«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من رواية رضوى عاشور الجديدة التى تصدر قريبًا عن دار الشروق: الطنطورية (1)
نشر في الشروق الجديد يوم 02 - 04 - 2010


I
طرح البحر
خرج من البحر. أى والله، خرج من البحر كأنه منه وطرحته الأمواج. لم تحمله كالسمك أفقيا، انشقت عنه. تابعته وهو يمشى بساقين مشدودتين باتجاه الشاطئ، ينتزع قدميه من الرمل ويعيد غرسهما فيه، ويقترب. كان عاريا لا يستره سوى سروال أبيض مشدود على خصره بحبل، تلتمع حبات الماء على وجهه وكتفيه. شعر رأسه وصدره وذراعيه استقر لامعا فى البلل. كنت أقف أمامه على الشاطئ، لكننى حين أسترجع المشهد، أرى نفسى فى البيدر 2 بين أعواد القمح، أتلصص عليه وهو غافل عنى. أعرف أن البيادر كانت فى الجهة الشرقية، تفصل بينها وبين البحر بيوت البلد والسكة الحديد، وأننى كنت أقف على الشاطئ، تراودنى الرغبة فى الهرب، ولا أهرب.
أنا التى بادرته بالكلام، سألته فأجاب:
اسمى يحيى، من عين غزال.
وماذا جاء بك عندنا؟
البحر!
تضرج وجهه بحمرة حياء انتقل كالعدوى إلى، أو استبد بى الوجل فاستبد به من بعدى. ألقيت عليه تحية متلعثمة وابتعدت.
ولما ابتعدت، أدرت رأسى فلم أره، فتأكدت أنه لا يرانى. ركضت إلى رفيقاتى فوجدتهن على حالهن، كأن شيئا لم يحدث، يثرثرن ويلعبن فى الرمل.
حكيت. كان كلامى على ما يبدو سريعا ملهوجا. استوقفننى وطلبن أن أعيد الكلام. فعلت. صرن يتغامزن ويضحكن. قلت: ما الذى يضحك؟ نهضت ونفضت الرمل عن ثوبى وسرت باتجاه البيت.
لم أدخل البيت. تجاوزته إلى شجيرات الصبار الواقعة فى نهاية باحته الخلفية. رحت أقطف من ثمرها حتى ملأت القفة التى كنا نتركها بجوارها. حملتها إلى البيت، وأتيت بسكين وصحن كبير وقرفصت بجوار القفة. أمسك بالثمرة بين إبهام يدى اليسرى والسبابة متحاشية دوائر الشوك. وبضربة واحدة سريعة أقطع بالسكين طرفها الأعلى ثم الأسفل، ثم أشق القشرة شقا طوليا، وبطرف السكين، أزيحها قليلا، ثم أضع السكين جانبا وأخلص الثمرة بأصابعى من غطائها الشوكى، أنقلها إلى الصحن.
بيتنا كالعديد من بيوت البلد، متداخل فى البحر. أذهب إليه بلا كلفة أو انتباه، خطوتان فى مائه والغرض أن أغمر قدمى فتفاجئنى موجة تبلل الثوب كله. أقفز متراجعة إلى الرمل، يحولنى فى غمضة عين إلى مخلوق رملى، ثم قفزة واحدة وأغطس كاملة فى الماء. أسبح وألعب، وحدى أو مع الأولاد والبنات.
نتشارك فى الحفر ثم «أنا أنا أنا»... أنزل فى الحفرة العميقة فيهيلون على الرمل إلى أن يختفى جسدى، يبقى الرأس وحده يطل مستثارا من مدفنه الرملى الساخن. مقبرة مجللة بالضحك وشيطنة الصغار. أصيح بأعلى صوتى كمن أصابها مس: «صا..يدة! صا..يدة!» أدب على الأرض أقفز وأعود أدب وبيدى الآنية النحاسية التى كنت ثبتها بين الصخور مصيدة للسمك، فوقع المسكين فيها.. وفى بحرنا بئر سكر. بئر من الماء العذب مستقر بين أمواج المالح. أى والله بئر سكر، ولصقه تماما مجلس العرسان.
نقيم أفراحنا على الشاطئ، يظهر الشاب بعد أن يحممه رفاقه ويساعدوه على ارتداء ملابسه الجديدة. يغنون له: طلع الزين من الحمام... الله واسم الله عليه. طلع الزين من الحمام... الله واسم الله عليه. يظهر على حصان مجلو كأنه العريس. تسكننا الجنادب، نتقافز مثلها، من زفة العريس إلى صمدة العروس إلى العمات والخالات المنهمكات فى إعداد الطعام، يغنين:
قولوا لأمه تفرح وتتهنا
ترش الوسايد بالعطر والحنا
والفرح إلنا والعرسان تتهنا
والدار دارى والبيوت بيوتى
واحنا خطبنا يا عدوى موتى
نندس بين شباب انتحوا جانبا من الشاطئ وراحوا يدبكون. نتوقف قرب رجل كبير تملكته نشوة الغناء فراح قبل أن يلتئم الجمع، يغنى هكذا لحاله، مأخوذا بصوته وما يردده من أبيات.
يفترش العرس شاطئ البحر. يتوسع. تنوره الزغاريد والأهازيج وحلقات الدبكة ورائحة الخراف المشوية والمشاعل. تنفلت ردات «العتابا« و«الأوف» 3 من صدور الرجال، أى والله، تنفلت انفلاتا وتحلق، كأنها تصل إلى رب العرش فوق، أو تطير متجاوزة الجيران فى القرى القريبة لتؤنس سكان الساحل كله من رأس الناقورة إلى رفح. ثم يقبل الفرسان يتبارون فى الركض والرقص. كل على ظهر أصيلته، ترجم رمل الشاطئ رجما بحوافرها فينخطف جسمها وقوائمها مقبلة وهى تولى، الشاب على متنها يميل خفيفا للأمام كأنه مثلها يطير.
يسرق المشهد قلوبنا. ننسى البحر. وربما يكون البحر مثلنا مأخوذا بالفرجة فينسى نفسه ويستكين، أو تدريجيا، يغلبه النعاس بعد طول سهر. نحن أيضا نسلم مثله لخدر لطيف. لا ننتبه إلا حين تسحبنا أمهاتنا فنتبعهن كالسائرين نياما. نسكن فى فراشنا، لا نعرف إن كنا فى البيت أم على الشاطئ، إن كان ما نراه أو يتردد فى أسماعنا واقع العرس أو حلمه فى المنام.
البحر مقيم فى البلد، أما القطار فله أوقاته، يظهر ثم يختفى كعامورة 4 الليل. نضطرب من هدير محركاته حين يقترب. اهتزاز الأرض عند مروره، احتكاك العجل بالسكة الحديد، صفاراته المتقطعة، صرير المكابح لأنه يتوقف. يوميا يمر القطار بالبلد وله محطة شرقيه فى زمارين. أحيانا يحمل أهالى مثلنا، وغالبا ما يركبه عسكر الإنجليز أو مستوطنون لهم غرض يقضونه فى حيفا أو يافا، فيذهبون بالقطار ثم يعودون. يركب شقيقاى باص أبوعصام مرة كل أسبوع، يذهبان إلى حيفا أول الأسبوع ويعودان عند نهايته، يقضيان معنا ليلة الخميس على الجمعة والجمعة على السبت.
بعد أقل من شهر من لقائى بالشاب الذى انشقت عنه الأمواج، زارنا شيخ عين غزال. شرب القهوة مع أبى وطلب يدى للزواج من ابن أخيه.
قالت أمى:
اسمه يحيى.
تمتمت:
أعرف أن اسمه يحيى.
لم تنتبه أمى. واصلت ما تنقله لى من كلام:
أبوك يريد أن يعرف رأيك قبل أن يعطيه الجواب. قال لهم نعم النسب وإن شاء الله يصير خيرا. أبوك موافق ولكنه يقول إن قبلت رقية نكتفى بقراءة الفاتحة، ولا نعقد القران إلا بعد سنة تكون أتمت الرابعة عشرة.
اعترضت وقلت لماذا نزوجها شابا من عين غزال؟ فقال أبوك أهل عين غزال أخوالنا، تزوجوا من بناتنا من قبل. ثم إن الولد فاهم ومتعلم ويدرس فى مصر. هو نطق بمصر وأنا صحت: وتغرب بنتك يأبوالصادق؟ قال لن أغربها. الولد سيتم دراسته قبل أن يدخل بها. اعترضت عليه مرة أخرى: مادام الشاب يتعلم فى الجامعة فلن يشتغل لا بالصيد ولا بالفلاحة، ولن يقيم فى بلدنا أو فى عين غزال. سيتوظف فى حيفا أو اللد، وقد يبعد أكثر فتأخذه الوظيفة إلى القدس، وبصراحة لا أريد أن أغرب بنتى. كفانى أن الولدين متغربان فى حيفا ولا أراهما إلا يوما ونصف اليوم كل أسبوع. وإن كانت ستتغرب تأخذ أمين، ابن العم يطيح عن ظهر الفرس 5، أمين أولى، وبيروت أقرب من القاهرة.
قال لن يبقى فى القاهرة، سيعود إلى عين غزال، وإن توظف فى حيفا تركبين القطار فتصلين ابنتك فى أقل من نصف ساعة. قلت ولو قطع اليهود علينا الطريق؟ احمر وجهه واكفهر وقال فال الله ولا فالك. أنهى الكلام: نحن نشترى الرجل لا موقع عمله. الولد عنده 19 سنة ومتعلم. والنسب يشرف ويرفع الراس، عمه شيخ عين غزال، رجل شهم وسمعته مثل الذهب. اسألى البنت، إن وافقت، على بركة الله.
ما رأيك؟
كانت أمى تتوجه لى بالسؤال.
لم أقل لها: حتى إن كان يعمل فى الهند أو السند.. قلت:
أوافق.
جاءت عبارتى واضحة وبصوت عال. نهرتنى:
سبحان الله، طق شرش الحيا! قولى اللى تشوفوه، قولى الرأى لأبوى!
فى زيارة تالية حضر شيخ عين غزال وإخوته وعدد من رجال قريتهم. استقبلهم أبى وعمى وشقيقاى وكبار البلد. قرأوا الفاتحة. تمت الطلبة ويحيى فى مصر يواصل دراسته الجامعية، وكانت أمى وخالتى منهمكتين فى إعداد الوليمة وقد ذبح والدى خروفين للمناسبة. أمى تروح وتجىء وتكرر فى أذنى همسا: ستسوء سمعتك بين النسوة. سيقولون: عروس كسلانة لا تصلح لشىء. همى وفرجيهم شطارتك. تسللت من البيت واتجهت إلى البحر، تربعت على الشاطئ ورحت أحدق فى الولد وهو يقترب مبللا ومذهبا. أسترجع المشهد ثم أعود أسترجعه على خلفية صوت الأمواج والأهازيج والزغاريد الآتية من اتجاه بيتنا:
سبل عيونه ومد ايده يحنونه
غزال صغير وكيف أهله يبيعونه
يا أمى يا أمى عبيلى مخداتى
وطلعت م الدار ما ودعت خياتى.
..أتخيل أمى فى تلك الأيام. أستعيد ما قالته وما لم تقله. أسمعها وهى تكرر على جارة من الجارات ما سبق أن قالته لخالتى: قلت له تغرب بنتك فى حيفا يا أبوالصادق! قال اركبى القطار. سبحان الله، أسافر من بلد لبلد لأرى ابنتى؟! وماذا لو جاءها المخاض فى نصف الليل؟ وماذا لو أصابها لا قدر الله، مرض؟ ثم كيف أركب القطار، ومن يدرينى كيف أركب القطار وكيف أنزل منه وكيف أذهب من المحطة إلى دارها؟ ثم كيف أركب قطارا معظم ركابه من عسكر الإنجليز ومن المستوطنين اليهود، حتى لو تركونى فى حالى ولم يؤذنى أحد منهم، كيف أجرؤ على الاستعلام منهم؟ قد لا يفهمون كلامى حين أسألهم، وقد يسخرون منى، وقد يتقصدون ألا يدلونى فأنزل فى المحطة الخطأ وأضيع بين البلاد، وقد أجد نفسى فى كبانية 6 من كبانياتهم، ماذا أفعل ساعتها؟ أدق الباب على اليهود واقول لهم رجعونى بلدنا؟! لماذا يختار أبوالصادق الصعب ويقول اقبلوا ما اخترت؟ لماذا لا تسكن ابنتى بجوارى فلا يكلفنى الذهاب إليها إلا أن انتعل حذائى وأرد شالتى على رأسى فأصلها قبل أن تنتهى من غلى القهوة التى وضعتها على النار حين أرسلت فى طلبى؟ ويقول اركبى القطار!
لا أدرى إن كان هذا القلق الذى تمكن من أمى قلقا عاديا لامرأة لم تغادر قريتها، أم تدخل فيه وعمقه واقع مثقل بالمخاوف جعلها كما جعل غيرها، تحتمى بكل ما هو أليف ويخصها. بدت المسافة الفاصلة بيننا وبين حيفا، وهى أربعة وعشرون كيلومترا لا أكثر ولا أقل، طريقا وعرا محفوفا بالمخاطر أقرب إلى رحلة السندباد إلى بلاد الواق الواق، أو مكمن الغولة المترصدة بالشاطر حسن. لم تكن هذه المخاوف إلا لاحتمال أن يسكن صهرها المرتقب فى حيفا. كان الشاب يدرس فى القاهرة، لا تعلم ولا أحد يعلم ما الوظيفة التى سيشغلها وأين. سيرحمها الله من رحلة حيفا وكيلومتراتها الأربعة والعشرين. لن يعمل الشاب فى حيفا ولن تسكن ابنتها فيها. ستعيش أمى وتموت دون أن تركب القطار. لن تزور حيفا أبدا ولن تحملها لا دابة ولا سيارة إلى عين غزال ولا إلى غيرها من القرى المجاورة اللهم إلا الفريديس.
ستذهب إليها فى شاحنة.
II
حين احتلوا البلد
لم أسمع الأصوات. كنت نائمة. وعندما أيقظتنى أمى سمعت فسألت. قالت: صحى وصال وعبد. حطى علف للمواشى يكفيهم أسبوعين أو ثلاثة، وماء كثيرا. وانثرى حبا للدجاج، كترى. والحصان، لا تنسى الحصان. وارفعى تنكات7 الزيت عن الأرض لكى لا تصيبها الرطوبة، ضعى مخدة بين الحائط وكل تنكة زيت. ارتدى ثلاثة أثواب، ووصال أيضا، والولد.
سألت: أين أبى وأخوى؟ لم تجبنى عن السؤال. كانت منهمكة فى جمع أشياء على عجل. وأم وصال كانت تفعل مثلها. ثم وجدنا أنفسنا نقف أمام الدار. عاودت السؤال. قالت إنهم فى الحراسة، سيلحقون بنا حين تتضح الأمور. سألتها ما الذى تعنيه ب«تتضح الأمور» لم تجب. غريب.
أمى التى كانت تولول قلقا على ولديها فى حيفا، بدت امرأة أخرى، تلقى الأوامر، تدير شئون قطيعها الصغير بحسم وسرعة، وإن لم أفهم منطق هذه الإدارة. حملتنى نصية 8 جبن وحملت تنكة زيت وأم وصال تنكة زيتون. لم أفهم فسألت: كل هذا الجبن وكل هذا الزيت والزيتون، ماذا نفعل به؟ لم تجب.
غادرنا البيت. طبقت أمى البوابة. أغلقتها بالمفتاح الكبير. استغربت فلم أر باب بيتنا مغلقا أبدا، ولا رأيت المفتاح: كان حديديا كبيرا أدارته أمى فى القفل سبع مرات. وضعته فى صدرها. فجأة انتبهت أمى أننى أحمل العنزة الصغيرة التى ماتت أمها، سألت: لماذا تحملين هذه العنزة؟ قلت: سآخذها معى. لم تعلق. أعلنت: سنذهب إلى دار خالى أبو جميل.
مشينا فى اتجاه داره، تتقدمنا أمى وأم وصال تحمل كل منهما تنكة فى يد وبقجة فى اليد الأخرى، وخلفهما أنا ووصال وعبد، تمسك وصال بيد أخيها وتحمل فى اليد الأخرى صندوقا حديديا مربعا به أوراق حملوها معهم من قيسارية. وأحمل العنزة فى يد ونصية الجبن فى اليد الأخرى. وصلنا إلى دار أبوجميل. كان صوت الانفجارات وصليات الرصاص يأتينا من الشرق من جهة المدرسة، ومن جهة البرج فى الشمال، وجهة الكراكون فى الجنوب. أصرت أم جميل أن نفطر وكررت أن اليوم طويل ولا نعرف ما الذى سيحدث.
أعطت لكل منا رغيف طابون. قالت: «كلوا!» لم يقل أى منا إنه ليس جائعا ولا إننا فى منتصف الليل، لا وقت إفطار ولا غداء، ولكننا أكلنا امتثالا لأمرها الذى جاء صارما وحاسما. اشتد القصف. قال أبوجميل إنه من الغرب. يبدو أنهم يضربون من البحر أيضا. توضأ وبدأ يصلى.
سمعنا ديوكا تؤذن، ثم شقشق الفجر ثم سمعنا خطوات واقتحم الدار ثلاثة رجال مسلحون وساقونا إلى دار المختار. كانوا يهددوننا بأعقاب البنادق ويطلقون النار فوق رءوسنا. فى الطريق شاهدنا حسن عبدالعال الضرير وزوجته عزة الحاج الهندى ملقيين بالقرب من بيتهما تحيط بهما بركة من الدم، ثم شاهدنا جثة أخرى لشخص لم أتعرف عليه. عبد صار يبكى بصوت عال. أفلت العنزة من يدى وحملته. لف ساقيه حول خصرى وأحاط عنقى بذراعيه. لم أكن أرى وجهه لأعرف إن كان مازال يبكى. بقيت العنزة تمشى ورائى.
ساقونا إلى الشاطئ. قسمونا إلى مجموعتين. الرجال فى ناحية والنساء والأطفال وبعض المسنين من الرجال فى ناحية. أول مرة أرى المجندات. نساء يرتدين ملابس عسكرية ويحملن السلاح. كلمننا بالعربية ورحن يفتشننا واحدة بعد الأخرى ويأخذن ما يجدنه معنا من مال أو حلى، يضعنه فى خوذة. كلما امتلأت الخوذة يفرغن ما فيها على بطانية كبيرة مبسوطة على الرمل. لم تنتبه المجندة للعنزة ولكنها انتبهت وهى تفتشنى إلى فردتى القرط فى أذنى. انتزعتهما انتزاعا. سال الدم من أذنى. مسحته بطرف ثوبى. انتقلت المجندة إلى تفتيش أمى ووصال وعبد وأمه. أخذوا تنكتى الزيت والزيتون ونصية الجبن. جردت أمى من خاتمها وقرطها وسلسالها. كنا نقف متلاصقين. أتطلع إلى وجه أمى. شفتاها تتحركان حركة خفيفة متصلة، لا أعرف إن كانت تتمتم بالدعاء أو تردد آيات من القرآن أو ترتجف. همست فى أذن وصال: أهكذا استحلوا بلدكم؟ قالت: لا، لم يوقفونا عند البحر. أطلعونا من الدور على الباص، ولكنهم أخذوا حلى النساء وما وجدوه معهن من نقود.
كنت أقف فى الطرف الأقرب من الرجال. لا تتوقف عينى عن التطلع أملا فى رؤية أبى أو أى من أخوى. لم أرهم. قدرت أنهم شردوا فى الجبال أو اختفوا فى مغارة من المغر. رأيت «كيس الخيش»: رجل يقف بجوار عسكر اليهود ورأسه مغطى بكيس من الخيش به ثقبان يسمحان لعينيه بالرؤية. كان الضابط يتطلع فى ورقة فى يده وينادى أسماء الرجال فيجيب صاحب الاسم أو لا يجيب. عندما لا يجيب يتقدم كيس الخيش ويشير إليه. أحيانا يشير بدون نداء. ما إن يشير «كيس الخيش» إلى شخص حتى يطلعوه. يأخذون مجموعة من الرجال، خمسة أو ستة أو سبعة ويختفون. هل يأخذونهم إلى السجن فى زخرون يعقوف؟ نسمع صليات من الرصاص. هل كانت الحراسة تقاوم؟ أمسكت بيد وصال فتطلعت فى كأنها ستسألنى لماذا أشد على يدها. لم تسأل. اقتربت العنزة منى، صارت تلمس قدمى ولكننى لم أحملها. قال عبد إنه عطشان. قالت له أمه: تحمل. قلت للمجندة: الولد عطشان، ردت على بكلمة بذيئة وهى تدفعنى بكعب البندقية فى كتفى. كان الجو حارا والشمس حارقة وتعجبت لماذا طلبت منى أمى ارتداء ثلاثة أثواب ولماذا أطعتها. كنت أتصبب عرقا. أردت أن أسألها. لم أسأل.
«ياللا ياللا!» صاحت المجندات بصوت عال.
بدأ موكب النساء يتحرك. ساقونا فى اتجاه المقبرة. فى الطريق رأيت ثلاث جثث ثم جثتين أخريين لم أتعرف على أى منها.
انتبهت وهم يسوقوننا باتجاه المقبرة أن للبلد رائحة غريبة تختلط برائحة البحر والزنبق الأبيض الذى ينبت فى الجزر وعلى شواطئها فى ذلك الوقت من السنة. لم أميز الرائحة وإن بقيت فى أنفى بعد أن غادرنا القرية. وأحيانا بعد ذلك بأيام وبأسابيع، كانت تحضر فجأة ولا أعرف من أين أتت ولماذا كان للقرية هذه الرائحة فى ذلك اليوم.
عند المقبرة كانت شاحنتان فى الانتظار. تحت تهديد السلاح طلبوا منا الصعود. انتزعت مجندة العنزة منى وكنت أحملها. كنا عدة مئات من النساء والأطفال والشيوخ. ربما خمسمائة أو ستمائة. حشرونا فى شاحنتين وبدأت الشاحنتان فى التحرك. صرخت فجأة وجذبت ذراع أمى وأنا أشير بيدى إلى كومة من الجثث. نظرت أمى إلى حيث أشير وصرخت: جميل، جميل ابن خالى! ولكننى عدت أجذب ذراعها بيدى اليسرى وأشير بيدى اليمنى إلى حيث أبى وأخوى. كانت جثثهم بجوار جثة جميل، مكومة بعضها لصق بعض على بعد أمتار قليلة منا. أشير وأمى تواصل الولولة مع أم جميل على جميل. كانت النساء تولول والأطفال يبكون مفزوعين من نحيب أمهاتهم، والرجال المسنون تجمدوا كالأصنام.
ستنزلنا الشاحنات فى الفريديس على بعد أربعة كيلومترات من بلدنا. وسيتم تسليمنا بالعدد المكتوب فى الأوراق إلى مختار الفريديس. سنتوزع فى بيوت الخلق. لم أقل لوصال إننا أصبحنا مثلهم لاجئين. لم أقل أى شىء طوال فترة إقامتنا فى الفريديس. أيقنت أمى أننى فقدت النطق. ظلت تكرر أن أباها وأخويها سيجزعون حين يعلمون أنها فقدت القدرة على الكلام.
فى الفريديس، وفى الطريق إلى المثلث، وفى طولكرم والخليل، وفى الطريق إلى صيدا، وطوال السنوات التى عاشتها فى صيدا، ستكرر أمى بلا كلل ولا انقطاع أن ولديها هربا إلى مصر وأن أبوالصادق اعتقل مع من اعتقلوا من رجال البلد ولا نعرف إن كان أفرج عنه ولا يدرى أين نحن، أم أنه مازال فى الأسر. همست إحدى النساء أن أم الصادق فقدت عقلها. أجابتها أخرى: غريب عجيب، إنها عاقلة راشدة فيما عدا موضوع زوجها وأولادها. عادت الأولى تقول: ورب العرش أنا كذبت عينى وقلت إن قلب الأم أدرى، وربما اشتبه علينا الأمر ولم يكونوا بين من رأيناهم من القتلى، لولا أن الشباب الذين أخذوهم لحفر المقبرة الجماعية شهدوا أن أبوالصادق وولديه كانوا بين الجثث التى دفنوها.
تقول أمى: الحمدلله إن الصادق وحسن هربا إلى مصر. عندما تهدأ الأمور يعودان بالسلامة. وفى صيدا بعد عام من رحيلنا كانت تلح على عمى أن يسافر إلى مصر ليعلمهما أننا نعيش فى صيدا. تقول: مساكين لا بد أن القلق أكل قلبيهما علينا، ونحن نعيش هنا فى خير وأمان.
بعد وصولنا إلى الفريديس أخذوا بعض الصبية للعمل فى زخرون يعقوف مقابل بضعة قروش، يحملونها فى نهاية اليوم إلى أمهاتهم لتشترى بها خبزا؛ وأحيانا يتحرش بهم الصبية اليهود فى المستوطنة ويضربونهم ويأخذونها منهم فيعودون كما ذهبوا. وأخذوا صبية آخرين وبعض شباب الفريديس إلى بلدنا لجنى المحصول.
وفى الفريديس صاحت امرأة من بلدنا فجأة: الله أكبر، نجوع والسنابل طولها مترين فى أرضنا! وقالت لأختها: قومى معى. اتجهت إلى البلد لتحصد بعض القمح. فى المساء عادت أختها بثوب ممزق وآثار اللطم واضحة على وجهها وطلبت من بعض شباب الفريديس أن يساعدوها على نقل جثة أختها التى دهمتها سيارة عسكرية. قالت: داسوها قصدا ولما حاولت الاقتراب لأرى ما أصابها عادت السيارة فى اتجاهى فقفزت مبتعدة. داست عليها السيارة مرة أخرى.
أقمنا أربعة أسابيع فى الفريديس. استضافنا فيها أهل البلد. أنزلوا الفرشات وقاسمونا زادهم، ولكن الزاد كان شحيحا. مات بعض المسنين. أما الرضع فكانوا يتساقطون بشكل غير مفهوم. كل يوم يموت رضيع وأحيانا رضيعان. دفنا فى الفريديس خمسة وعشرين طفلا وربما ثلاثين، والمرأة التى دهستها السيارة العسكرية والمسنين الذين ماتوا. ثم تسلمنا الصليب الأحمر ونقلونا شرقا إلى أرض قفر ممهدة فى المثلث. تسلمنا ضباط أردنيون، أحصونا ووقعوا بالتسلم. ثم حملتنا الباصات إلى طولكرم. أنزلونا فى مدرسة قريبة من خط سكة حديد الحجاز. فى طولكرم قصفنا الطيران الإسرائيلى. استشهد ابن يحيى العشماوى وابنته.
بعدها بأسبوعين أتت سيارات أخرى فنقلتنا إلى دير المسكوبية فى الخليل. كل يوم جمعة كان أهالى الخليل يذبحون خرافا ويسوونها ويحملونها إلينا مع أرز بكميات تكفى الجميع. مات الكثير من الأطفال ربما ليس من الجوع بل من البرد، أو ربما بسبب كمد أمهاتهم. عدنا وصال وأنا إلى ارتداء الأثواب الثلاثة واحدا فوق الآخر. كانت وصال تحكى كثيرا وكنت أنصت لما تقول ولكننى لم أكن أتكلم. تقول أمى إننى منذ خروجنا من البلد إلى أن وصلنا صيدا، لم أنطق بكلمة واحدة. وكان عبد يلازمنى كظلى ولا يقبل أن ينام إلا بجانبى. أدفئ يديه وقدميه وأظل أربت على شعره حتى ينام. ولكننى لم أكن أغنى له كما كنت أفعل فى بلدنا فلم يكن لى صوت.
وفى المسكوبية وصلتنا أخبار الأسرى. أذاعوا فى مكبر للصوت عن وصول رسائل عبر الصليب الأحمر. وقفت أمى فى الصف تنتظر. لم ينادوا باسم أبى. تفرقت النساء والأولاد بعد أن تسلم كل الرسالة التى تخصه. خاطبت أمى المسئول فأعلمها أنه وزع كل ما ورده من رسائل.
قضينا فى الخليل ستة أشهر ثم بدأ أهل البلد يتوزعون. منهم من أراد اللحاق بأقرباء له فى طولكرم أو نابلس أو جنين. منهم من تسلل عائدا إلى الجليل. ومنهم من ذهب إلى سوريا. قالت أمى إننا سنذهب إلى صيدا عند عمى. كيف تذهبين إلى صيدا؟ سألتها أم وصال. أخرجت أمى سبعة جنيهات من الذهب، وقالت إنها أفلحت فى تهريبها من التفتيش. قالت أم وصال إن لها أقارب فى جنين. أعطتها أمى ثلاثة من الجنيهات السبعة. ودعنا أهل البلد ووصال وأمها وعبد.
قطعنا نهر الأردن برفقة أسرتين من أهل البلد نقصد إربد. كنا قافلة صغيرة من ستة عشر شخصا أغلبهم من الأطفال. وكان معنا رجل مسن يعرف الطريق. كان الجو شديد البرودة والطريق صحراوية بها جبال صخرية جرداء. فى إربد نزلنا ضيوفا على عائلة تربطها صلة نسب بالأسرتين اللتين رافقناهما. أقمنا عندهم أسبوعا ثم قررت أمى أن نغادر لمواصلة رحلتنا إلى صيدا. قال رب الأسرة المضيفة: «ستحملك السيارة إلى درعا، فى سوريا. تنزلين هناك وتبحثين عن الباص الذى يذهب إلى دمشق. فى دمشق تسألين عن السيارات المتجهة إلى صيدا، إما أن تركبى مباشرة إلى صيدا أو تركبى أية سيارة تتجه إلى راشيا أو مرجعيون أو النبطية. حين تصلين إلى أى منها تكونين على بعد نصف ساعة من صيدا». أعاد عليها الأسماء ثانية وأكد عليها ألا تنساها ثم قال: الله معك. أراد أن يعطيها نقودا ولكنها قالت: الله منعم ومتفضل يا خوى. معى والحمد لله.
صباح اليوم التالى أوصلنا الرجل إلى محطة سيارات فركبنا مع آخرين قاصدين درعا. أوصى بنا السائق والركاب. عبرنا الحدود. بعد ساعات قليلة كنا مستقرين فى مقاعدنا مع غيرنا من الركاب فى سيارة أجرة تتجه من درعا إلى دمشق. وصلناها ليلا فأمضينا ليلتنا فى مسجد. «كانت النية»، تحكى أمى لأختها، «أن نبكر فى الصباح فنصل صيدا فى اليوم نفسه. نمنا فى أمان الله، وفى الصباح وجدت وجه رقية أحمر، وضعت يدى على جبينها فإذا بها كالنار. قلت: رقية، شدى حيلك، هانت، اليوم نصل دار عمك. ولكن البنت لم تكن تسمعنى ولا ترانى، ممددة على بساط المسجد كأنها ميتة وتتنفس». لا أذكر أية تفاصيل عن مرضى، لكن أمى تقول إن الحمى لازمتنى أسبوعين، وإنها كانت تبكى ليل نهار لأنها أيقنت أننى سأموت.
«وما الذى أقوله لأبيها وأخويها حين يرجعان بالسلامة، ماتت منى فى الطريق؟! ولما بقيت الحمى يومين ولا معى ميرمية ولا نعناع ولا أستطيع أن أسلق لها دجاجة تشرب مرقها، سألت أولاد الحلال عن حكيم وذهبت إليه فجاء معى إلى المسجد. طلب ليرة. أى والله جنيه فلسطينى دهب أعطيته له قبل أن يقبل أن ينتقل معى إلى المسجد. فحصها وكتب لى دواء فاشتريته. وعندما شفيت رقية لم يبق معى من الليرات الأربع إلا عشرة قروش». تستعجب خالتى: «عشرة قروش؟ ألم تقولى كان معك أربع ليرات دهب؟» تعد لها أمى على أصابعها بنود الصرف: «ألم نعبر نهر الأردن وندفع؟ ألم نركب سيارات؟ والأكل والشرب ونحن فى المسجد والطبيب الله لا يسامحه. واشتريت كنزتين 9 صوف، واحدة لى والثانية لرقية ونحن فى إربد، لأن البرد كان يقص العظم». تعود إلى العد على أصابعها: «واشتريت الدواء. وشيخ المسجد الله يحميه ويبارك فى أولاده حمل لى من بيته خبزا وغموسا وميرمية وحراما نتغطى به». فتعود خالتى إلى سؤال القروش العشرة: «وكيف وصلت إلى صيدا؟» فتشيح أمى بيدها وتتنهد قائلة «أولاد الحلال كثير». لا تحكى لأختها التى لا تخفى عنها أى شىء، أنها وقفت بباب المسجد وحكت لمن توسمت فيه خيرا من عابرى السبيل.
وصلنا إلى صيدا فى أول شهر شباط. وحين لقينا عمى وخالتى كنت أرتدى الأثواب الثلاثة، ثوبا على ثوب، وعليها السترة الصوفية التى اشترتها لى أمى من إربد. وكان أول ما نطقت به من الكلام منذ غادرنا بلدنا هو ما قلته لعمى همسا: أبى واخوتى الاثنين قتلا. رأيتهما بعينى على الكوم. كانا بين مائة أو ربما مائتى قتيل، ولكنهما كانا على طرف الكوم، رأيتهما. ستقول لك أمى إن الصادق وحسن ذهبا إلى مصر، وإن أبى فى الأسر. أنا رأيتهما غارقين فى دمهم على الكوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.