سمعت عن الثورات من أبي قبل دخولي المدرسة، كان أبي يحتفظ بصورة قديمة من ورق الجرائد لطفل أسمر صغير يحمله رجل علي كتفه، الطفل يلوح بيده، وبجواره مجموعة من الناس. كانت الصورة لأبي، وكان المتظاهرون من قرية دماص، حيث كانت أخته الكبري تزف لأحد أبناء القرية، خرج الطفل من الدار ليلعب مع مجموعة من الأطفال، لكنه تاه في الزحمة، فقد خرج رجال القرية تأييداً لسعد زغلول زعيم الأمة، ظل الطفل يبكي، حتي وجد من يحمله علي كتفه، ليصير هذا الطفل التائه ذو السنوات الأربع أصغر من خرج مع المتظاهرين، وليهتف كما يهتف الكبار. هذه الرواية التي كان يرويها أبي - بفخر - أمام أخته الكبري، فتعلق: كنت طفلا شقياً جداً يا إبراهيم. تضيف: نشفت دمنا في اليوم ده.. لما تهت! هكذا عرفت الثورة من تلك الصورة التي ظل أبي يحتفظ بها إلي أن مات. عندما التحقت بالمدرسة، عرفت من دروس التاريخ، أن المصريين قاموا بثورتين علي الحملة الفرنسية، واندفعت إلي الثورة مدن وقري كثيرة، قاومت جنود الحملة الفرنسية التي تكبدت خسائر فادحة علي مدي ثلاث سنوات، وانتهي الأمر باختيار المصريين من يحكمهم. في العصر الحديث كانت ثورة عرابي، التي وصفها البعض بهوجة عرابي نتيجة لتأثيرها السلبي علي الأوضاع في مصر، ومنها - بالطبع - احتلال الإنجليز لمصر، لكن لا يمكن عزل ما حدث في ثورة عرابي عن بعث الحس الوطني للإنسان المصري، واعتزازه بكونه مصرياً. كانت ثورة 1919 من أعظم الثورات التي اتحدت فيها أطياف الشعب المصري، في المدن والقري، وشاركت المرأة بدور بارز في تعبئة المتظاهرين، وكانت أولي المتظاهرات من الطبقة الفقيرة ، ولا يذكر التاريخ إلا أسماء بعينها من أبناء الطبقة الأرستقراطية، وغاب دور الفقيرات اللاتي دفعن حياتهن ثمناً لحرية الوطن! وقد وقفت أمام نتائج هذه الثورة علي المجتمع المصري والمرأة، وأثر ذلك فكرياً واجتماعياً وثقافياً، في دراستي للدكتوراه عن النقد النسائي للأدب القصصي في مصر. وتأتي ثورة 25 يناير، أول ثورة شعبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, شارك فيها كل أطياف المجتمع المصري، وإن كان للشباب والأطفال دور لا ينكر. أذكر أنني لاحظت حرص بعض الشباب علي الالتقاء بعد فترة الدوام الرسمي، يجلسون معا،ً ويتحدثون بصوت هامس، اقتحمت مجلسهم، واتجهت إليهم بسؤال واضح وصريح: ماذا تفعلون؟ عرفت أنهم يكتبون عبارات حماسية توزع علي المتظاهرين. كنا في أجارة نصف العام، وهي فترة نشاط كبير لقصر ثقافة الطفل بجاردن سيتي، كنا قد أعددنا مجموعة من الأنشطة، منها السمبوزيوم الأول للنحت، وأزمعنا تأجيله نظراً للظروف المحيطة بالقصر، وقربه من ميدان التحرير، إلا أن الأطفال رفضوا الفكرة بشدة، كنا عاجزين - أمام حماسهم - علي أن نتخذ قرار التأجيل، وافقنا بشرط أن يتجه الأطفال - عقب انتهاء النشاط - إلي منازلهم مباشرة، خوفاً عليهم، لكننا اكتشفنا أن الأطفال يتجهون إلي الميدان، يمارسون أنشطة متنوعة مثل الغناء، أو ترديد الهتافات أو إلقاء الشعر، فما كان منا إلا أن رتبنا أنشطة تمارس داخل الميدان، ومنها رسم جدارية عن الثورة، وطبع صور الشهداء علي "التيشرتات" وتعليم أولاد الشوارع المتواجدين في الميدان فن الرسم. كانت المناقشات حامية، وحاول الأطفال تقديم مسرحية من تأليفهم وإخراجهم, وتقديمها علي إحدي المنصات, وكان لهم ما أرادوا. وها نحن في ثورة 30 يونيو 2013، تتعدد الميادين، ونشارك في الوقوف أمام الاتحادية، وفي هذه المرة يشارك المستقبل ممثلاً في أطفال لم تتجاوز أعمارهم السنوات الخمس محمولين علي أعناق آبائهم، وأتذكر صورة أبي, وأترحم علي أبي، وأردد: مصر عادت شمسك الذهب.