فجأة راحت النقطة السوداء تتمدّد. من طرف القلب تفشّت كقطرة دم سقطت في بحيرة فراحت تتفكك الي خيوط متشابكة ذات كثافة هلامية خفيفة تتآكل وهي سائرة بغير انتظام نحو العدم. أهذا ما تفعله الرصاصة بالبشر؟ ليس مؤكدًا. ليس مؤكدًا أصلا أن رصاصة أصابت رأسه. ألم تقرأوا بيان الناطق بلسان الجيش؟ مهلا، كيف يكون لسانُ الجيش؟ أكلسان عظاءة، أفعي، حرباءة.. لحظة، لماذا هذا الإصرار علي تأنيث البشاعة، يا للذكوريّة المقيتة. حسنًا: أكلسان ضّبع يسيل منه لعاب ممزوج بقذارة جيفة؟ ولكن ما الفرق، ايديولوجيًا، إن كان التشبيه محشورًا في شدقيّ عظاءة مؤنثة أم بين أنياب ضبع مذكّر؟ هل يوجد في هذا الفضاء الآسن الفاصل بين تشبيهين مقززين، متّسع للايديولوجيات أصلا؟ لا أدري. ثم إنه لا داعي للمكابرات الإستعارية من الأساس، فلا سبيل لمعرفة كنهِ لسان الجيوش، فهو ينطق عمومًا من مستنقعات معتمة لا سبيل لبشر مثلي للوصول اليها، هذا لو أخذنا في الاعتبار الاحتياطات العسكرية القاتلة المعتمدة حولها ابتداءً بالأسلاك الشائكة المكهرَبة مرورًا بحقول الألغام وحتي بنادق القناصة. فكيف ستقطع كل هذا؟ وهل يستحق الأمر أصلا مثل تلك المخاطرات بغية العثور علي الاستعارة الدقيقة للسان الجيش؟ إذًا لنترك المسألة كما هي: إنه لسانُ الجيش، الذي يقف علي سطحه المحرشف الرمادي الذي تلوح منه نتوءات حمراء قانية، مخلوقٌ هلاميّ مخاطيّ يترجرج كلما نطق فيسيل منه الكلام كقيء آسن من معدة ملوثة بطعام فاسد اجترّه دود أصفر مريض. ها قد نجحنا في صياغة الاستعارة من دون أن نقصد. يا للقرف. أصلا، في هذه المرحلة التي سنصف ما وقع فيها، لا وقتَ للتريّث في المشي والتفكير في شيء. فالرصاص الآن كثيف ككثافة البيوت الحجرية الشاحبة في هذه الجهة من البلدة، وقد تطالني احداها لو تلكّأتُ، فكيف سأكمل حينها سرد الحكاية؟ كيف بدأ كل هذا؟ لو اعتمدنا علي الصحف التي صدرت في اليوم التالي، فإن الأمر بدأ وبدا عاديًا تمامًا. لا سبيل حتي لاستخراج قصة صحفية فاقعة منه تستحق الذكر ولو في مربع بمساحة 2سم 2سم علي صفحتها الأولي ليوجّه القارئ إليها في إحدي الصفحات الداخلية. فهي مجرّد أحداث شغب قادها نفر من الجنائيين الدهماء الذين استغلوا حدثًا دراميًا لتفريغ نزعاتهم المنفلتة من قلب جيناتهم المشوّهة في أصل أصلها. بل لقد قيل في بعض العناوين المرسومة بعنايةِ قنّاص لا يطيق تبديد طلقة واحدة هباءً دون دماء إنهم ذ الدهماء، هؤلاء الأوغاد عديمو الذوق والثقافة الذين لا يتقنون استعمال الشوكة والسكين - قد كسّروا حتي محطات سحب النقود الأوتوماتيكية، والعياذ بالله. قال الناطق: في ظهيرة ذلك اليوم، اضطرّت قوة عسكرية خاصة الي إطلاق النار علي شاب حاول دهس نصف فرقة من الجنود الذين وقفوا بانتظار حافلتهم التي ستقلهم الي قواعدهم، قبل أن يهرب في الشارع الرئيسي بشاحنة فارغة ينقل فيها عادة الدجاج من الأقنان الي المسلخ المرخّص. أحدهم ذ أضاف الناطق - أخطرَ العسكر بالحادث فصدر أمرٌ بإخراج قوة كبيرة، بعضها أغلق الشارع من طرفيه، وبعضها لاحق المشبوه بمحاولة القتل. وفي لحظة لم يسجّلها أحد لاشتداد الأحداث علي الزمن، مدّ ضابطٌ رابطُ الجأش يده القابضة علي المسدّس الأوتوماتيكي وأطلق ثلاثة أو أربعة عيارات أصاب بعضها أمّ رأس الملاحَق المشبوه. فقُتل علي الفور. كان من شأن كل هذا أن يُقتصر علي تقرير قصير في ختام نشرة إخبارية واحدة تنتهي بمحادثة خاطفة مع ضابط القوة الخاصة وقد تم تمويه وجهه المثير للفضول بتلك المربعات المحَوسبة الراقصة ليختتم كلامه بالقول إن كارثة هائلة قد أُحبطت "وأحيّي جميع أفراد القوة الشجعان"، قبل العودة الي المذيعة الشقراء لتتابع سرد الأخبار معلنة: "والآن الي موضوع آخر". ولكن، ويا للعنة، لم يُتَح للمشاهدين شيء من تلك الرتابة المسائية المحبّبة! فقد سارع المتطرفون بحسب المذيعة أعلاه الي إعلان السائق الصّريع ضحيةً قُتلت بدم بارد. آخرون قالوا إنه شهيد، والبعض بالغ فقال إنه سقط كبش فداء علي مذبح قتلة محترفين يتغطون بأردية رسمية. كان هؤلاء الأخيرون هم الأخطر. فقد فاح من تحليلهم بعض رائحةٍ لفوضويّة ظنّ رفيعو الذوق أنها غربت عن العالم الي غير رجعة، وليتفاجأوا أنها تتردّد علي ألسنة غوغائيين لا يبدو عليهم أنهم قرأوا شيئًا من التراث الفوضوي ولم يسمعوا حتي باسماء مثل باكونين أو كروبوتكين. وازداد القلق خصوصًا لأن الجَمع بين هذا الموقف الأخير والموقف الذي رأي القتيلَ شهيدًا، في فتيلٍ مجدول واحد، قد أجّج الوضع بل نشر النقمة كنار جائعة عطشي في الهشيم حتي ثارت الجماهير سريعة الاهتياج العاطفي، فاشتعلت بؤر ساخنة من العنف وتهدّدَ النظام العام. لحظة، لحظة.. النظام العام! توحي عبارة النظام العام بكثير من الصرامة. فالنظام وحده يكفي لإشعال البرودة في العظام حتي تروح تصطكّ مطلقة تكتكات متتالية كأنها لبنيان علي وشك التقوّض في أوج هزّة قويّة علي سلم ريختر، فما بالكم لو كان النظام عامًا أيضًا. عندها ستصطكّ أبنية عديدة، بل حارة برمّتها، بل أحياء بأكملها، حتي يخرج من بينها شبح الرّعب مخيّمًا علي أهل النواحي فيشلّ عظامهم ليهرعوا ساجدين شاكرين لآلهة النظام العام التي تحميهم سواء أكانوا يقظين أم نيام. إن قدسَ الأقداس والعتبات الحرام والخطوط الحمراء لا تشكّل، مجتمعةً، وصفًا كافيًا لإيفاء النظام حقّه، فكيف لا يتورّع دود الأرض الحقير الفقير المُعدم هذا عن الاقتراب من أذيال مجد النظام؟ والله إنه يجب جلده وسلخ جلوده واستدعاء الحجّاج لضربه ضربَ غرائب الإبل. يجب وصف لحظة إصابة الرصاصة أمَّ رأس الملاحَق المشبوه بدقّة، فالرصاصة أصابته بدقة، ويتوجّب علي الوصف أن يحاول ألا يقلّ عنها دقة: تتحرك رصاصة المسدّس بسرعة تتراوح ما بين 800 و 900 متر في الثانية، أي نحو كيلومتر في الثانية تقريبًا. من الصعب تخيّل المشهد حين تصيب رصاصة بهذه السرعة الهائلة رأسًا انسانيًا. فمهما كان الرأس يابسًا، لن يستطيع صمودًا أمام سرعة فولاذية ماحقة كهذه. سرعة بعض الرصاص هي تقريباً 1500 متر/ثانية.. أي أن الكاميرات الحديثة بالكاد تستطيع إلتقاط بضع صور لها خلال الثانية الواحدة! فما بالكم بالطريقة التي يلتقطها بها رأس بشري ليست له سرعة وميض الكاميرا؟ واضحٌ أنه لن يلتقط ولو لمحة منها لأنه سيكون قد تهشّم تهشيمًا. إذن في كل الأحوال، كانت رصاصات الشرطة المذكورة في أمّ رأسه سريعة جدًا. ولكن: كيف كانت لحظة اختراقها لجلدة ثم عظم الرأس وما فيه. لنترك التحليل ونتركّز في الخيال: شظايا رفيعة وأخري أغلظ سوف تفلت من موقع ارتطام الرصاصة بالرأس، هي خليط من لحم وشعر وجلد وبقايا جسدية بشرية محترقة قد تكون لها رائحة شواء مُثير للغثيان. ستنتشر في مساحة دائرة، مما يصعّب احتساب نصف قطرها لعدم توفر ما يكفي من متغيّرات لضرورات الحساب الرياضي. ولو أن الكاميرا الحديثة المذكورة أعلاه جاءت بنفسها لالتقاط صورة لما يجري فالأرجح أنها لن تتمكن من التقاط شيء يُذكر لأن ذلك الخليط المفتّت المحروق المتطاير سيرشق عدستها وهو يطرطش بسرعة رهيبة، وليحجب عنها الضوء الضروري لتجميد هذه اللحظة الدقيقة. هذا ما حدث تقريبًا للشاب الملاحَق المشبوه في تلك اللحظة الحاسمة التي تحوّل فيها الي ماضٍ. أو لنقلها ببساطة: لقد قُتل فورًا. تسألون ماذا كانت سرعة وفاته؟ لا توجد حتي الآن وسائل لاحتساب هذه الأمور. ثم أنه ما معني الإطناب في كل هذا. لماذا هذه المحاولة السافرة التي تختبئ خلفها محاولة آثمة لتأجيج النقمات المؤججة أصلا. إن هذا تآمرٌ مخطَّط يحاول الاختباء بين سطور السرد الأدبي بغية التحريض والمساس بالنظام العام. يجب إطلاق رصاصة في أمّ رأس هذا الكلام! حسنًا، من غير المعروف اذا ما تنبّهت السلطات وأرسلت أحد قنّاصتها لكتم أنفاس الفقرة أعلاه، ففي النتيجة ها هي موجودة ولا تزال متاحة للقراءات. وبالمناسبة، لم نعرف اذا ما كانت أقيمت لجنة للتحقيق في هذا التقاعس الذي لا يُغتفر. بعد هذا الحدث الخاطف الذي جري تطويقه ببراعة بوليسية لافتة، اشتعلت مواقد الغضب الشعبي في عدة نقاط. وقد اجتمع علي الفور عددٌ من الرؤوس المعبّأة بالسّلطة والقوّة والصلاحيات لبحث السؤال: كيف يشتعل الغضب؟ ويُقال إنهم لم يتمكّنوا من فهم هذا الانفلات الغوغائيّ بعد.. ويُقال أيضًا إن الغوغاء يعيدون الإنفلات فقط لأنهم يحبّون مساعدة تلك الرؤوس علي العثور علي إجابة للسؤال: "كيف يشتعل الغضب؟!"