منذ ثلاثين سنة قرر مصطفي أمين التلميذ بالسنة الأولي بكلية الحقوق أن يقابل الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة ليأخذ منه حديثاً لمجلة »روزاليوسف«.. لم يذهب مصطفي يومها إلي شارع المبتديان ويقف أمام بوابة جريدة »السياسة« يطلب منه الإذن بالدخول، فإن مصطفي كان يعرف أن طابوراً طويلاً من الشبان كان يقف يومها في شارع المبتديان في انتظار الإذن بالدخول إلي رئيس التحرير! ومصطفي كان لا يريد أن يقف في الطابور! ولهذا أمضي أسبوعاً كاملاً يقرأ كل الكتب التي ألفها الدكتور هيكل.. وهضم كل المقالات التي كتبها هيكل في الأسابيع الأخيرة في السياسة اليومية والسياسة الأسبوعية! وكانت هذه »المعرفة« هي خطاب التوصية الذي دخل به مصطفي أمين علي الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير السياسة! فقد اكتشف الدكتور هيكل أنه أمام عالِم وليس أمام تلميذ صغير بكلية الحقوق! وعلي أمين دخل عام 1936 علي انطون الجميل رئيس تحرير الأهرام بنفس الطريقة، فإن الذين لا يريدون إضاعة شهور من أعمارهم في الوقوف بالطوابير، يجب أن يضيعوا بضعة أيام في دراسة الرجل المرهق بالعمل الذي يرغبون في مقابلته! وكان علي أمين يكره الشعر والشعراء، ولكنه عرف أن أنطون الجميل يهوي ترديد أشعار الشاعر الرقيق ولي الدين يكن، فاشتري علي أمين ديوان هذا الشاعر وحفظ بعض أشعاره عن ظهر قلب! وعرف علي أمين أن رئيس تحرير الأهرام يعتز بأنه كان في شبابه رئيس تحرير مجلة »الزهور« ويؤمن بأنها أحسن مجلة أدبية ظهرت في الشرق الأوسط! فذهب علي أمين إلي دار الكتب وقرأ كل الأعداد التي صدرت من مجلة »الزهور« وحفظ »توضيب« صفحاتها ومقالات أنطون الجميل فيها! ودخل علي أمين مكتب أنطون الجميل عام 1936 ولم يخرج منه حتي عام 1946 وهو العام الذي توفي فيه أنطون الجميل باشا! فمن يومها أحب أنطون علي أمين وكان يصر أن يسهر معه كل ليلة حتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ويحرص علي أن يرافقه علي أمين كل ليلة من الأهرام إلي بيته في الزمالك! وأنا بدوري درست رئيس تحرير آخر ساعة مصطفي أمين عام 1938 قبل أن أدخل مكتبه! عرفت أنه يعشق الخبر، ويستمع إلي أي خبر جديد وكأنه يسمع إحدي أغاني أم كلثوم ولهذا جمعت قبل دخولي مكتب مصطفي أمين ثلاثين خبراً جديداً! وألقيت هذه الأخبار في وجهه ثم قمت مسرعاً لأنني علي موعد مهم! وأمسك بي مصطفي أمين ومنعني من الخروج من مكتبه رغم أنه كان يكتب يومياته! وكان مصطفي يبحث عني ويلاحقني بالتليفونات.. وفتح لي صفحات مجلة آخر ساعة لأنشر مقالاتي علي أمل أن أفتح له صدري وأفرغ له ما عندي من أخبار الغد! والآن تعال نقابل محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام! ومشكلتنا مع هيكل أننا لا نعرف كيف نسحره، ونجعله يبحث عنا كما كان مصطفي أمين يبحث عني عام 1938، وكما كان يحرص أنطون الجميل علي أن يسهر مع علي أمين كل ليلة حتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل! ثم إن هيكل ليس من رؤساء التحرير الجالسين، إنه رئيس تحرير متحرك.. لا تجده في أوقات محددة في مكتبه، إنه يقابل في اليوم ما يزيد علي ثلاثين مصدر أخبار خارج مكتبه! وإذا جلس إلي مكتبه فهو مشغول بالحديث في ثلاثة تليفونات في وقت واحد.. وتوزيع الإشارات علي المحررين الذين يحيطون بمكتبه! ومع ذلك يجب أن ندرس هيكل إن عمره 35 سنة، ولكنه عاش سبعين سنة! ولهذا فإن بعض التجاعيد بدأت تظهر في معدته! إن وجهه في الثلاثين ومعدته في السبعين! فهو قلق في أحاديثه! إنه يتبع الأسلوب التلغرافي، ويتوقع منك أن تستخدم نفس الأسلوب! فإنه يعرف أنه بعد ثلاث دقائق ستدق ثلاثة تليفونات مرة واحدة، وهو لا يريد تليفوناً رابعاً في الحجرة! إنه قد يسرف في عدد الكلمات التي يكتبها ولكنه يقتصد دائماً في عدد الكلمات التي يقولها وعدد الكلمات التي يجب أن يسمعها من الزوار الذين لا يحملون له خبراً جديداً أو فكرة جديدة! ولهذا لا داعي لأن نحدثه عن أول كتاب ألفه وهو »إيران فوق بركان« ولا آخر كتاب أصدره عن »أزمة المثقفين«! وهو مجامل جداً مع الناس! إنه لن يقول لك إنه لن ينشر مقالك! إنه يعدك بقراءته والاتصال بك في أقرب فرصة ليلتقي بك مرة أخري! ولما كنت كاتباً ناشئاً.. فإن زحمة العمل وكبسة الأخبار ستنسي هيكل وعده! فأتت لست وحدك، ان هناك أكثر من مائة ألف من قراء الأهرام يتصورون أن الأهرام في حاجة ملحة إلي أفكارهم وآرائهم وهم جميعاً يحاولون مقابلة هيكل مرة كل أسبوع! ولهذا يجب أن تشعر هيكل بأنك ساعي تلغراف، وليس ساعي بريد من سعاة الريف، الذين يحملون الخطاب لصاحبه ثم يتناولون معه طعام الغداء والعشاء! ولهذا فيجب أن نرتب حديثنا مع هيكل بالأسلوب التلغرافي قبل أن نلتقي به! يجب أن نكتب علي ورقة كل الكلمات التي نريد أن نقولها، ثم نحذف منها الجمل الزائدة، ثم نختصرها علي أساس أن ثمن كل كلمة منها قرش صاغ.. ثم نختصر عدد الكلمات مرة أخري علي أساس أن أجر كل كلمة في التلغراف ارتفعت إلي عشرة قروش! وبعد ذلك نقرأ المقال الذي أعددناه للنشر في جريدة الأهرام! من غير المعقول أن يفسح لك هيكل عمودين في جريدة الأهرام، فأنت كاتب ناشئ لا يعرفك الناس! ثم إن الصحافة الحديثة تتبع الأدوية الحديثة! كان العلاج زمان عبارة عن زجاجة كبيرة مليئة بالدواء.. وأصبح الدواء اليوم حبة في حجم الاسبرين تحتوي علي كل العناصر التي كانت تحتاج زمان إلي زجاجة سعتها لتر! ولهذا يجب أن نركز المقال حتي يساير العصر الذي نعيش فيه.. عصر الاسبرين! وفي صفحات الأهرام متسع لحبة »اسبرين« وليس فيها مكان لزجاجة زمان! وبعد ذلك »نزن« المقال وما فيه من أخبار طازجة وأفكار جديدة! إن الأهرام جريدة وليست مجلة، والأخبار التي تعدها في الساعة العاشرة مساء ترميها في سلة المهملات عند منتصف الليل! وما يحدث لبرقيات رويترز يحدث أيضاً للمقالات! إن المقال الطازج يطرد المقال »البايت«! ولهذا يجب أن نتأكد قبل أن نذهب إلي هيكل بأول مقالاتنا، إننا نحمل له مقالاً طازجاً ساخناً.. فيه فكرة جديدة وخبر جديد، وليس طبقاً من الأطباق الباردة أو علبة سردين! والآن تعال ندخل باب جريدة الأهرام.. إن دخول الباب سهل جداً، والمسافة بين الباب وحجرة سكرتيرة هيكل أقل من عشر درجات! ولكن مشكلتنا الكبري هي بعد دخول غرفة السكرتيرة! إن باب مكتبها مفتوح علي مصراعيه! ولكن الباب المفتوح الذي تراه أمامك هو سراب! إن وراء الباب المفتوح باباً مغلقاً تجلس أمامه السكرتيرة نوال المحلاوي كالديدبان لمنع الدخول! فإن نوال تعرف أن رئيس التحرير مرهق بالعمل، وتؤمن بأن مهمتها ليست فتح الباب للزوار، وإنما إغلاقه بالضبة والمفتاح! ولهذا ستحاول نوال أن تتخلص منا برقة ولباقة! قُل لها إن ما عندك يهم هيكل شخصياً! قلها بحزم وثقة.. وبهذا تنجح في إضعاف مقاومة الديدبان! قد تتصور نوال أنك تحمل خبطة صحفية مهمة تصلح للصفحة الأولي! وقد تتصور أنك تحمل مفتاح خبر مهم يثير اهتمام قراء الأهرام! وقد لا تتصور أي شيء من هذا، وتسترد أطراف مقاومتها التي تناثرت أمام حزمك وثقتك بنفسك! ولكن لا تزودها! فأنت أمام فتاة غير عادية! إنها علي درجة كبيرة من الذكاء والثقافة وسعة الاطلاع! فلا تحاول أن تستعرض عضلاتك معها! فهذه الفتاة الصغيرة الحجم، خريجة قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية تقرأ كل يوم خمس جرائد عالمية وتقرأ كل الصحف والمجلات المصرية! ولهذا يحسن أن تسكت وتنتظر! فالسكوت في الصحافة الحديثة دليل علي سعة الاطلاع، والإسراف في الكلام دليل علي العقل الفارغ! وإذا أنت فتحت شفتيك، ستمسك نوال قلماً وتكتب علي ورقة صغيرة مذكرة لرئيس التحرير تقول فيها: عندي شاب جاهل يرغب في مقابلتكم بحجة أن عنده ما يهمك شخصياً! ولكن إذا أقفلت فمك، قد تتصور نوال أن عندك فعلاً ما يهم هيكل شخصياً.. فإن الذين يحملون في صدورهم خبراً مهما لا يفتحون أفواههم أبداً! والآن لقد أدخلتنا نوال مكتب رئيس التحرير! قُل له علي الفور التلغراف الذي في رأسك.. وقدم له مقالك الطازج! وتحرك من مقعدك مستأذناً بأنك علي موعد مهم! سيصر رئيس تحرير الأهرام أن يقدم لك فنجاناً من القهوة! اعتذر بشدة، وابدأ في الانصراف! إذا انتظرت وشربت فنجان القهوة.. فلن تقابل رئيس التحرير مرة أخري.. فأنت تضيع وقته.. ومقابلتك تتطلب فراغاً طويلاً.. ولا فراغ عند رئيس تحرير الأهرام أو عند رئيس تحرير جريدة حديثة! بورتريه عن هيكل نشر في مجلة الهلال يناير 1962 عندما كان يرأس تحريرها مصطفي أمين. والبورتريه غير مُوقع لكاتب معين.