«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم مشيت في جنازتي ومشي الناس
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 08 - 2010

لست أدري كيف كان موتهم، وكيف سيكون موتكم أنتم، أما موتي أنا فقد كان أعجوبة الأعاجيب... فيلم خيالي من أفلام هيتشكوك، أو من أفلام العلم المستقبلي.
كنا ثلاثة أطراف في العملية، الموت، أنا، الناس.
الموت، يجلس عند رأسي، حائرا فيما سيفعل، فقد نفذ أمرا، اكتشف أنه، نفذه قبل أوانه.
أنا ممدود في نعش أخضر أحضروه من المسجد، لم يجف الماء الذي غسلوني به، بعد... ذلك أنهم لم يكلفوا أنفسهم إحضار منشفة، من المناشف العديدة التي كانت في خزانة الحمام، بعضها أبيض، بعضها وردي، بعضها، أزرق باهت. نسيت أنني لست في بيتي.. المعذرة.
الناس يروحون ويجيئون قلقين، كما يدل استطلاعهم للساعة بين لحظة وأختها، يتوافدون الواحد تلو الآخر، بادين في الأول بعض الحزن، ثم سرعان ما ينسون المناسبة والمقام، فينخرطون في حديث تافه، أغلبه يتعلق بمن حضر من الرسميين ومن لم يحضر، ومن يمكن أن يحضر، فالمناسبة هامة، وليس أدل علي ذلك من حضور طقم التلفزة، وكثير من ناس الصحافة والإعلام المختلف، وكل الزملاء الكتاب، حتي أولئك الذين لم نتبادل كلمة واحدة، منذ ما يزيد عن عشرين سنة، حتي أولئك الذين كتبوا في تقارير سرية، ومقالات علنية يطالبون بنفيي، أحيانا، وبإعدامي أحيانا، وباعتباري منحرفا اجتماعيا، فمكاني الوحيد هو الصحاري والسهوب للعمل مع مجرمي الحق العام في اقتلاع الحلفاء، حتي هم حضروا ويبدو عليهم الحماس للتقرب من المتقربين من جثماني أكثر من غيرهم. الدكاترة، أساتذة الجامعة الموقرة، كان حضورهم بينا لا يمكن إطلاقا عدم الانتباه إليه، فهم عادة لا يظهرون إلا بمحافظهم المنتفخة، واليوم بالذات، تجلت المحافظ بشكل غير عاد.
كان الجميع يتوجهون بالعزاء للسيد الوزير والسيد الكاتب العام للوزارة، والسيدة مديرة الديوان، دون السؤال عما إذا كان هناك أحد من أهل المرحوم الذين يتقبلون العزاء.. الحق يقال، كان الوزير ومن معه من وزارته ومن زملائه الذين سبقوه في هذه الوزارة، وقد استنفروا جميعهم، أحسن من يقدم له العزاء، فقد كان الحزن يطفح من النظارات السوداء التي تغطي أعينهم، أما أهلي فقد كانوا علي قسمين، قسم النساء، بقي في المنزل يهتم بالمعزيات من أهل الحي، وبما سيفعل مع الدائنين وبالصحف القديمة والكتب والمجلات المتناثرة في كل ركن من أركان البيت، والتي كثيرا ما كانت مصدر خلاف عائلي حاد. وقسم الرجال الذين حضروا مباشرة من المطارات، إلي المستشفي أولا ثم إلي قصر التكريم، حيث أتمدد علي ظهري في النعش الأخضر، وسط القاعة الكبري للقصر، وحيث يطغي صوت المقرئ، علي أصوات السادة والسيدات، المودعين والمستقبلين.
أهلي الذين كانوا هنا، غلبهم الانبهار بما يجري، فاعتراهم الشعور، بأنهم في عرس وليسوا في مأتم، وقد سرهم ذلك أيما سرور، ما جعلهم يذوبون، ويزدادون إحساسا، بأن كل هذه المكانة التي ما كانوا إطلاقا يتصورون أنني أحتلها، لا شك أنها دليل علي ثروة كبيرة تركتها، وسينالون من التركة، ما يزيد في محبتهم لي، حيا وميتا، سيستفيدون، لأشهر عديدة، إذا ما قصدوا إدارة، لغرض ما، أو إذا ما ارتكبوا مخالفة فأوقفهم الشرطي أو الدركي بالتأكيد.
كيف مات؟
كان هذا السؤال، أكثر ورودا وترددا علي الألسنة، بعضهم يطرحه استغرابا، وبعضهم يطره حسدا وغيرة، وبعضهم يطرحه وشاية، وقليل من يطرحه فضولا، ومع أنهم مجمعون في قلوبهم، علي أن هذا البهرج الذي يرافق جنازتي، في فائدتهم أكثر مما هو في فائدتي، فإنهم مع ذلك يرون، أنه لولا السياسة، ولولا الظروف العامة، المحيطة بالنظام، وبالصحافيين والمثقفين عامة، لما كان أحد يعيرني العشر من هذا الاهتمام.
مع ذلك كان الثناء علي النظام وعلي السيد الوزير وعلي كاتبه العام والسيدة النشيطة مديرة ديوانه، كبيرا، لدي جميع الحاضرين، فمثل هذه الفرص التي يخرج فيها المثقفون من جحورهم نادرة، إذ أن عمر الشاقي باقي، وعمر الكلاب طويل كما يقول المثل، والأدباء والكتاب والمبدعون عموما، مع قلتهم، فإنهم مصممون علي أن لا يموتوا إلا في أرذل العمر، حتي ينساهم الناس، ويفقد وجودهم لمعانه.
يقال إنه مات مقتولا علي يد إرهابي.
غير الموضوع، رجاء، فالأيادي عديدة والموت واحد.. غير الموضوع، فالين اليباني في أوج ارتفاعه. والمسجلات شغالة.
قال آخر لمن يقف معه:
أمات بالرصاص أم ذبحا؟
يقال إنه اختنق بالغاز. لم يكن أحد في المنزل ساعة موته.
المعلومات التي عندي تقول إنه مات خارج منزله.
المهم أنه مات والسلام، والأعمار بيد الله.
بينما كان اثنان ينسحبان خارج القاعة، ويتهامسان...
تقول ممرضة، صديقة لنا، إن الرصاصة سكنت رأسه، وإن الطبيب الذي عاينه، رغم أنه أجبر علي إعلان الوفاة، إلا أنه ظل يردد أن الموت الإكلينيكي لم يتحقق بعد.
هددوه، إلي أن وقع علي وثيقة الوفاة، إلا أنه ما أن انصرفوا حتي اقتحم القاعة التي ينطرح فيها الفقيد، فأخرج الرصاصة، خبأها في جيبه، ثم قدم بعض الأدوية له.
تقول، ظل الطبيب، مقتنعا بأن المرحوم حي وأنه لربما يسمع ما يقال حوله، ويدرك وضعيته، ولربما يفكر. فعندما يتوقف كامل الجسم، تعود إلي المخ طاقات لا حدود لها. لقد ظل الطبيب، يتردد علي القاعة وفي كل مرة، يراجع النبض، ويطيل في ذلك، وعندما اقتحمت الشرطة، غرفة الإنعاش، واستولت علي الجثة، سمع عن الطبيب، أنه قال، ستدفنونه حيا، فاصطحبوه معهم عنوة، ولم يظهر بعد.
"إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" أبرز المقرئ الآية، بل إنه كررها ثلاث مرات، في نبرة تهديد ووعيد، أكثر منها نبرة تلاوة علي قراءة ورش ونافع.
متي قتل؟
الظاهر أنه ضرب اليوم مع الفجر. بعد أن اختفي منذ يومين، وقد أخبر أهله بموته أمس وطلب منهم الحضور للجنازة التي تتولي الدولة إقامتها، وعندما طلب أن يدفن في قريته، ردوا عليهم بعنف، بأنه سيدفن مع المكرمين، في مقبرة المكرمين، فالبلد ليس فيه الكثير من أمثال هذه العبقريات.
ضرب تقول؟ المسألة رصاص إذن؟
" يجعل قال علي من قال " هناك قول آخر، يزعم أنه شك بمادة مجهولة، وأن الطبيب اهتدي إلي معرفتها، وأنه عالجه بمضاد يأمل أنه سينقذه. ما تؤكده الممرضة أنها سمعت الطبيب يقول بعظمة لسانه " ستدفنونه حيا " وانه، الطبيب، ما يزال في قبضتهم.
كنت أشعر بوجوده عند رأسي، الموت، بل إنني كنت أراه في شكل شخص يرتدي لباسا عسكريا، ويحتزم بعدة مسدسات وكلاشات، وأربجيات، وخناجر وسيوف، وقنابل علي مختلف الأحجام والأشكال وطائرات كذلك.
تمنيت أن أسأله، عما إذا كانت ساعتي قد حضرت فعلا، وأن المغادرة قد حانت ولا رجعة في ذلك، أم أنها لم تحن، وأن المسألة بين البينين، وأنه سيظل هكذا عند رأسي مدججا، لربما ساعات، ولربما أياما، ولربما شهورا.
فهمت في بداية الأمر، أنه قال، إن هناك خطأ ما وأنه قام بمهمة لم يكلف بها. أتمني أن تحل الإشكالية علي خير، قلت في رأسي، وقد بدأت أحس ببعض الدفء يراود جسدي.
مهما كان الأمر، فالموت لا يعني شيئا للكائن، ولولا الوجع الذي، يحصل بسببه، لما فرقنا أبدا بين أن نكون هنا أو لا نكون. وإذا حدث وحصل الوجع، فالأحسن أن يموت المرء بأسرع ما يمكن.
الوجع هو ما نخشاه من الموت. وما يحدث لي هو أشق أنواع الموت... ذلك أنني هنا ولست هنا. هنا أسمع كل ما يقال حولي علي بعد مئات الأمتار، بل إنني بمساعدة روحي التي تطوف بالمنطقة كلها، وتتأمل وجوه الحاضرين والحاضرات، أستطيع حتي قراءة ما في رؤوسهم.
توقف المقرئ عن التلاوة. أمر بذلك. طوي المصحف ووضعه في محفظة كانت معه، تحت الكلاشينكوف. حاول أن يخفي الكلاش قدر الإمكان، لكنني رأيتها، وأستطيع حتي أن أعدد أرقامها.
اكتمل الجمع. حضر كل من أعلم بذلك من أهل الفكر والفن والثقافة، ومن الوزراء والوزيرات السابقين والسابقات، أكثر من ذلك، فإن رئيس حكومة سابقا، ما أن سمع الخبر في الإذاعة، حتي تلفن يستعلم عن مكان انطلاق الموكب، وموعده، ومقبرة الدفن، ثم انطلق.
ظل يردد، كنت أتوقع ذلك، وأذكر أنني حذرته مرة منهم. ربما لا يحب، لكنه يستحق الاحترام. خصم عنود وشريف.
انطلقت الطويوطا الخضراء، يحيط بي بعض الأقارب، ومعهم كاتب وأستاذ جامعي، وصحفي كان يحبني، وكان الوحيد الذي ذرف دموعا علي.
تلي الطويوطا سيارة التلفزة، بكاميرتها الشغالة والمركزة علي معاليه، ثم سيارة معاليه، والموكب الوزاري باختصار، وكان المقصد مقبرة المكرمين، أولئك الذين يشرفون الوطن الحبيب بشكل أو بآخر.
شيوعي كلب، لولا الظروف، لما مشي في جنازته، حتي أقرب الناس إليه.
كتاباته تافهة ومعظمها سرقه من الكتاب الروس والبلغار والغربيين بصفة عامة.
أنا واثق من أن أمثال هؤلاء يكتب لهم أسيادهم، وهم لا يفعلون سوي وضع أسمائهم.
أما الترجمة فحدث ولا حرج. لا تستطيع أن تكون كاتبا مقروءا في لغة أخري، حتي وإن كانت لغة قبيلة بالوبا إلا إذا كنت حمارا أحمر.
معك حق.
إسلاموي كلب. لقد كتب يدافع عنهم، ويدعو إلي غض الطرف عنهم والسماح لهم بالوصول إلي السلطة.
هكذا إذن.
وأكثر، الوحيد الذي فلت من الموت علي أيديهم، لو لم يكن من قادتهم، وهو الذي يأمر وينهي، يأمر بقتل ذا وتجاوز ذاك... راسبوتين خبيث، ما عرفت البلاد مثله.
لكن ها هم قد قتلوه أخيرا.
من يدري؟ فالكلاب شعوبا وقبائل، تيارات، وعصابات، وأرهاط، ومن يدري فقد يكون علي علاقة بمافيا ما ومات علي يدها، لربما، ولربما.. أمثال هذا الرهط، تجوز فيهم ، ربما، بكثرة.
لربما.
هل قرأ ت له شيئا؟
أعوذ بالله. أقرأ لهذا الملحد الداعر. أقسمت أن لا يدخل كتاب له بيتي. لن ألوث مكتبتي، بأفكار هذا الرجل. لن أجعل أولادي وبناتي عرضة لأفكاره السامة.
لكن كيف تحكم عليه؟
سيماهم في وجوههم يا رجل. تكفي عناوينه، لوضعه في الخانة التي يستحقها. المزبلة.
لكن الناس يحبونه.
الرعاع يحبون حتي الرهج. خالف تعرف.
والله. ثم والله العلي العظيم، لولا أن الوزير شخصيا، ترجاني أمس أن أتولي تأبين الرجل لما جئت ولما حضرت، ولما مشيت في جنازة هذا الكلب.
تؤبنه.
نعم وللضرورة أحكام.
يا أخي كما قلت لك، في القصر، الخيط الوحيد الموصل لموت الرجل، بعد الطبيب المختطف، الممرضة، وإنني لأخشي، أن تختطف بدورها إذا ما استمر لسانها في اللوك. الموت في هذا الزمان لا يعني سوي الغياب، ثم النسيان. كم يغيب الناس، وكم ننسي بسرعة.
هل أعددت التصريح الذي ينتظره الصحافيون.
سأل معالي الوزير الأمين العام، فبادرت مديرة الديوان:
التصريح عندي، إنما أردت أن اسأل معاليكم، هل نوزعه مكتوبا، أم تقرؤه، أم تقول فحواه لا غير. أري يا معاليكم، كما يري السيد الأمين العام، أن تقول كلمات أمام الكاميرا وينتهي الأمر.
طبعا بعد الصلاة والتأبين والدفن.
أضاف الكاتب العام.
ساد الصمت قليلا، ثم بادر معاليه:
لربما يحضر الكبير. لربما يحضر الأكبر منه، فالمناسبة، كما نري مهمة، وقد عكر الأمر، حضور رئيس الحكومة الأسبق البغل هذا.
هذا الرجل لا نفهمه. لا ندري مع من هو. ليس بطيخا، وليس خيارا ولا فقوسا. ليس شيوعيا، ولكن يردد نظرياتهم في التطبيقات الاقتصادية، كاد يخرب البلد، لو لم يطرد شر طردة. لم ينضم للجنة إنقاذ الجمهورية، ومع ذلك لم يعلن تأييده للكلاب.
لا هو طين ولا هو فخار... ما الذي أحضره، لو لم يكن ذلك تشويشا علي الحكومة، وإيحاءا للناس، بأن جزءا مهما من هذا الكاتب الحقير لا يعني الحكومة، ولربما يريد بهذا الحضور المتطفل أن يقول للناس كلاما آخر.
أعتقد أن هذا هو الهدف الحقيقي، فهؤلاء الناس، لا يتحركون فرادي، ولا بشكل غير منظم.
كيف استطاع هذا المعتوه أن يكون رئيس حكومة. إنه زمن الرداءة فعلا.
أضاف معاليه، وكان قد نسي تمام النسيان أن من عينه وزيرا، هو هذا الذي يتحدث عنه بهذه الصفة، وبالتأكيد لو ذكره أحدهم بهذه الحقيقة، لقال بأنه استنجد به، ولولا استحقاقه وأهميته، لما بقي بعد ذهابه هو.
ثم إن الفارس من ركب اليوم، كما تقول العرب.
كنت أحس بالدفء يعتري جسدي، كلما اقتربنا من مقبرة المكرمين، رغم الطقس البارد الذي كان سائدا، حتي أن أحدهم علق قائلا، نهار مثل اليوم، لا يموت فيه إلا اليهودي. سنبتل في المقبرة، بل إن فرصة التسليم والتقديم والتعرف، تكون محدودة جدا جدا.
مزعج حيا وميتا.
غير أنه ما بلغنا المقبرة، حتي بزغت الشمس، فتنفس الجميع الصعداء وانهالوا علي بعضهم يسلمون بحرارة، ويضربون أكتاف وظهور بعضهم ضربات خفيفة لطيفة، حتي أولئك الذين كانوا بالأمس مع بعضهم، كأنما اليوم يوم عيد.
حضر أقوام آخرون لا أعرفهم، وقفوا جانبا، مبتعدين عن المحفل الرسمي، بعضهم بلحي، سنية وبعضهم الآخر بلحي غيفارية، بعضهم يتجلبب، بقمصان طويلة مختلفة الألوان، وبعضهم يرتدي سراويل جين وقمصانا زرقاء، بل إن بعضهم تجرأ ووضع رباطة عنق حمراء في عنقه، في حين وضع بعضهم قبعات حمراء علي رؤوسهم. كان تحديا صارخا، من هؤلاء وهؤلاء.
اقتربت منهم. كانوا يترحمون علي، وكانوا كلهم مجمعين في سرهم وعلانيتهم، علي أن قتلتي هم هؤلاء الذين جاءوا يشيعون جثماني، ويدفنون معي كل تحد، وكل إصداح بالحقائق ولو أن الدنيا دنيا، لألقي القبض علي جميعهم، بما في ذلك هؤلاء السدنة البارعين في تقبيل خدود أسيادهم، والله، لو استيقظ المسكين لأشار بإصبعه إليهم هاتفا:
أيها القتلة، إليكم عني.
الكبير لا يأتي، ولا الأكبر، لقد تسربت معلومات، تفيد بأن مجموعة من الرعاع المشوشين، استبقوا إلي المقبرة، لتدبير مظاهرة. ها هي طلائعهم.
جاءت البرقية الشفوية لمصالح الأمن، فتنفس معاليه الصعداء، والتفت إلي مديرة الديوان يسأل عن طقم التلفزة، وهل أنهي مهمته في التقاط الاستجوابات والشهادات حول المرحوم، فطأطأت رأسها بتأن بالغ، أن نعم معاليكم، والأمور علي ما يرام، فكونوا مطمئنين.
شملني دفء عام، وأحسست أن عروقي تتدفق دما، وأن قلبي يخفق.
لا شك أن دواء الطبيب المسكين فعل فعله.
قلت وهممت أن أنهض، غير أني استسلمت لغفوة لذيذة، لا هي بنوم ولا هي بدوخة، سرحت فيها روحي، كأنها فراسة، مع مخلوقات لطيفة في رقة النشوة التي تبعثها رائحة عطر خفيف لا يدري المرء أيأتيه شمالا أم يممينا.
هذه جبال هملايا بقممها وروابيها بثلوجها وبأوديتها، هذه بحيرات إفريقيا، بكل كائناتها وأعشابها، هذه جبال الآلب، بثلوجها وبصخورها الجرداء. هذه زهور ونباتات ما رأيت مثلها هذا مريخ ، وهذه الزهراء، وهذا عطارد.
واحدا من تلكم المخلوقات، كنت. بل أحيانا، أندمج فيها، وتندمج في، فأكونها جميعها، مع إحساسي بأنها معي تأخذ بيدي وتثب مرددة:
نحن بناتك.. نحن أفكارك.. نحن رؤاك.. نحن المحبة والخير...
نحن البقاء، الصفة التي وهبك الله، كي تبلغ رسالتك.
نحن الماضي.. نحن الحاضر.. نحن الأزمنة التي ستتعاقب.
وجدك يتيما فآوي. وجدك عائلا فأغني. وجدك ضالا فهدي.
حباك فأعطاك.. يذهبون فتبقي.
واحدة منهن التصقت بي. وضعت كفيها اللطيفتين علي خدي، وجذبتني نحوها، كأنما ستقبلني، فاعترتني قشعريرة، وتأهبت، لاحتضانها.
أنا زوجتك الأبدية.
كان رحمه الله...
ظل مؤبني، يلوك فعل كان، ويستنجد بكل العبارات البليغة، التي لا تعترض مع النشرة الخبرية، والصفحة الخاصة التي ستعد بهذه المناسبة الأليمة.
إنه يتحرك.
همس أحدهم في أذن صاحبه، فركز الإثنان نظريهما حولي.
انظر إلي وسطه. شيء ما يتحرك هناك. هناك تحت السرة.
اقتربت زوجتي الأبدية مني أكثر. أثارتني، الحق أقول. أحيت في كل العروق.
كثر الهمس، بينما مؤبني مغمض العينين، متجاهلا للورقات التي دبجها البارحة.
كان رحمه الله.
الله أكبر. الله أكبر.
هتف الناس عندما امتدت يداي... أحتضن زوجتي الأبدية وأحتويها.
ومشوا هاربين... مشوا هاربين، بما فيهم قتلتي ومؤبني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.