وقف الموسيقار شوبيرت علي قبر أستاذه بيتهوفن يرثيه بقوله' لقد نفحتك الطبيعة كل عبقريتها ولم تترك لأحد شيئا, إن الحياة بعدك بكاء عليك' وينطبق ذلك علي موقف شعراء فرنسا حينما التفوا واجمين حول قبر بودلير. ولد شارل جوزيف فرنسوا بودلير في التاسع من أبريل عام1821 بمدينة باريس من والد يجمع إلي مهنة تدريس الرسم بالمدارس الثانوية مواهب الفنان المثقف المولع بشتي صنوف الجمال ومن أم تدعي كارولين ارشامبو دوفاي: سيدة فاضلة ذات مزاج رفيع لها شغف بالزينة والعطور والفراء. مات والده بالسكتة القلبية وهو دون السادسة فاحتضنته الأم وغمرته بحنانها ولكنها أسرفت في تدليله. وانتقلت الأم ببودلير إلي منزل صغير اقتصادا في النفقات وكان بجوار منزلها الجديد ضابط في الجيش هو البكباشي جاك أوبيك فأعجب بها وتزوجها, وقابل شارل هذه الزيجة بالرفض واعتبر هذا الزوج الدخيل قد أخذ مكانه في حب والدته فترك المنزل وذهب ليعيش بمفرده في أحد الفنادق وعاش حياة الترف والرفاهية وأسرف في كل شيء: في اللبس والأكل والشرب, فقد أدمن الخمر والمغيبات وكاد ينفق كل ما ورثه عن أبيه. وحينما أدرك الجنرال أوبيك زوج أمه أن بودلير أنفق معظم الميراث طلب من المحكمة توقيع الحجر عليه وصدر الحكم بالحجر ومنح بودلير راتبا شهريا فقط فضاق به الحال وطعن نفسه بسكين ونقل إلي أمه في حالة يرثي لها وحاولت أمه والجنرال أوبيك إصلاح حاله بشتي الطرق. تلك هي الظروف التي كونت وجدان شاعر فرنسا شارل بودلير شاعر يعيش كما يكتب ويكتب كما يعيش, فهو لا يفصل بين التجربة الحياتية والتجربة الشعرية, بين الأدب والأديب. إنه التحام الشاعر بالإنسان. أشتهر بودلير وذاع صيته وتلألأ إنتاجه الفني في عصر كان فيه الأدب الفرنسي في حالة تدهور, فإذا به يجعل الأدب الفرنسي يزهو ويزدهر بأن أضاف إليه نفحة روح عالية أدت إلي شعر جديد فخلص الإلهام من التخيل المصنوع كان شعر بودلير يمثل الصراع بين الخير والشر وبين المخلوق والإله الكامن فيه, بين قدرة الإنسان وفكرة العدم الماثلة أمامه. إن بودلير يعد رائدا من رواد النزعة التأملية ومؤسس مدرسة جديدة وزعيم المذهب الرمزي الذي سار علي نهجه الثالوث الشعري: بول فرلين, أرتور رامبو, ستيفان مالارميه الذين نفذوا إلي أعماق الفلسفة الشعورية وابتدعوا قواعد جديدة للإيقاع. عرف القراء بودلير عندما نشر ديوانه' أزهار الشر' الذي اهتزت له فرنسا كلها. فقد وجد فيه المؤيدون روعة الخيال الذي تضمنته قصائده الرمزية التي تمتاز بلفتات صوفية والمعارضون, مثل صحيفة الفيجارو رأوا أن هذا الشعر يقوم بإشاعة الانحلال الأخلاقي, وتم منع بعض قصائد الديوان. علي أي حال اتفق معظم النقاد علي أن شعر بودلير شعر راق ومما يدل علي ذلك تداول هذه الأشعار بين الشباب والكبار في المجالس والمقاهي والمنتديات, فأصبحت أشعار بودلير مثل كتب الصلوات تحت وسادة كل فتي وفتاة.. وهي تدل علي روحانية وصوفية هذا الشاعر رغم أنه يتباهي أحيانا بالشر ويصور نفسه علي أنه شاعر رجيم. ونذكر هنا قصيدة' سمو' حيث يقول بودلير فيها:' فوق الاحراج والغيوم والبحار.. فوق الغدران, فوق الأودية والجبال, فيما وراء الشمس وأقصي من الأثير, وأبعد من حدود الأفلاك. تتحركين يا روحي بخفة ورشاقة وكسباح حاذق يمعن في الغوص حتي الأعماق, تشقين في نشوة وغبطة أجواء الفضاء المترامية.. فلتحلقي بعيدا عما تفوح به الأرض من جيف منتنة وأبخرة موبوءة'. استطاع بودلير في أشعاره أن يخلط بين التراجيديا والسخرية دون الوقوع في التهريج. من خلال يوميات بودلير وكما في نصوصه نجده مصمما علي الإسهام في كل ما هو زمني لكن مع النزوع الدائم إلي ما هو أبدي وخالد, إنه تناقضت هذه التجليات أو تمزقت بين حسي ديني ونزوع شيطاني فهو دائم الحرص علي عيش هذا التمزق وجعله جسرا بين الإنسانية وشرط الشعرية دون الوقوع في أي منظومة مذهبية أو عقائدية أو مدرسية. مما يؤدي إلي الوصول بالشعر إلي تحقيق المعادلة الصعبة وهي اكتشاف كل ما هو رومانسي فيما هو لغوي وما هو براني فيما هو باطني وما هو فردي فيما هو جماعي وما فوق الطبيعة أو سوريالي فيما هو من صميم الواقع. يشير بودلير في ديوانه' قلبي عاريا' الذي ضمنه كل أحقاده تجاه الظروف التي مر بها وتجاه فرنسا عموما في إحدي قصائده حيث يقول' لا يوجد غير ثلاثة أشخاص جديرين بالاحترام, الراهب والمحارب والشاعر. يعني أن تعرف وأن تقتل وأن تبدع. أما الآخرون فإنهم صالحون للاستغلال والسخرة, مخلوقون للاسطبل أو لممارسة ما يسمي بالمهن. لشارل بودلير أعمال أدبية أخري وقصائد منثورة فقد عمل أيضا ناقدا وصحفيا بالكثير من المجلات والجرائد ولكن بودلير الشاعر غطي علي الناقد ومعاركه الصحفية ويومياته. وبالرغم من أنه عاش حياته شقيا معذبا إلا أنه جعل من آلامه وخلق منها أفكارا نبيلة وشعرا يقطر عذوبة ورقة وجمالا إلي أن قضي نحبه في31 أغسطس1867 م.. ومن مفارقات القدر أنه دفن في مقبرة مو نبرناس مع أبغض الناس إلي قلبه وهو الجنرال جاك أوبيك زوج أمه.