صبي ... وقد خرجنا في مسيرة تطوف بالشوارع من الميدان كنا نهتف: عيش... حرية... عدالة اجتماعية. التقطته عيني من إصراره علي متابعة المسيرة من فوق الرصيف المجاور, دون العاشرة تقريبا بملابسه المتسخة التي تدل علي كونه يعيش في الشارع, عيونه تلمع وهو يردد الهتاف في سره, كان يقترب من النهر الهادر ويبتعد, وضعت قدمي علي الرصيف مقتربا منه وأنا أدعوه للانضمام للمسيرة, قال مباشرة ووجهه ينضح بالبشر والحماس: عايز واحدة. وأشار إلي اللافتات التي يحملها الثوار... تناولت واحدة وأعطيتها له, فارتفع صوته الرفيع والمعبأ بالحماس: عيش... حرية...عيش. كنت ألحظه رافعا اللافتة وحماسه المتوقد لا يفتر, بينما علي الرصيف كان صديقي الملتحي يقف متفرجا علينا, اقتربت منه: شاور عقلك. قال لي بحده: أصلا إحنا مش شايفنكوا... انتو مش موجودين. وضحك ضحكة اترج لها كرشه, في اللحظة التي كان الصبي يمر أمامنا, فأمسكت بيده, وجذبته علي الرصيف, قلت وأنا أشير لصديقي الملتحي: ارمي اليافطة اللي معاك وخليك مع عمو الشيخ... وحديك خمسين جنيه. بسرعة نزع ذراعه من يدي, ورفع اللافتة هاتفا: لا. عيش... حرية... عيش. فهتفت ونزلت خلفه لنهر الشارع. حنين يجوس في الميدان، ينظر للجالسين بأسي وبلاهة وهو يتمتم بكلمات غير واضحة، لا يترك جزءا من الميدان دون أن يمر به، ثم تأخذه أقدامه نحو المقاهي المشرفة علي الميدان، يطوف بها واحدة بعد الأخري، و حين يلمح واحدا من الرفاق جالسا يدخل المقهي ويتجه نحوه مباشرة. جلس قبالتي دون تحية ووجهه للميدان ينضح بالأسي والنظرة التائهة، كان مثلنا تماما، جمعنا الميدان أيام الثورة وصهرنا داخل أتونه لكن سرعان ما تفرق الجمع، وبقي الكثير يؤمون الميدان بنوع من الحنين والتذكر لتلك الأيام المجيدة، قال وهو يشير بيده للميدان: قليلة تلك الأيام... ولم تكن كافية. وراح بإصبعه يحدد: هنا هتفنا.. هنا صلينا.. أكلنا.. نمنا.. ومن هناك جاء البلطجية يهاجموننا.. ثم صمت قبل أن يقول بحسم و تطرف: هذا المكان مقدس. طلبت له شايا، تناوله وهو يشير للجالسين بقلب الميدان والأطفال الذين يمرحون والعشاق المتمهلين بجزيرة الميدان، رفع يده عاليا وحرك فمه بكلام خفيض ضاع في ضجيج المقهي والميدان، هززت رأسي مستوضحا، لكنه وضع كوب الشاي وغادرني وذهب مباشرة للجزيرة بقلب الميدان، رأيته، يقف قليلا.. يرفع يديه.. يقترب من الناس ويبتعد، ويضيع رويدا وسط جموع الناس المتكاثرين بالميدان. زهرة الميدان هي نقطة دم يا شيخي.. فقط نقطة دم علي أرض الميدان، يقينا لا نعرف هي لمن، ألشهيد؟ أو جريح؟ أو عابر ميدان؟ ما نعرفه أننا رأيناها في الصباح، نقطة حمراء قانية طازجة، زادت الشمس من توهجها، فجعلت أقدام الثوار، رغم التدافع والتضاغط والزحام لا تطأها. الأمر حتي هنا يبدو بسيطا يا شيخي، لكن المدهش انها كانت تزداد وضوحا يوما بعد يوم وتكتسب جمالا وحكايات، أقسم البعض أنها لأكثر من شهيد سقطوا في نفس المكان، وجاء بعض الجرحي يروون النقطة بنقاط دمهم الساخنة، حتي أصبحت النقطة علم الميدان ومركزه. تقول يا شيخي أن هذا طبيعي، فلتصبر وتري ما جري.. بعد أن انفض الميدان جاء الكناسون ونظفوا الميدان ورشوا الميدان بالمياه فزاد لمعان نقطة الدم، أتوا بالمزيلات وكل المطهرات وما أفلحوا بل كانت تزداد ضياءً، حاولوا كشطها فوجودها متغلغلة في الأسفلت، نزعوا الأسفلت فتلألأ نورها في الأرض، راحوا يحفرون الأرض لاقتلاعها، لكنها غاصت عمقا وألقا.. عند مستوي معين من الحفر راحت تتمدد بطول الميدان وعرضه، فقرروا ردم الحفر.. لكنها ويا للعجب كانت تطاردهم صاعدة حتي أزهرت من جديد علي أرض الميدان يا شيخي: زهرة من دم.. زهرة الميدان.