عبدالمنعم رمضان: انقضي العيد, ولم تطلبني هدي الجميلة, وهي التي عذبتني, واستولت علي زمني, وأدخلتني كل الأزمنة, فخرجت ثانية من رحم أمي, وصرت طفلا هزيلا, أغلب أعضائي مكشوفة, وجلبابي من الكتان الخشن, يمتد ولا يبلغ ركبتي, أمي بيضاء جميلة يحاول كل رجل نعمل عنده أن ينفرد بها, فيخفض أبي رأسه ويتلعثم, وبعد قليل, يهتاج الرجل ويطردنا, بيتنا في قرية فرعونية, وتمثال إلهنا الذي نعبده, يشبه القط الأسود النائم في حضن أختي, في أيام سيدنا الفرعون, رأيت أبي يحملني علي كتفيه, ويمسك بيده اليمني يد أختي, وبيده اليسري بقجة ملابسنا القديمة, وكانت أمي تسير خلفه كأنها تحرس ظلالنا, ولما وصلنا إلي منف, أوقفنا الحراس, وأجلسونا بجوارغيرنا, ولم يمنحونا حساء العدس الأصفر إلا بعد إلحاحنا, ثم أخذونا إلي صوامع الغلال, وأصبحت لا أري أبي, كانت أعضاء أمي تجف, حتي أن ثدييها صارا مشفوطين, وفارقتنا بهجة عبادة القط الأسود, وفرض الحراس علينا عبادة إله لانعرفه, كنا نبكي في أثناء تحديقنا إلي وجهه, وذات مرة رأيته يبكي مثلنا, فأحببته, وبدأت أميل إليه, ولما اكتشفت أمي ذلك, امتنعت عن النظر إلي وجهي, وأصبحت لا أري لسانها إلا إذا كلمت أختي, وكانت تكثر من توجيه النصح إليها, خاصة إذا رأتها تبتسم عندما يخبطها أحد السادة علي عجيزتها, وذات مرة فقدت أمي هدوءها, كانت تخرج وتقف وتعود وتجلس وتقف وتنظر حواليها, وتتنهد وتأمر أختي كي تختفي وراء الجوال الملئ بالذرة الصفراء, لم أستطع أن أسألها, اختبأت مع أختي و سألتها, فقالت:ابن الكاهن لمحني وصفر بفمه, إنها تخشي أن يأتي و يصطحبني, في تلك الليلة ظهر أبي بعد غياب, فانفردت به أمي, وبعدها فوجئت بأبي يحملني فوق كتفيه, ويمسك بيده اليمني يد أختي, وبيده اليسري بقجة ملابسنا, وفي أيام الملك توت, تركني الجميع وذهبوا إلي معبد آمون, وجلست وحدي مع بقرة سيدنا, كانت تأكل البرسيم وتضع عينيها في عيني, وتشرب الماء من القناة الضيقة, وتضع عينيها في عيني, وتلحس صغارها و تتركهم يلتهمون ضروعها, وتضع عينيها في عيني, فشعرت بالأمان, واعترفت لنفسي أن البقرة أطيب من القط الأسود, ومن الحمامة البيضاء, وأنني سأبني لها معبدا أكبر من معبد آمون, في الليل أخذوا أبي وأعطوه عصا طويلة, وقالوا له:ستكون حمال أمتعة حورمحب, فوجم وانكمش, وأتي القائد وأعطي أختي أربع بلحات حمراء, وأعطاني مثلها, وأعطي كيس أرز لأمي وأمرها أن تأتيه ليلا لتأخذ التوت والجميز والقمح, وقبل الغروب رأيت أبي يرتعش وينزف العرق من كل جسمه, ويلهث, ويحث أمي علي الإسراع, ويحملني علي كتفيه, وبيده اليمني يمسك يد أختي,وباليسري يد أمي, في أيام سيدنا أخناتون, اختفي أبي, واختفت أمي, واختفت أختي,واختفيت, ولم نظهر ثانية إلا حين ظهورالمقوقس, الذي أهدي أختي إلي الملك البعيد, وأهداني, كي أدق الأجراس, إلي كنيسته, وانتزع أمي من أبي, ورسمها راهبة, ورسم أبي شماسا, وفوجئ المقوقس بموتنا جميعا في يوم واحد, حيث اصطففنا علي عتبة الجنة, وأسرع أبي وحملني فوق كتفيه, وأمسك يد أختي بيده اليسري, ويد أمي باليمني, وابتسم, فابتسمنا وتلاشينا كالضوء, وعاودنا الظهور في أيام عمرو بن العاص, كان أبي من العمال الذين يحملون الماء إلي بيت عمرو, والروث إلي الحقول, وكانت أمي تشارك الأخريات جلوسهن علي الترعة, وغسل ملابس الجنود, وصارت أختي خادمة عند القادة الأرامل الذين رأوني, وأجبروني علي الوقوف مثلهم لأعبد الإله الذي يعبدونه, غير أنني يئست من السماء, وهربت وحدي, وبعد أسبوعين, صادفت أبي, فأفلت يدي أختي وأمي, وحملني علي كتفيه, كنا قد وصلنا إلي قرية نائمة, علي حافتها التقطنا خفيرها, وقادنا إلي شيخ القرية الذي نظر إلي أبي وكلفه بتنظيف الزرائب, واجتناب الحرملك, وكلف أمي بصناعة الخبز والفطير,وأطال النظر إلي أختي, ومثل الرجل الطيب, كلفها بحمل وجبة الغداء فقط إلي استراحته التي علي النهر, ولم ينظر ناحيتي, قال لعماله:علموه كيف يهش علي الماعز ويصطاد فئران الحقول, كانت بطن شيخ القرية كبيرة, وكنت إذا اشتقت إلي أختي, خفت وتخيلت أنه ابتلعها وخبأها في بطنه, ولما لم أستطع الصبر, سرقت شوكة فلاح نائم, وطعنت بطن كبير الماعز, لتخرج منه أختي, في الظهيرة رأيتها شاحبة, وأبي يمسك يدها, ويسحبني من يدي, وأمي خلفنا تسحب ظلالنا وتخفيها, وفي الطريق اعترضنا ثلاثة رجال بوجوه حمراء, ضربوا أبي, وخلعوا ثياب أمي, وخطفونا أنا وأختي, وأودعونا في غرفتين ببيت مجهول, وعلموني أن أدلك سيقان النساء ساعة استقبالهن للزائرات, ففقدت ذاكرتي وخفت من ذكورتي, ولم أستيقظ إلا أيام الباشا اسماعيل, كنت طفلا, وكان أبي مثل عود القصب, ونهدا أختي كرغوتي صابون, تنطفئان إذا ارتعبت, وأمي تحمل علي ذراعها أخا جديدا, قالوا لأبي:أنت مطلوب للسخرة ستحفر القناة وتبني القناطر, وقالوا لأمي, وأنت ستحملين سلال الفاكهة وتقدمينها للأميرات أول الليل, وأول النهار تنتفين زغب سيقانهن وأفخاذهن, ووضعونا أنا و أختي وأخي في فراغ تحت السلم, كنا نجوع ونلعق أصابعنا, إلي أن جاء الرئيس ذو الأنف الكبير, فاستقبلناه في الميدان, لكنه انشغل بقوة حنجرته وسلطان حاشيته, وتركنا نجرب النوم تحت أقدام رجاله, قال:احلموا يا أولادي, فأطعته وحلمت, رأيتني أدخل بستان الوقت ورأيت الرؤساء يختفون, ليأتي رجل كثيف الشعر, يقف علي تخت عال ويفتح صدره كالكركي, ويهتف:أنا السندباد, أنا الطائر الأزرق ثم يرفرف بجناحيه فأتبعه إلي قصر ندخله, لا يأبه بالحجرات حوله, ويهرول إلي قبو فيه عائلتي, يحملني ويضعني معهم, ويغلق القبو, فأسمع قدميه تنصرفان وتدقان الأرض بوحشية, أسمعه يتنحنح ويصيح:أنا الجبل, أمي بأصابعها تغلق أذني وعيني, فأحلم كأنني أضع قدمي علي رأس الجبل, وأضحك, وأتذكر أن شيرين خاصمتني, وأتأبط ظلي, وأنام كالمحموم.