حلمنا ببيت ذي طابع آلي، يغلب علي أثاثه تلك الفضة المعدنية، تتفاخر الحوائط بتقشفها اللوني، ويكفر باطن قدميك عن الأرضية ذنب البرودة المبددة بكونك بؤرة الشعور الوحيدة، الدافعة بالبيت إلي الالتزام بمركزية تتغير بتغير موقعك داخله، غير آبهة بالأسطح الملساء التي لا تسمح لضحكتك أن تعلق بشيء؛ فتدوم في الهواء تاركة من يرهف السمع نهب شعور مبهم، مبعثه دخولها ذ مثل كل ضحكاتك السابقة ذ عتمة من أصداء رغبات، ضربنا حولها سورا من حجارة أرواحنا المضللة بالسعي خلف رجاء خائب: ألا تثير ذكري البيت فينا أي مشاعر.... من أنا لأحمل آثار طائر علي كتفي؟! في الساعة السابقة علي الاستيقاظ القسري، تزهو الجمادات بوجودها، والورقة المرمية تغالي في تعاطفها مع الدورق الغارق -حتي حافته ذ في حب أول، أنضجته تشققات شفتين تخلفان في كل مرة هلالين متماثلين من سُمرة تنير صحراء بامتداد الوسادة القامعة آهة؛ قد تربك المنكمشة دماء أوردته جراء ترقبه الصوت الآلي لطائر يقتحم المكان، ويغادر سريعا واثقا من انغلاق ضلفتين خشبيتين خلفه، تذكران ذ لا لصغر حجمهما فحسب ذ بغلاف الكتاب المقدس.... المتشرد الذي يحمل في قبعته المثقوبة مدينة، يبتهج أطفالها كلما تمطر، ويعزي موظف حكومي ضيقه من البلل إلي كم إذعان لم يحتمله طائر كنار، كانت الجدة قد جلبته من جزيرة، أفلتت من النسيان بفضل لقطة جانبية للحفيد المراهق وهو يفكر: كم من المحزن ألا يلتفت أحد للمسة حانية، يختص بها المتشرد قبعته الرثة وقت اشتداد المطر.... أنفق ليله في استدراج مُضنٍ، بدأه بتشكيل متعرج لذكرياته السعيدة، يمتد من باب الغرفة حتي الوسادة التي اقترحت نزهة في حديقة ما أراد، ولما رجاها أن الوقت لا يلعب لصالحه؛ قبلت - عن طيب خاطرذ خيالات حبيباته السابقات يشاركنه فراشا أشفق علي صاحبه من احتياج بيولوجي، يغلق عليه الدائرة بوجوه أعدائه، كإشارة لاستنهاض الطائر القابع في ركن الغرفة، يمسح تشكيل ذكرياته السعيدة، ويدعم قرارا مسبقا لحبيباته بالرحيل، ثم يحوم علي وجوه أعدائه معيدها سيرتها الأولي، حتي إذا جثم علي كيانه، رف الجناح سامحا باختلاس نظرة متحسرة علي ضوء النهار وضوضائه... الطريق التي عُبدت بوطء اقدامهم جيئة وذهابا، تصر علي اختبار نفسها كل شتاء؛ علها تنجح في الاحتفاظ بآثارهم علي سطحها الموحل الذي يماطل معولا علي ذاكرة هشة، تُبرّئ الجميع من تهمة الرحيل.... بدأت المأساة بعد خمسة أعمال سينمائية، حاز فيها دور البطولة، فثمة خمسة رجال يشاركونه فراشه وطعامه وملابسه، إليهم تُرفع الأدوار الجديدة، وتطاردهم آلات التصوير والمعجبون، كما بلغت بهم الوقاحة أن يوقعوا باسمه ذ علنا ذ علي صورته الشخصيه.... وقاحة يعرفون أنها لن تصمد طويلا حتي مع صخب، يموهون به علي يقين أن الخطر الوحيد الحقيقي يكمن في الكيان الأكثر معاناة، والذي منحوه رقم ستة، مع وعد بالمزيد من الترتيب المتأخر كلما تقدّم في العمل! في مساء الخميس، نظرة متمهلة علي الطريق ذي الاتجاهين: بعرباته المسرعة؛ خلاصا من ضجر ما بعد الظهيرة، بجانبه المبدد تحت الوجود الثقيل لأسوار النادي الملكي، وجانبه المقابل حيث صف بيوت يشهد محاولة امرأة القبض علي شيء يتفلت منها، في ذات اللحظة التي يدق فيها غريب ذ أتت به لقمة العيش ذ جرس الباب... عزيزي أحمد(1)، ذهبت إلي النوم بعد قراءة كلماتك؛ فدخلت بلادا، مازلت مُصرا علي انتماء قديم لإحدي عائلاتها(2)، اُستقبلت بسماء رمادية، تحض علي التساؤل بشأن ما احتوته موشحاتها وقصائد شعراء قدامي من إشراق وصحو.... ولأننا لم نلتقِ من قبل؛ أسرعت بتقبيل رأسك امتنانا لشروط المحبة(3) وقصائد أخري، ثم قصدنا مبني قديما، تنفلت من جدرانه الصخرية وشاية بحيوات أكثر حداثة، دخلنا قاعة، وجلسنا في المقعدين الأقرب إلينا، خلف منضدة علي رأسها رجل من أهل البلاد، وشغل بقية المقاعد رجال ذوو سمت موحش ونظرات كئيبة، لاح وجودهم تخطيطا باهتا بقلم رصاص.. ملت نحوك في حذر: من هؤلاء؟ شعراء قضوا في الحرب الأهلية. لكنني لا أحب لوركا إلا في.... عارف، عارف إلا في القصائد القليلة التي ترجمها صلاح عبد الصبور، لكن هؤلاء شعراء قصيدة النثر الذين.... قطع همسنا وقوف الرجل، وتحدثه بلغة أجهلها، ثم مد لي يدا، فصافحته، وامتدت يدي لمصافحة الآخرين؛ فسري توتر دفع بظهورهم للخلف، وامتعض وجه الرجل... جذبتني ونهضت متحدثا بذات اللغة التي لم يمنعني جهلي بها ملاحظة تشديدك علي مخارج الحروف ونهايات الجمل، وشيئا فشيئا اُستعيدت وضعية الظهور المائلة للأمام، واختفي الامتعاض؛ فقبضت علي يدي وغادرنا.... بين يد تواقة لاقتحام عوالم أخري، ويد مستسلمة لقبضتك جاهدت لأحاذيك في نزول سلم حجري، لم نشهد مثله إلا في العمارة العربية القديمة.... 1 الشاعر الصديق أحمد يماني 2 إشارة لقصيدة بعنوان منتصر عبد الموجود من ديوان الحنين .... سلة المفقودات 3 عنوان قصيدة للشاعر أحمد يماني