطع أن أكون جزءًا منها أبدًا، حملت غربتي علي كتفي وعشت في المدينة مرغمًا. عندما جلست لأكتب أول رواية، أدركت ساعتها - ومن خلال الكتابة وحدها - أن الرواية (والقصة القصيرة إلي حد ما) هي فن التفاصيل الصغيرة، وأن هذه التفاصيل بقدر ما تنبثق في ذهن الروائي انطلاقًا من تجربة حيّة، فإن ذلك يكون أفضل ألف مرة من القراءة أو الاستماع أو المشاهدة. عندما قدمت رواية (الحداد) وهي روايتي الأولي في مايو 1969 إلي نجيب محفوظ قال لي يومها: هل تعرف أن أول نص روائي لي كان عن القرية؟! كانت مفاجأة، قلل منها أن الرجل لم يبق معه من هذه الرواية سوي عنوانها الذي مازال علي جدار الذاكرة (أحلام القرية) أما النص نفسه فقد فُقد منه. فالرجل لا يحتفظ في بيته بأوراق أو كتب كثيرة. وهو لم ينشر النص لأنه لم يكن راضيًا عنه بعد الانتهاء من كتابته.
نحن نعرف جيدًا أنه كان لديك ومنذ سني الدراسة الأولي شغف شديد بالقراءة، وكان سطح منزلكم هو المهد الأول الذي احتضن تلك القراءات المبكرة. فهل من الممكن الرجوع إلي هذه المرحلة المبكرة وإحاطتنا بنوعية الكتب التي كنت تطالعها، وأبرزها ، خصوصا التي ساهمت في صياغة رؤيتك للكون والمجتمع والإنسان؟
- لم تكن في الضهرية في زمن صباي ومراهقتي مكتبة عامة. ربما لم توجد فيها مثل هذه المكتبة العامة حتي الآن، وأول مكتبة عامة تعاملت معها، كانت مكتبة البلدية في مدينة دمنهور عندما عشت فيها ثلاث سنوات (59-1961) هي سنوات دراستي في معهد المعلمين. في قريتي كانت هناك مشكلة الحصول علي ما يقرأ. كانت أمي - أمدّ الله في عمرها - مبكّرًا جدًا تقتطع من قوت البيت لكي تشتري لي الصحف القليلة التي تصل إلينا متأخرة عن موعدها، لكن مكتبة المرحوم الحاج عبدالقوي سمك، في عزبته بدمسينا، كانت هي المكتبة التي أقامت علاقتي المبكّرة جدًا مع ألف ليلة وليلة، حيث سحر الحكايات الذي لا يقاوم، وكانت هناك مكتبة المرحوم عبدالعزيز سمك. كان تاجر (مني فاتورة)، وكان يحب الفن والأدب، وكان يكتب الزجل الجميل يزيّن به إمساكية رمضان التي كان يطبعها بمناسبة شهر الصوم المعظم، فالمكتبة كانت أقرب إلي الأدب والفن، كانت عنده كل مطبوعات الكتاب الذهبي والكتاب الفضي، وهكذا قرأت الطبعات الأولي لأعمال نجيب محفوظ والسحار وباكثير وعبدالحليم عبدالله، وهي كتب كانت قد اختفت من الأسواق في هذه المرحلة، وكنت أحب فيه حرصه الشديد علي استرداد الكتاب بعد يوم واحد من استعارته، كان هذا تعبيرًا عن حرصه الشديد علي الكتاب وعلي العلاقة الفريدة بينه وبين الكتاب. في دمنهور وجدت ملاذي ومرفئي في مكتبة البلدية بدمنهور، وكذلك مكتبة قصر ثقافة دمنهور، وكانت الأولي مكتبة محترمة فيها الحديث من الكتب الصادرة ليس في مصر وحدها، ولكن في بيروت ودمشق، وأمكنة أخري من العالم. في القاهرة ترددت علي دار الكتب في باب الخلق، وكانت نظرات الناس توشك أن تأكلني عندما يكتشفون أنني ذهبت إلي المكتبة من أجل استعارة رواية أو ديوان شعر أو مجموعة من القصص القصيرة، جمهور المكتبات ربما كان لديه مفهوم غريب للثقافة. والبعض لا ينظر إلي النص الأدبي باعتباره قد يكون رافدًا مهمًا من روافد هذه الثقافة، بعد نكسة 67 أصبح لدينا في الوحدة العسكرية مكتبة، ذلك أن دور النشر المختلفة قدمت للوحدات العسكرية نسخًا مما تنشره. وهكذا وجدت لديّ مكتبة كاملة. كل كتاب مطبوع في الصفحة الأولي منه ختم عن المجهود الحربي، وعبارة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، مع أن هذه الكتب كان فيها ما أخذني من كل أصوات المعركة. لم تصبح لي مكتبتي الخاصة إلا بعد ذلك بسنوات عندما أصبح لي بيت يخصّني في هذه المدينة الرهيبة. وفي الوقت الذي يفصل بين المكتبات العامة ومكتبتي الخاصة، كانت هناك مكتبات الأصدقاء، كانت مكتبة جمال الغيطاني هي مكتبتي، ما من كتاب لم نقرأه معًا. وكنت أستعير بعض الكتب أكثر من مرة لإعادة قراءتها، لدرجة أنه من كثرة استعارة رواية (دروب الجوع) لجورجي أمادو، كتب جمال الغيطاني عليها إهداء وأهداها لي. ومكتبة المرحوم جلال السيد وهو أنبل مَن تولي مسئولية باب للكتب في تاريخ الصحافة المصرية. كنت أستعير منها بعض الكتب، خاصة النادرة منها أو التي لم يعد لها وجود، كانت لدي جلال أجندة كبيرة، يدوّن فيها أي كتاب استعاره صديق، ولا يشطب اسم الكتاب ومن استعارة إلا بعد استعادة الكتاب مرة أخري. وجودي المبكر في القاهرة نجّاني من أن يكون الكتاب هو مصدر ثقافتي الوحيد. كان هناك الفيلم السينمائي والعرض المسرحي، وحفلات الموسيقي العربية، واحتفالات أوركسترا القاهرة السيمفوني، ومعارض الفن التشكيلي، وجميعها روافد لا تقل أهمية عن الكتاب. المشكلة أننا نتكلم عن الكتب فقط عند الحديث عن مصادر ثقافتنا. لا يتحدث أحد عن لوحة أو فيلم أو قصيد سيمفوني. وهل يمكن أن أنكر دور البرنامج الثاني (الثقافي حاليًا) خلال وجودي في قريتي؟لولاه ما عرفت الكثير من التجلّيات الجديدة في الكتابة والأدب والفن. لولا حسين فوزي ما عرفت كيف تتعامل الأذن مع السيمفونية. ولولا إبراهيم الصيرفي ما قرأت أول قصة لي في هذا البرنامج. ولولا بهاء طاهر والشريف خاطر وعزت النصيري ما سمعت تلك المقابلات التي كانت تقدم مع أدباء العالم. كانوا يترجمون المقابلة ويمثّلونها. وهكذا يخيّل إلي أنني استمعت إلي صامويل بيكيت أو ملك راج أنانت أو ميشيل بوتور. كانت القراءات تختلف من زمن إلي آخر. لقد قرأت الرواية وعنها، وقرأت عن مصر، المكان والناس والتجربة، وقرأت عن الحلم الاشتراكي، مثلا بعد نكسة يونيو 1967 قرأت الكثير من مذكرات العسكريين، في محاولة فردية، لمعرفة سبب ما جري، قراءتي في التراث جرت وراء التراث الشعبي، الملاحم والسير الشعبية خاصة بعد نكسة 1967.
الاغتراب والهجرة
(بلد المحبوب)، (وجع البعاد)، بمنزلة تنويعات علي وتر الغربة، فما سر اهتمامك بموضوع الغربة والاغتراب عن الوطن الأم؟
- أنا لم أغترب، لم أمر بتجربة الغربة، ولكني عاصرت هجرة المصريين بصورة تصل إلي حدود الظاهرة، وربما تتعداها كثيرا، شدّتني هذه الظاهرة عندما كنت أذهب إلي قريتي فلا أجد في الحقل سوي النساء والشيوخ والأطفال. أما الفلاح التقليدي فقد هجر الحقل سواء إلي المدينة أو إلي الدول العربية الشقيقة. عندما جلست لتناول هذه الظاهرة كان من الصعب عليّ الكتابة عن المصري في الغربة، عن التغريبة نفسها وهو ما كتبه الذين تغربوا. ولهذا جاءت الكتابة عن أثر غياب الذين سافروا، في الواقع الذي تركه كل منهم وراءه. في رواية: وجع البعاد، أقص وأحكي عن الذين غابوا وابتعدوا ولم يعد لهم وجود. وفي بلد المحبوب أحكي وأروي عن الذين عادوا من الغربة، وماعادوا. عندما كتبت هذين النصين، ما كنت قد مررت بتجربة غربة ابني أحمد عندما سافر إلي كندا من أجل عمل دراسات عليا هناك. وهكذا عشت التجربة التي حاولت أن أحياها بعين الخيال من قبل، وأدركت أن الفارق ضخم بين أن يعيش الإنسان حالة إنسانية ما وبين أن يكتب عنها. المصري شديد الارتباط ببلده. في روايتي المبكرة (أيام الجفاف)، يصاب بطلها خلف الله البرتاوي خلف الله بالجنون لمجرد أنه ترك بلدته المنصورة وسافر إلي قرية قريبة من دمنهور ليعمل مدرسًا. أعرف أن المنصورة ودمنهور تقعان في الوجه البحري، بالتحديد دلتا نهر النيل، وأن المسافة بينهما لا تتعدي المائة كيلومتر. ومع هذا يصاب البطل بالجنون لمجرد انتقاله من المنصورة إلي قرية قريبة من دمنهور.
تعد السياسة محورًا من أهم المحاور التي ارتكز عليها مشروعك الروائي، وهنا تبرز إشكالية كبري تتعلق بمسألة الصراع بين رؤيتك السياسية ومقتضيات المعالجة الفنية للنص الأدبي فإلي أي مدي استطعت التغلب علي هذه الإشكالية؟ وما الكيفية التي تغلبت بها عليها؟
- أنا لا أكتب أدبًا سياسيًا، ولكن ما أكتبه أدب يطرح همًا سياسيًا. وعندما أعود الآن إلي ما قلته عن هذه الكتابة الجديدة، أو التي كانت جديدة وقت كتابتها منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، أكتشف أنني كنت أركز علي ضرورة وأهمية أن يكتسب النص شرعيته من شكله الفني أولاً. (يحدث في مصر الآن) رواية (الحرب في بر مصر) رواية، أي أن شرعية النص تأتي من احتوائها علي المفردات الجمالية للنص الروائي. عندما كنت أكتب رواية (يحدث في مصر الآن)، كنت أتساءل عما يمكن أن يبقي بعد سنوات طويلة من الحدث الجوهري الذي تدور حوله الرواية. إنني أحكي في هذه الرواية عن موكب الرئيس الأمريكي نيكسون، فماذا يمكن أن يبقي من هذا الحدث بعد سنوات؟! إن مثل هذه الأحداث ربما يكون لها رنين صاخب وقت حدوثها، وقد لا يبقي منها شيء بعد تقدم الزمن، لذلك لابد أن تتم كتابة الرواية علي أساس كونها رواية فقط، يجب أن تأتي شرعيتها من هذا الاعتبار، أيًا ما كان موضوعها وقضيتها، فهي رواية قبل أي اعتبار آخر.. لم أحاول الحفاظ علي ميراث الرواية التقليدية في كتابة هذه النصوص: يحدث في مصر الآن. الحرب في بر مصر ثلاثية شكاوي المصري الفصيح: نوم الأغنياء (المزاد) أرق الفقراء. بل إن فيها مغامرة فنية، لن أتحدث عن هذا، ولكن المقالات المنصفة، والرسائل الجامعية التي قدمت عن هذه الروايات الثلاث هي التي يمكن أن تؤكد هذا. وآخرها رسالة دكتوراه مغربية حول آليات السرد في (يحدث في مصر الآن). إن الاشتباك مع الشأن الآني في قصيدة أو مقالة قد يكون مقبولاً، وقد يحقق بعض المراد منه. ولكن هذا الاشتباك إن تم في نص روائي، أو حتي قصة قصيرة، يصبح من الأمور التي تحمل العديد من المحاذير المهمة، والوعي بهذه المحاذير كان مبكرًا، سواء مما كتبه النقاد وقت صدور هذه الأعمال - ولن أتعرض لما كتب رغم أنه من نقاد كبار، لويس عوض وعلي الراعي وفيصل دراج - وأيضا مما أقوم به عادة من مراجعة للنفس لما قمت به، وهذه مراجعة دورية، وأقوم بها بقدر كبير من القسوة أحيانًا.
انكسار الأحلام
الفشل والإحباط وانكسار الأحلام قدر معظم أبطال قصصك، فهل ذلك يرجع إلي تراجع المشروع القومي بعد نكسة 67 وتأثرك إلي حد بعيد بها؟ أم أن ذلك يرجع لأسباب شخصية؟
- الأمران معًا. العام والشخصي، الزمن ومسيرة الحياة الشخصية، الجيل والفرد، السياق العام والخاص. لو أردت الكلام والحكي حول هذه المسألة، لاحتجت إلي مجلدات لأن ما سأحكيه هو قصة العمر نفسها. من المؤسف أنني عشت حتي هذه الأيام، أنا لم أتقدم في العمر بعد، ولكني أقصد ما يحدث للإنسان عندما يحيا حتي يتهدم كل ما بناه، ويتبدد المشروع الذي حلم به، ويكتشف أن كل ما آمن به لا يخضع لإعادة النظر، ولكنه يتعرض لحالة من الانهيار التام والمطلق. الأمور كلها مترابطة. لقد قام مشروعي الروائي كله، من الكلمة الأولي وحتي الآن، ولا أقول حتي الكلمة الأخيرة، لأنه لا كلمة أخيرة أبدًا، قام هذا المشروع علي فكرة جوهرية هي الرهان علي الجماهير. أكتب من أجل أن تشعر هذه الجماهير أن ثمة خطأ ما في الواقع الذي نحيا فيه، وأن تتحرك هذه الجماهير بالغريزة والعقل والشعور والإحساس من أجل تغيير هذا الواقع إلي الأفضل. أنا ضد تحويل النص إلي مصنع لتصدير الأحلام إلي الناس، وأنا أيضًا ضد التصوير الفوتوغرافي للواقع لأن مثل هذه المهمة قد تقوم الكاميرا بها أفضل مني ألف مرة، ولكني مع الكتابة التي تحرك وجدان من يقرأها. لذلك أراهن كثيرًا علي القراءة الإيجابية من قبل القراء. وأعتبر القراء هم الجانب الأكثر أهمية في العملية الإبداعية وأشركهم معي كثيرا في كتابة النص، التي أمارسها كلعبة. ولهذا ظهر المؤلف كثيرًا في أعمالي الروائية، أحكي هذا كله حتي يدرك القارئ عمق دوره في المشروع كله، وإذا بكل شيئ ينهار، كل ما يمت إلي الفكرة بصلة، لم يعد له وجود، ثم لا تريد مني أن أشعر بالإحباط وألا أسكن عند الضفة الأخري لليأس؟
يعتبر الأدب بمنزلة مرآة عاكسة للتاريخ فهل تري أن مشروعك الروائي قد استوعب تمامًا هذا البعد؟
- من الصعب علي أي روائي أو مبدع عمومًا، أن يرجع كل ما يقوم به في العملية الإبداعية إلي عناصره الأولي، وأن يقول إن كتابته فيها كذا وكذا، إن كان سؤالك عن قضية الوعي بالتاريخ سواء لدي الروائي أو لدي مخلوقاته وشخوصه التي يبدعها عند الكتابة الروائية. وإن كان المطلوب مني أن أؤكد أو أنفي وجود هذا الوعي في ثنايا النص الروائي، إن كان هذا هو مقصدك، فأحيلك إلي النصوص نفسها، النص أفضل شاهد. لا مشكلة عند الكلام عن وعي الكاتب بالتاريخ، ولكن المشكلة تكمن عند تناول وعي الأبطال بالتاريخ. ذلك أن الأبطال الذين يتحركون في نصوصي الروائية من الفلاحين، أغلبهم من الأميين. وتحميل البطل الأمي مايفوق وعيه ويتفوق علي إدراكه يعكس عيبًا فنيًا، يشكل نقطة ضعف في أي نص روائي، حتي عندما ينطق مثل هذا البطل بالعربية الفصحي، يكون في ذلك خطأ منهجي، إن إنطاق الشخصيات بآراء لا يمكن أن يتوصل إليها سوي المؤلف، خطأ منهجي، وخطأ في الكتابة الروائية. أيضًا فإن جعل البطل الأمي يتصرف وكأنه لديه حس بالتاريخ وشعور به، ربما كان في ذلك بعض الافتعال الذي يقف ضد الكتابة الواقعية التي أؤمن بها وأمارسها، ولا أستطيع أن أحيد عنها، ولكن السؤال الذي يمكن أن يطرح في مواجهة هذه النصوص هو: هل النص فيه وعي بالتاريخ؟! لا أقصد أن يكون ذلك مباشرًا، ولكن أقصد روح النص ومعناه والرسالة التي تقف وراء النص كله. وأنا أكتفي بطرح السؤال فقط لأنني أعتقد أن الإجابة عنه ليست مسئولية المبدع نفسه أبدًا.
في عصر التلفزيون والحاسب والإنترنت هل مازلت تراهن علي القراءة بالنسبة لتوزيع الكتاب وهل سعيك من أجل تحويل رواياتك إلي أعمال درامية مرجعه تراجع عدد القراء؟
- لا أسعي أبدًا لتحويل أعمالي سواء إلي السينما أو التلفزيون. توشك الفقرة الأخيرة من سؤالك - وأرجو الإبقاء عليها كما هي - أن تشكل اتهامًا لي، لو كنت أسعي لتحويل أعمالي إلي التلفزيون أو السينما، لكتبت لهذه الفنون مباشرة، والعروض أكثر من كثيرة، أكثر من الهم علي القلب كما يقولون. إن حولت هذه الأعمال إلي السينما أو التليفزيون، دون أي تنازلات جوهرية من جانبي فأهلاً وسهلاً، وإن لم تحول فلا مشكلة هناك. رهاني الأساسي والجوهري علي قراءة النص، وأي شيء بعد هذا تفاصيل لا يتوقف الإنسان أمامها طويلاً، لا أقلل من أهمية السينما والتليفزيون في مواجهة حالة الأمية بأنواعها المختلفة، وعدم الإقبال علي القراءة الذي وصل حتي إلي المثقفين أنفسهم. ومن المؤكد أن القراءة عمومًا تتراجع، ولكن هذه المحنة لا تجعل الإنسان يحيد عن الكتاب، الذي أعتبره الوعاء والوسيلة الجوهرية لإقامة صلة وعلاقة بين المؤلف والقارئ عبر نصه المكتوب، كانت هذه هي قناعتي. ومازالت وستظل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.