أراد أن يحدثها عن "بودلير".. لكنه تحدث عن " بدين ". و"بودلير" قد قال ذات مرة : " ما أصعب تواصل الفكر حتي بين الأحباب"... وأراد أن يقول أنها تبدو جميلة للغاية في هذا اليوم، لكنه في النهاية تحدث عن " بدين". وهو يمشي بطيئا بجوارها في الشارع المؤدي إلي الكورنيش، نظر أمامه، إلي الخط الذي يسمونه " خط الأفق"، خط التقاء البحر مع السماء، ثم في الصمت الهابط عليهما من عل، حانت منه التفاتة إلي أعلي، إلي فوق، فوجد السماء غائمة، كتل من الدخان الرمادي : السماء متآمرة عليه. حسنا، تحدث عن " بدين " .. قال أن " المجموعة " تقوم معه بعمل جيد، وحالت دون استمرار حبسه جراء السب، تلك تهمة عبثية. وهي كانت تسير ناظرة إلي الأمام، وملامحها تشي بالذكاء، وانتظار شيء ما، ربما ذلك الذي لا يقال. أشعره الصمت المتواطؤ بالعجز، غلائل كثيرة تحوطه، لا ، هي غلالة واحدة ، أحسها رقيقة للغاية، لكن تلك الرقة الضاغطة هي مكمن قوتها، تيقن من ذلك، خوفه الواعي أن يهتكها، لتظل كما هي، فارضة سطوة الحذر و الخوف الآمن. تحدث عن " بدين "، وسبه في سره مرات... " هيا.. حاكموني علي دخيلتي أيضا يا قحايب، ابن القحبة ، ابن القحبة... تلك الآلهة القحبة..." ( كان بودلير ليعجب بهذا التشبيه: الآلهة القحبة.. ) فكر. وهي جميلة ورقيقة، رقة غلالة رهيفة وقاهرة. تحدثا عن الذي حدث في البلاد بالأمس، وأول أمس ، وأول أول أمس. أبدت تفاهما واضحا، وأكملت جمله الناقصة، تحدثت عن قصصها وحبها لبهاء طاهر، و.... - "بالأمس حلمت بك". - قريتها جميلة. - لأ بجد بالأمس حلمت بك. - آه والله جميلة، عجبتني... الخطوبة. توقف قلبه، ولم يستأنف الدق إلا حين استأنفت هي: " مجموعة حلوة قوي ". و"المجموعة"، لم لم يحب واحدة منها؟.. فتاة تفرض ايقاعها علي التقاليد والأسرة ، كبيرها وصغيرها، ويسير بجوارها ممسكا بيدها، لا غلالة، ولا صمت ، ولا أب.. ذلك الريفي الذي نظر إليه متوجسا حين عرفته هي عليه ذات مرة قائلا: " أهلا ازيك يا حبيبي". - هو والدك أساسا منين؟ - ..... من "البحيرة". تحدثا عن "البحيرة" ، وحدثها هو عن غزل كفر الدوار واضراب الخمسينات. أراد أن يحدثها عن "بودلير"، لكنه تحدث عن " بدين "، ثم عن "بهاء طاهر"، ثم عن "البحيرة"، ثم عن "البقري". ربما أحب "البقري" فتاة من قريته، لكنه ظل يافعا وصموتا، وشنق قبل أن تعرف الفتاة عن حبه لها. بالأمس عندما حلم بها، مشاهد كثيرة مثلت له حشوات زائدة ، ويتذكرها شائهة، لكن يبقي مشهد الحلم الرئيسي ، وذاكرته تجلوه كرؤيا نبي مخلص: هي تنظر إليه باسمة، كأنها لا تبصر سواه، كانت تجلس علي الكورنيش، تأرجح قدميها، وكان صدرها ناهدا عما هو عليه الآن ، وعلي بعد أمتار قليلة يجلس أبوها، يقرأ في جريدة، مرتديا قميصا كاروه، بنطلون ،وحذاء مترب، قدماه لاتصلان إلي الأرض، وبجواره ما يشبه "بريه" قديم مهترئ . اقتربت منه، خطوها ناعم و حركت الريح طرف الايشارب المتدلي الذي يغطي جيدها، وقالت : البحر. اليوم عندما استيقظ، عزم - إن قابلها- أن يتمشيا علي الكورنيش، سيصير واقعا، هو صانعه.. حقيقة بلا استعارة. أراد ان يحدثها عن الحلم... " أبوكي كان ابن وسخة"، قالها في سره، لكنه عندما نظر إليها وجدها مقطبة الجبين، ابتلع ريقه . " هل سمعتيني؟ لماذا أنا خائف؟.. هيا حاكميني أنت ايضا علي دخيلتي يا قحبة" تنحيا جانبا ريثما تمر سيارة مسرعة أطلقت كلاكسا عاليا متصلا، أمسكت هي طرف الايشارب الذي تهزه الريح . قالت أنها متعجلة اليوم... "أشوفك بكرة.." وافترقا عند نهاية الشارع المؤدي إلي الكورنيش.