وفق منتصر القفاش حين اختار أن يصنف عمله الرائع "في مستوي النظر" كقصص، إذ ضم العمل احدي وعشرين نصا شكلت في مجملها نسقا روائيا حقيقيا باستثناء النصوص الثلاثة الأخيرة، التي دار كل منها في مدار مختلف، في الحقيقة ان وجود اي نص من تلك النصوص الاخيرة كان كفيلا وحده بإدراج العمل ككل تصنيفيا تحت بند قصص وليس رواية وهو ما حدث بالفعل، فالاستمرارية بين نصوص اية مجموعة قصصية هي ملمح روائي بكل تأكيد ولكنها هنا ليست كاملة، ولهذا اختلفت عن تلك الاستمرارية المميزة لما بين فصول الرواية من علاقة. أعتقد أن القصة القصيرة هي أقرب الأجناس الأدبية الي الحياة اليومية المعاصرة، ليس فقط لقصرها، وليس فقط لقربها من نشاط التدوين والكتابة متزايدة الانتشار من خلال الوسائط الالكترونية، ولكن بسبب طبيعتها البنائية، وأقصد الدقة والتركيز كقيمتين تمت لهما السيادة فوق كل ماعداهما من قيم في الآونة الاخيرة، فالقصة القصيرة تعتمد علي التركيز علي ملمح وحيد، قد يكون هذا الملمح شخصية او حدثا او فكرة، ولكن ليس كل هذه الاشياء معا، أو علي الأقل ليست بنفس الدرجة من الأهمية، وهنا يأتي دور الدقة، إذ إن هذا الملمح يجب أن يتم فصله وعزله عما حوله من امتدادات وتداخلات بعناية فائقة لتصبح له القدرة علي العمل كمركز لدائرة بصرف النظر عن حجمها وتأثيرها، وعليك، مع كل ذلك، أن تصنع جمالا ما. ليست مصادفة اذن ان الآونة الأخيرة شهدت تصدر المجموعات القصصية المشهد الادبي، إذ صدر عدد من المجموعات المتميزة مثل "قميص هاواي" لإيهاب عبد الحميد و"بلو" لمحمود توفيق، و"يونس في احشاء الحوت" لياسر عبداللطيف، و"نحو الجنون" لمنصورة عزالدين، اضافة لهذه المجموعة لمنتصرالقفاش، وفي الشهر الاخير محمد خير "رمش العين " و"كما يذهب السيل بقرية نائمة" لمحمد عبد النبي، وهذا علي سبيل المثال وليس الحصر. في مجموعة منتصر القفاش شكل الدور الأرضي، بما حوله من لغط بين سكان المنطقة وأحيانا داخل الاسرة الواحدة، التيمة او خيط البناء الذي امتد بين قصص هذه المجموعة، مرة اخري باستثناء الثلاثة قصص الاخيرة، خيط كشف ما تحته من صراعات هادئة ولكن مستمرة، بين الازواج حول السيادة، والصراع بين الأباء والأبناء، والتواطؤ بين الأبناء واحد الآباء، غير ذلك ستلاحظ التواطؤ الجماعي حول السخرية من سلوك كبار السن، محاولات بعض السكان المستمرة للاستحواذ علي بعض الاشياء حتي لو كانت علي حساب الآخرين، غرابة طباع بعض الناس، لعب الكرة في الشارع وتبادل الخبرات بين الاولاد، ذلك هو السياق العام. أغلب الظن أن القفاش كان هنا يتصدي للسؤال الأثير: كيف يمكن كتابة الحياة العادية؟. أغلب الظن، أيضا، انه كان يجرب رصد مستوي معين من تلك الحياة، كأننا بصدد واقع ما بدون واقعيته، ليس الواقع تماما ولكن نسخة منه تنتمي للمؤلف اكثر من انتمائها لاي ملابسات، نسخة نالها من التجريد الشئ الكثير، فخرجت في شكل منمنمات كادت ان تكون تكرارا لولا بعض الفروق الطفيفة، تكمل كل قصة ما غفلت عنه السابقة، في بؤرة النظر هنا تفاصيل أقل من العادية، نحس بها ولكنها لم تكن أبدا في بؤرة ادراكنا، انها حقا أمور في مستوي النظر وقد لا تراها، لن تجد هنا كلمة منطقة شعبية او حارة، مع أن النصوص مليئة بعشرات الاشارات لوجودنا بمكان كهذا، فلسنا بصدد درس في السوسولوجي، وإنما هنا مكان لا يمكن تعريفه الا بمن تجمع فيه من بشر، عم حسن، عم محمود، عم سعيد، عم يحيي، فان تبدلوا تبدل المكان. بخصوص الثلاثة قصص الاخيرة التي اشرت لها سابقا، أري انها شكلت نهاية مسيرة، اذ يمكن رؤية تطور المكان والزمان فيما بين قصص الجزء الاول من المجموعة كأنه سيرة ذاتية بطريقة او بأخري، وفي نفس المسار تطورت تقنيات الكتابة من البساطة الي التركيب لتنتهي هنا، مع هذه القصص الاخيرة وبالذات مع النص الاخير، الاكثر توفيقا، بالفانتازيا، ولمنتصر القفاشي باع طويل مع هذه التقنية، واظن ان روايته أن تري الان" كانت اول تبديات الفانتازيا في ادبنا، وكنت قد ذكرت ذلك في مقال سابق لي هنا، في اخبار الادب، تحت عنوان "فانتازيا ناقصة" خصصته لرصد انتشار تلك التقنية بشكلها الحديث كما هي في آداب اخري، انتشارا جاء في سياق التعددية والتنوع، الذي حل محل أحادية جمالية سادت عندنا علي مدار السبعينات وماقبلها. نعود إلي "المشي" وهو النص الاخير في هذه المجموعة، أعتقد أنه من أجمل ما قرأت من قصص قصيرة، هنا يتم التعامل مع الاصطدام، وهو ذلك الفعل الذي يحدث عندما يتقابل جسمان بعشوائية غير مقصودة وبدرجات مختلفة من العنف، بطريقة مختلفة تماما، اذ يصاب به انسان وكأنه مرض نفسي، مثله مثل الاكتئاب او القلق او الفصام، ومثله مثل تلك الامراض، لا يستطيع المصاب بها التحكم فيه تماما، ومثله مثلها، يكون له فترات من التواري التام حتي تكاد تظنه قد شفي نهائيا، ساعتها يعاود الهجوم بضراوة اكثر مما سبق، ويكون له من فترات ذروة لم يبلغها فيما سبق، فتتفاقم الامور بمرور الوقت، حتي ينتهي به الامر الي الإصطدام بصورته هو شخصيا في المرآة.