لا أعتقد أن أحدا من أصدقاء، أو حتي أعداء، الشاعر عمر حاذق لم تصبه الدهشة عندما بلغه خبر القبض عليه هو ومجموعة من النشطاء الثوريين يوم الإثنين 2 ديسمبر 2013 أثناء محاكمة قتلة خالد سعيد بالإسكندرية بتهمة التظاهر دون ترخيص، وتعاظمت الدهشة مع استمرار حبسه وإحالته للمحاكمة حتي صدر الحكم يوم الخميس 2 يناير علي عمر ورفاقه حضوريا وغيايبا بالسجن عامين وغرامة 50 ألف جنيه. تضمنت قائمة الاتهامات العجيبة التعدي علي أفراد الشرطة؛ وهو الاتهام الأكثر إثارة للدهشة لكل من يعرف عمر، الشاب الوديع المهذب صاحب الابتسامة الدائمة والسمت الطفولي. عمر حاذق الحاصل علي درع أمير الرومانسية في مسابقة أمير الشعراء والذي تفيض قصائده رقة وحبا يتحول بجرة قلم إلي خارج عن القانون ومتعدي علي الشرطة. إزاي؟؟ (1) رأيت عمر لأول مرة في عام 2002 أثناء أمسية شعرية في مركز الإبداع بالإسكندرية، صعد عمر للمنصة وبدأ يلقي قصيدته التفعيلية بطريقة كلاسيكية متقنة وبلا أخطاء، لكني لم أتحمل جرعة الرومانسية الزائدة وانفلتت مني بعض الضحكات المكتومة مع الشاعر حمدي زيدان، بعد سنوات من هذا اليوم وبعد أن تصاحبنا قليلا أنا وعمر سيسر إليّ أنه لاحظ ضحكنا المكتوم لكنه رغم ذلك كان معجبا بقصائدنا وسعي إلي مصادقتنا منذ هذا اليوم. كنت دائما ما أشيد بمهارته اللغوية وبنائه المتقن، لكني كنت دائم الانتقاد لثبات فكرته عن الشعر ووقوفها عند شاطئ الرومانسية العاطفية، وكان عمر يتقبل انتقاداتي بهدوء ويختم لقاءاتنا المتباعدة بجملته الأثيرة التي يعرفها كل من تكلم معه : "أشكرك يا صديقي." وحين أصدر ديوانه الأول "لن أستحم" علي نفقته وفي طبعة محدودة كانت المفاجأة أن أتت القصائد في شكل قصيدة النثر لكن بنفس اللغة والتيمات السنتمنتالية، أهداني نسخة من الديوان، الذي سيسقطه عمر بعد ذلك من سيرته، وجلسنا نتناقش فيه وقلت رأيي بنفس الطريقة. ربما أكون ضايقته بعض الشيء لكنه في النهاية سلم علي بحرارة مكررا "أشكرك يا صديقي" بنفس الأدب والامتنان. (2) عاش عمر مع عائلته لفترة طويلة في الكويت حيث كان يعمل والده، وحين عاد والتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية كان حلمه أن يكمل دراسته العليا ويعمل في السلك الأكاديمي. ظل عمر محافظا علي تقديراته العالية، وفي السنة الأخيرة فوجئ بتخطيه وحصول ابنة أحد أساتذة الكلية علي تقديرات أعلي وتعيينها معيدة بالقسم، وفي ظروف لا أعلمها تأكد له أنه قد تم استبدال أوراقه بأوراق الطالبة إياها، ورغم شيوع هذه الفضيحة وقتها إلا أنه لم يتمكن من إثبات حقه ليترك هذا الموقف فيه مرارة لا تنتهي. ذهب إلي القاهرة وحاول العمل بقطاع الثقافة كما عمل أيضا كمصحح لغوي قبل أن يعود إلي الإسكندرية ويعمل مصححا لغويا بقسم النشر في مكتبة الإسكندرية. (3) بدأ عمر يشق طريق النجومية الشعرية بثبات وبخطوات واسعة. كتب عنه الناقد الدكتور صلاح فضل في مقاله الأسبوعي بالأهرام تحت عنوان "شاعر يطاول المتنبي"، وكتب عنه الشاعر سيد حجاب في جريدة الوفد مقدما ومبشرا، وصار ضيفا علي معظم الأمسيات الشعرية بالإسكندرية مع شعرائها الكلاسيكيين الذين غدا عمر أثيرا عند معظمهم. وأصبح عضوا في هيئة تحرير مجلة تحديات ثقافية التي تصدر في الإسكندرية. وحصل علي جائزة الدكتور عبد الله باشراحيل في دورتها الأولي لأفضل ديوان شعر عن ديوانه المخطوط "كما أنت حلوة" عام 2005 مناصفة. ثم حصل علي درع أمير الرومانسية في مسابقة أمير الشعراء بدورتها الأولي عام 2007. كان هذا الطريق مخالفا لما يفعله أمثالي من الشعراء الفشلة، حتي وقتها علي الأقل، لكن هذا لم يمنع استمرار علاقة الصداقة الودودة والحذرة بين عمر وبين مجموعتي من الشعراء والكُتاب. وفي عام 2009 أصدر عمر ديوانه "أصدق شمس الشتاء" عن دار أرابيسك ولقي الديوان احتفاء معقولا وناقشه الروائي علاء الأسواني في صالونه. كان عمر قبلها قد فاز بالجائزة الأولي في الشعر بمهرجان "الحب والعدالة والسلام في العالم" الذي أقامته أكاديمية (بادر بيو) بإيطاليا. وفي 2010 شارك في مهرجان للمبدعين الشباب بأوروبا والمتوسط أقيم في مقدونيا. وفي نفس العام تمكن من تنظيم مؤتمرين من مؤتمرات اليوم الواحد في مكتبة الإسكندرية أولهما في ذكري الشاعر أمل دنقل وثانيهما تكريما للشاعر سيد حجاب، كما نظم احتفالية ربيع الشعر بحضور مجموعة من كبار وشباب الشعراء الذين حرص عمر علي وجودهم وكنت واحدا منهم. كان الطريق يبدو ممهدا والريح هادئة، تماما كما هو الحال قبل أي عاصفة. (4) بعد حادثة قتل خالد سعيد تقابلنا، قرأ عليّ قصيدتين جديدتين تأثرا بالحادث وحكي لي أنه يشارك في كل الوقفات الصامتة التي دعت إليها صفحة "كلنا خالد سعيد". سألني رأيي فأجبته بأنها قفزة كبيرة له كشاعر وخطوة صغيرة للشعر. أوضحت له رأيي وتقبله كالعادة لكنه كان متحمسا لهذا التغير في شعره وفي حياته. أذكر بعدها في ندوة أقيمت للشاعر الإسباني "ديونيسيو كاناس" بمركز سرفانتس بالإسكندرية وبعد أن قرأ عمر القصيدتين صفق له الحاضرون بحرارة وبعد انتهاء الندوة احتضنه الشاعر عماد حسن بتأثر بالغ. وحين اشتعلت ثورة 25 يناير كان طبيعيا أن أراه دائما في مسيراتها السكندرية الطويلة والحماسية. وفي منتصف 2011 أصدر في سلسلة يدوية ديوانا مشتركا مع الشاعر السوري "عبد الوهاب العزاوي" والشاعر الإيطالي "نيكي داتوما" والشاعر البرتغالي "تياجو باتريشيو" بعنوان (نوتا .. فضاءات الحرية). وحينما دقت الثورة علي أبواب المكتبة وبدأ التذمر بين أوساط العاملين بها في البداية احتجاجا علي أوضاعهم فيما يُعرف بالمطالب الفئوية قبل أن تتسع الرؤية لتصبح احتجاجا علي الفساد المالي والإداري وتنفتح ملفاته في الجرائد آنذاك، كان عمر ببراءته المعهودة مصرا أن المشكلة في مديري الوحدات وأن مدير المكتبة بعيد عن هذه المشاكل ولا يعلم بها، لذا قام بكتابة إيميل أرفق به ست صفحات تكشف للسيد المدير ما رآه عمر فسادا يمكن إصلاحه. بالطبع لم يتلق عمر ردا من السيد المدير. جاءه الرد عن طريق عدة مكالمات أخري من مستشارين ونقاد كبار "معقول يا عمر؟؟ إنت؟ إنت تمشي ورا المخربين دول؟؟ دول عايزين يخربوا المكتبة يا عمر! المكتبة هي المدير والمدير هو المكتبة يا عمر! إنت مزعل الراجل منك! معقول يا عمر؟؟" ولما لم يرتدع عمر انتظر السيد المدير حتي انتهي عقد عمر بعد شهور قليلة ورفضت إدارة المكتبة تجديد عقد عمر مع مجموعة أخري من المغضوب عليهم، فما كان من متمردي المكتبة إلا أن أنشأوا علي الفيس بوك صفحة بعنوان "كلنا عمر حاذق" دعما له، وبدأ عمر في تحول استراتيجي كبير يكتب علي موقع الدستور مقالات نارية مهاجما إدارة المكتبة ومديرها بالاسم. وإزاء كل هذا الضغط اضطرت الإدارة إلي إعادة عمر ورفاقه واستمر عمر في مقالاته وهجومه، أذكر بعد تولي مرسي بقليل كنت أحادثه في أمر ما وسألته عن الوضع في المكتبة، كان متفائلا كثيرا وقال لي إن ملف المكتبة أمام الرئيس وخلال شهرين سيطيح برءوس الفساد. لكن السيد المدير بقي. وقيل وقتها إنه ساعد باتصالاته في موضوع قرض صندوق النقد الدولي فبقي في منصبه. ومع الوقت خمدت الثورة أو تم إخمادها، وانتاب عمر الاكتئاب ولم يعد يظهر كثيرا. كان يهاتفني من حين لآخر للسؤال، وأرسل لي رواية قصيرة ثم رواية طويلة كتبها وكان ينوي نشرها علي نفقته وتوزيعها بسعر قليل. هل كانت تلك أيضا أحد أعراض الاكتئاب؟ (5) من ينظر لصورة عمر مبتسما أمام كاميرا التليفزيون في المسابقة الشهيرة، وصورته مبتسما وراء القضبان أثناء إحدي جلسات محاكمته، لابد أن يخبط كفا بكف أولا علي حال الدنيا، ثم علي حال تلك الثورة وما آلت إليه. هل قُدر لهذا الشاعر الذي تبدو ملامحه أصغر بكثير من سنه (في 31 يناير القادم يكمل عامه السادس والثلاثين) أن يدفع دائما ثمن فساد ما في الدراسة أو العمل أو السلطة؟ الأغرب أن عمر الذي خرج في كل المظاهرات ضد المجلس العسكري ثم ضد حكم مرسي وشارك في مظاهرات 30 يونيو تحاول الآن الأطراف الأخري أن تنسبه لها أو علي الأقل تعيّر السلطة ذ وهي تستحق ذ بموقفها منه؛ فتخرج جريدة الشعب بعنوان "حكومة الانقلاب تسجن أمير الشعراء" أو يدخل أحد حاملي صور رابعة علي صفحة إيفينت أمسية شعرية للتضامن مع عمر ساخرا ومستنكرا من أن "يتضامن أدباء مع الانقلاب مع شاعر إرهابي في سجون الانقلابيين" ليرد عليه آخر "كثير منهم ساهم في الانقلاب ولو بموقفهم المخزي وتحول الكثيرين وجبنهم." (كذا). يحكي لي صديقنا المشترك الشاعر والحقوقي حمدي خلف أحد محامي عمر عن موقف غريب حدث يوم محاكمته: فبعد انتهاء المرافعة رفعت الجلسة وخرج المحامون للراحة ليجد حمدي مكالمة تليفونية يسأله محدثه فيها عن حقيقة الحكم علي عمر ورفاقه بالسجن عامين وغرامة 50 ألف جنيه الذي نشر علي أحد المواقع الإليكترونية، فينفي حمدي ويؤكد أن الحكم لم يصدر بعد وأن القضية في أساسها باطلة، وبعد دخولهم يصدرالقاضي حكمه مطابقا لما سبق. هل يمكن أن يصل الجنون والبطش إلي هذا الحد؟؟ أليس من الممكن في أي لحظة الآن أن نكون جميعا عمر حاذق؟