"هل أناقشه، مانا عشان اناقشه لازم اسمعه، ام هل اتكلم عنه بضمير الغائب وهو موجود في المجتمع؟" هكذا تسأل المذيعة ريهام السهلي المستشار عبد الله فتحي وكيل أوي نادي القضاة عن حالة الشاب الملحد في برنامج "90 دقيقة" علي قناة المحور. كان هذا هو أصدق سؤال سألته المذيعة علي طول حلقة البرنامج، واستضافت فيه إسماعيل محمد، وهو شاب ملحد، وبكر زكي عوض، عميد كلية أصول الدين، وجاءت بعنوان "العالم السري للملحدين". كان هذا هو أصدق سؤال لأنه يسهل تخمين صدمة المذيعة وهي تحاور شاباً ملحداً، يعترف ببساطة أنه ملحد. يسهل تخمين أن كل عنفها وارتباكها وأسئلتها الساذجة كانت حيلا دفاعية للمداراة علي الصدمة، صدمة أن يكون أمامك ملحداً، وأن تحاوره، وأن ترد علي منطقه، لذا فالحل الأمثل أمام المذيعة كان سؤال جميع الناس، جميع الناس، من عسكريين وأطباء نفسيين وقانونيين عن حالة إسماعيل، كان من الأفضل لها أن تتحدث عن الشاب الملحد بضمير الغائب. ضمير الغائب كان مريحا، بدلا من سؤال "ما هي أفكارك؟"، فهناك سؤال: "كيف نعالجه من أفكاره". هذا هو المضمون الحرفي للحلقة. بالطبع، في قناة إعلامية تفهم معني الإعلام، ومع مذيعة تفهم معني الإعلام، سيكون سبقاً صحفياً أن تعرض أمام المشاهدين شيئاً مدهشاً، غريباً، كقرد يأكل المكرونة مثلا أو كشاب ملحد يتحدث بأريحية عن إلحاده. ولكن الصدمة كانت شديدة علي المذيعة. كل الاعتبارات الإعلامية والمنطقية تهاوت أمام شاب يعلن ببساطة "أنا ملحد". كانت تسعي بعنف شديد لإقصاء الأرواح الشريرة عن حلقتها. الشاب لم يكن صارماً تماماً، رفض أسئلة بعينها ثم عاد للرد عليها. بدأ سؤالها ب: انت ملحد صح يا اسماعيل؟ أي نعم. أي نعم. ايه اللي خلاك تخرج من الدين الاسلامي؟ يرد الشاب بإن السؤال المهم بالنسبة له هو مطالب الملحدين من الدستور الجديد، مطالبته بحرية اعتقاد كاملة، وغيرها. يقول إنه تفاجئ من عنوان الحلقة ""العالم السري للملحدين". يبدو أن ما تم الاتفاق عليه مع الشاب هو حلقة تليفزيونية عن مطالب الملحدين من الدستور الجديد. هذه الردود لا تروي ظمأ المذيعة إزاء الحالة الغريبة التي أمامها. يظل السؤال الذي تردده طول الحلقة "ما هي الظروف التي أوصلتك للإلحاد"؟ الشاب يعلن رفضه للسؤال، ولكنه سرعان ما يستجيب، يقول إن ما أوصله للإلحاد هو قراءته نظرية التطور لداروين. ولكن هذه الإجابة بالطبع غير مقنعة للمذيعة. هي لا تريد إجابة "فكرية" طبيعية. تريد إجابة تؤكد لها إنها بعيدة عن الخطر، إن الموضوع لا يمكن أن يكون بهذه البساطة، بالتأكيد هناك دراما في الموضوع. سؤالها "ما الذي أوصلك للإلحاد"، التقطته من كلام عميد كلية أصول الدين الذي قال إن البعض تدفعه ظروفه الاقتصادية والعائلية أو طبعا الطرح المشوه للدين، إلي الإلحاد. المذيعة يبدو عليها النفور من المجادلات الفكرية العميقة، تبدو محبة للدلع وكارهة للكلام الذي يوجع الدماغ. من منا لا يحب الدلع. لماذا استضافوا الشاب الملحد إذن من البداية؟ لا أحد يعرف. بدا كأنها حضرت عفريتاً ثم حاولت صرفه بهستيريا شديدة. هل انت عانيت اقتصاديا عانيت نفسيا؟ الالحاد مالوش سبب واضح. مش مرض نفسي، شيء نفسي، حالة نفسية. معلش دا ماكانش سؤالي. سؤالي هل فيه حاجة م اللي قالها الدكتور تنطبق عليك؟
في الحلقة كان هناك عميد كلية أصول الدين، وهناك أيضا شخصية الطبيب النفسي، وهناك أم الشاب، وهناك صديق الشاب، وهناك آخرون كثر. يبدو لأي مشاهد للحلقة كيف تقاطع المذيعة كلام إسماعيل، وكلام صديقه الملحد (الذي كان سلفيا كما يقول)، بعنف وفظاظة: "أي تهجم علي الدين الإسلامي مش هاسمح بيه"!، وكيف تنصت باحترام لمن هم ليسوا ملحدين، الآخرين الذين يتراوح منطقهم بين "إنه مجرم ولا يستحق أن يظهر علي التليفزيون" أو "إنه شاب يستحق العلاج فلا تقسوا عليه". بين الإجرام والمرض تم توصيف أفكار الشاب. الحلقة هي واحدة من أهم الحلقات التي سيتم التأريخ بها للتطور المجتمعي الحادث الآن في مصر. ليس لأنه أول مرة منذ زمن طويل يظهر شاب ملحد يعلن ببساطة وبوضوح عن إلحاده، (ربما منذ إسماعيل الأول، إسماعيل أدهم صاحب كتاب "لماذا أنا ملحد")، ولكن لأنها تظهر بقوة كيف تفكر الدولة الحديثة التي نعيش في ظلها. في إحدي فقرات اللقاء يقول الشاب للمذيعة "احنا مش في دولة دينية. احنا هربانين من دولة دينية"، يقصد فترة الإخوان المسلمين، فتقوم هي بتفنيد هذا بشراسة، لأن "مصر طول عمرها متدينة". ما الذي يعنيه هذا؟ إما الرطانة وإما شيء آخر، تحالف 30 يونيو الذي أسقط الإخوان، لم يكن معنيا بحرية الاعتقاد، لم يكن معنيا إلا بالخلاص من الإخوان المسلمين لأنهم أتوا "من خارج الدولة". السؤال عن "حرية الاعتقاد"، والذي كان هو السؤال الأساسي في المعركة ضد الإخوان، هو سؤال غير مهم للدولة، مجرد فذلكة أو رطانة مثقفين وشباب لم يدخلوا الجيش. علي العموم، ومن أجل إضافة مزيد من العبث حول القصة، فقد كاد الشاب يُتهم بأنه إخواني. يشرح أحد المتصلين للمذيعة إن فكر الشاب يشبه فكر بعض الجماعات التي تتخذ الدين ستارا وتسعي للفتنة. الشاب الملحد عدو مثله مثل الإخوان المسلمين. كل شيء عدو طالما لا يقول الكلام المعتاد.
ذات يوم، وبينما الإخوان المسلمين يحتلون مقاعد الأغلبية في مجلس الشعب السابق، أقامت أخبار الأدب ندوة استضافت فيها أستاذا للأدب اسمه خالد فهمي عن حزب الحرية والعدالة. منطق أستاذ الأدب كان أن الدولة الإسلامية لا تقمع حرية التعبير، بالعكس، يمكنك الاعتقاد فيما تشاء، طالما ظللت داخل بيتك. للمفارقة المريرة، فقد كان هذا رأي الغالبية الكاسحة ممن استضافتهم المذيعة، من قانونيين ورجال شرطة وغيرهم، اعتقد ما تشاء طالما أنك في بيتك، أي، آمن بما تشاء طالما أنك خجلان مما أنت مؤمن به. . أم الشاب كان لها مداخلة تليفونية مع الحلقة، وكعادة الأمهات، شكت من أن ابنها كان متفوقا وأن جلوسه علي جهاز الكمبيوتر هو ما أفسده، ودفعه دفعاً "للحاجة دي"، لا تسميها الأم. تبدو خائفة من تسميتها. وتلتقط منها المذيعة طرف الخيط. تنظر نظرة جانبية للشاب بعد أن أنهت الأم كلامها وتقول له: "بس هي مش راضية عنك!". هكذا، إن لم يعدل الشاب عن أفكاره، إن لم يقتنع بأفكارنا، فيمكن تهديده بعائلته، نعرف هذا من طريقة عمل ضباط الشرطة أيضاً. يسأل الشاب سؤالا شائكا عما إذا كانت هناك نظرية علمية، نظرية التطور كما يوضحها، تناقض مفاهيم الدين عن نشوء الإنسان، يسألها إن كان إيمانها سيظل ثابتاً لو قرأت مثل تلك النظرية فتقول بالإيجاب بشكل حاسم، ثم تقول: "انا بقرا القرآن ودا بالنسبالي أهم من أي كتاب علمي، دا بالنسبالي الكتاب اللي انا اخد بيه قبل اي حد... والسنة النبوية طبعاً". كانت هذه هي الإجابات العصبية للمذيعة عندما تضطر لمواجهة الشاب. في الأغلب لم تكن تسعي لمواجهته وإنما للحديث عنه بضمير الغائب، ولم يبد أن شعرة قد اهتزت منها عندما أعلن الشاب انسحابه علي الهواء. بشكل ما، بدا هذا مرضياً لها. لقد تم طرد الشيطان أخيراً.