كانت مفاجأة سارة بالنسبة لي ، حينما سألت عن الطريق إلي متحف اللوڤر من موقع السكن الذي أقيم فيه في قلب الحي اللاتيني بباريس، أن أعرف أنه يفتح أبوابه في الأحد الأول من كل شهر مجانا للجمهور، وبما أنني وصلت الخميس الموافق 30 مايو.. وستمتد زيارتي إلي 10 يونيو، إذن.. فمن حسن الحظ أنني سيتسني لي القيام بهذه الزيارة المنتظرة في الأحد القادم مباشرة الموافق الثاني من يونيو.. وكان عليّ أن استيقظ مبكرا جدا في صباح هذا اليوم الموعود، خصوصا وأنني سأقطع المسافة سيرا علي الأقدام، علي هدي الوصفة الدقيقة التي أفاض في شرحها الأخ حمادة المشرف علي رعاية شئوني في السكن الذي أقيم فيه.. وبعد مشي طويل نسبيا، وقطع عدد من الكباري علي نهر السين، وربما علي فروع صغيرة منه، وصلت إلي المدخل الرئيسي لمتحف اللوڤر سعيدا بتبكيري ونشاطي وهمتي العالية، أنا الذي لا أمشي علي الإطلاق - تقريبا - في مصر!.. وإذا اضطرتني الظروف للمشي (أحيانا) فليس لكل هذه المسافة مرة واحدة.. ولكن، كانت سعادتي كاملة بالوصول المبكر إلي اللوفر، وقرب تحقيق أحلامي بمشاهدة الأعمال الفنية الأصلية، واللوحات الحقيقية الفعلية التي أكاد أكون قد حفظتها عن ظهر عين من كثرة مشاهدتها في الكتب والمراجع الفنية المختلفة، ودراستها في الكلية، والتمعن الطويل فيها مرات كثيرة بحكم كتاباتي واهتماماتي بالفن التشكيلي.. ولكن يبقي انه لم يتوفر لي في كل هذه المراجع والكتب، برغم حفظي لهذه اللوحات.. أن أشاهدها بحجمها الطبيعي، وبألوانها الحية مباشرة، وبأبعادها الفعلية التي اختارها لها الفنان.. وما إن وصلت إلي الساحة الواسعة التي تتوسط متحف اللوفر، ويتوسطها هذا الهرم الزجاجي الشهير والضخم، والذي بدا مستحدثا وغريبا عن الطابع المعماري التقليدي أو الكلاسيكي أو التاريخي للمكان، ولكنه - كما فهمت - يشكل نقطة الانطلاق، أو بؤرة المتحف الوسطي تقريبا، التي يسهل الانطلاق منها إلي أي قسم من أقسامه الواسعة الشاسعة التي تحتاج إلي عدد كبير من الأيام لتأملها ومشاهدتها والإمعان فيها وتفحصها.. أقول.. كانت المفاجأة الأولي التي وقعت لي وأذهلتني.. أنا الذي ظننت نفسي مبكرا جدا ونشيطا، ومن أوائل الواصلين إلي المتحف!.. الطوابير الهائلة من البشر المصطفة بشكل لولبي ثعباني علي هيئة زجزاجية حتي يتسني للمكان استيعابهم جميعا، وإلا فلو وقفوا بشكل خط مستقيم طولي لاضطروا إلي الامتداد لعدة كيلو مترات خارج المتحف.. فكان لابد من هذا الحل الزجزاجي لاستيعاب الأعداد الضخمة جدا من البشر القادمين لزيارة المتحف من كل أنحاء العالم، ومن كل الجنسيات، فلم يكن صعبا أن تلمح في الطوابير كل الوجوه الآسيوية بتنويعاتها من الصين واليابان والهند وأندونيسيا... و.... و.... إلي آخره، والأوروبيين بتنويعاتهم شرقاً وغرباً، والعرب بمختلف بلدانهم من المحيط للخليج، ومن كل يلتبس عليك أمر جنسيته لتشابه الأوروبيين مثلا.. كانت تفصح عنه لغته.. من إيطالي وألماني وأسباني.. وهكذا، أو تفصح عنه - كما مع بعض الجنسيات الآسيوية - ملابسه وطابعه القومي وزيه التقليدي. وطبعا كان لابد لهذا التفحص والتأمل الطبيعي في تلك الطوابير أن يستغرقك.. فيما أنت مضطر للوقوف لأكثر من ساعة ونصف (وقد وصلت في السابعة والنصف) لحين موعد الفتح الرسمي للأبواب في تمام الساعة التاسعة.. أنظمة دقيقة لا تحتمل التفويت أو العبث، أو التبكير أو التأخير عن الموعد المعروف والمستقر والمقرر سلفا والمحدد بدقة، والتي تتحرك - بناء عليه بشكل منهجي مبرمج - أبواب اليكترونية، وأنظمة أمنية (آلية وإنسانية) وشاشات تليفزيونية، وأجهزة دقيقة، وكاميرات خفية، وساعات ذات طبيعة خاصة لا تخطئ، ونظام كامل علي أعلي مستوي من الأمن والانضباط والدقة والمجهز بأحدث ما وصلت له تكنولوجيا المراقبة والمتابعة والرصد والتسجيل والتحكم والتوقع والاحتياط... الخ... وبرغم أنك تعلم بكل ذلك وتشعر به من خلال ملاحظات صغيرة لعيونك المدربة علي الملاحظة والتفحص (كشاعر وناقد تشكيلي).. إلا أنك كزائر طبيعي أو (سائح عادي) لا تشعر بكل ذلك علي الإطلاق.. إذا لم يدفعك حب استطلاعك إلي هذا التفحص والتبصر الدقيقين (مثلي).. المهم.. عندما دقت الساعة التاسعة فتحت الأبواب، وبدأت الجموع الحاشدة في الدخول بنظام حديدي ناعم وسهل وسريع.. وبدأت السلالم الكهربية صعودا وهبوطا في التحرك بالزوار إلي أقسام المتحف المختلفة حسبما تشير العلامات الارشادية بدقة.. وفي البداية يهبط الجميع إلي المسقط العمودي النازل من قمة الهرم الزجاجي في الخارج إلي منطقة الوسط تماما لهذا الهرم الزجاجي من الداخل، حيث تتكون دائرة كاملة ذات منصة دائرية يجلس خلفها الموظفون وأمامهم كميات من خارطة مطوية بكل أقسام المتحف، ومخارج ومداخل هذه الأقسام، وما تحتويه من فنون الشعوب والأمم وحضارات الأرض جميعا، وهذه المطويات التي تلعب دور الدليل والخريطة الواضحة البينة للمكان، هي بكل لغات الدنيا المعروفة ومنها العربية بالطبع. الملاحظة الأخيرة في هذا السياق، التي أحب أن أذكرها قبل أن أنتقل بكم إلي منطقة أخري من المقال ومن المتحف، أنني أثناء تجوالي في جنبات اللوفر والذي امتد من الافتتاح في التاسعة إلي الإغلاق في الخامسة علي مدي (8 ساعات كاملة).. حينما كانت تلوح مني نظرة عابرة حسب موقعي من المتحف الذي هو تقريبا علي هيئة حرف (U).. وفي كل لحظة من الساعات الثماني التي أمضيتها بين جنباته.. إلا ولمحت الطوابير هي هي تقف بنفس النظام، وبنفس الطريقة.. لم تتوقف - لحظة واحدة - عن هذا الدخول السلس إلي المتحف، ولم تنقطع في نفس الوقت هذه الطوابير المنظمة لحظة واحدة أيضا عن القدوم إلي المتحف حتي ولو لم يبق إلا ساعة أو بعضها علي موعد الإغلاق! بدأت بالقسم اليوناني الروماني من المتحف الذي استغرقني لأكثر من نصف الوقت المتاح لي قبل الإغلاق (4 ساعات ونصف تقريبا). هل سأكون أول من يحدثكم عن طريقة العرض للأعمال الفنية، تلك الطريقة الذكية والجذابة واللائقة تماما في تقلبها المكاني والزماني بين المفتوح والمغلق.. أقصد بين المساحات المفتوحة من المبني والتي تحدها السماء، وبين القاعات المغلقة التي تحدها وتحددها السقوف، فالأعمال النحتية الضخمة، علي سبيل المثال، كان لابد لها من الفضاء الواسع المفتوح، وكأن هذا الفضاء المفتوح جزء لازم وضروري من طريقة فهمها والاحساس بها وتذوقها.. فضخامتها تصادر ابتداء علي حبسها في حيز محكوم، أو تحديد إقامتها تحت سقف مهما كان عاليا أو مرتفعا، لأن خطابها الجمالي سينقص كثيرا بهذا التحجيم والتقفيص والتقليص وبهذه الحبسة.. بعكس انطلاق هذا الخطاب بكامل دلالاته ومعناه في فضاء مفتوح لا يحد، وفراغ واسع ممتد.. فحتي التمثال في هذا الفراغ المطلق الذي يستحقه فنيا وجماليا ليسطع بكامل دلالاته وأبهته وحضوره الكامل، لا يشاركه فيه تمثال آخر.. يشوش رؤيته.. ويعكر انفراده.. وينال من قدرة المشاهد علي الإحاطة به من كل الجوانب، والالتفاف حوله بحرية وراحة تامة لتشرب التمثال في أبعاده وأبعاضه وكامل علاقته ككتلة غنية عظيمة بالفراغ من حوله، الذي يدلنا علي أن نعي أن هذا (الفراغ) في هذه الحالة هو (الملاء) بعينه.. هو العنصر المكمل لمعادلة التمثال، وأنه ليس بهذه الكيفية مجرد راسم ومحدد لهذه الحدود الخارجية للتمثال.. بل هو عنصر فاعل ودينامي ومتحرك - هذا الفضاء المحيط - في امتلاء التمثال بكامل معناه وبالغ حضوره، وكل قيمته الجمالية، وجلاله الفني.. كل ذلك يحتم علي القائمين الفاهمين للأمر.. وضع كل قطعة تختية في مكانها الصحيح تماما، وفي احترام الحيز الفراغي الرؤيوي التأملي المتمعن لها بلا تشويش أو تداخل من قطعة لأخري، أو تمثال آخر، هذا غير الانتقال الذكي الناعم تاريخيا وفنيا وإبداعيا.. من قطعة لأخري، أو من عصر لعصر، أو من مدرسة فنية لسواها ولابد لك في هذا القسم بالذات من الفهم المعمق، والاستدعاء الواعي طيلة الوقت لعالم الأساطير الاغريقية وتشابكاتها وتعقداتها، واستحضار هذه الميثولوجيا اليونانية العظيمة بكامل تفاصيلها لفهم دراما النحت والتصوير التي أجراها الفنانون العظام علي مر العصور استلهاما لهذه الميثولوجيا واستحياء لها، وابرازا فنيا لافتا لبعض مواقفها وحكاياها وأساطيرها الرائعة الملهمة الموحية لأجيال وأعصر وحقب وأرتال من الفنانين والمبدعين في العصر اليوناني كما في العصر الروماني الذي استنسخ هذه الأساطير عينها، وأعاد انتاجها في حضارته الرومانية بقضها وقضيضها، ولعل مجهوده الوحيد في هذا السياق أنه سمي الآلهة اليونانية القديمة بأسماء أخري ربما ولكنه استنسخ - ميثولوجيا وثيولوجيا - نفس هذا النظام اللاهوتي اليوناني القديم.. واعتنقه واعتقده ومارس حضوره الثقافي والعقائدي والفكري والإبداعي من خلال إعادة انتاجه من جديد، وما أروع أن تتأمل فارق التعبير الفني والجمالي والإبداعي.. بين ما هو يوناني أصيل، وبين ما هو روماني يترسم خطاه ويمضي علي هديه، ويعيد انتاجه من جديد.. في عصر آخر وزمن مختلف... يااااالله.. ما أروع الفن. فوجئت بالوقت وقد سرقني تماما في القسم اليوناني الروماني من المتحف، وكنت حريصا علي ألا أفلت هذه الفرصة قبل زيارة القسم المصري القديم من اللوڤر.. فالله أعلم متي قد تسنح هذه الفرصة مرة أخري.. وذهلت حينما توجهت إلي القسم المصري.. من كم البشر المتجهين إلي هذا القسم ومن كل الجنسيات وهالني في المدخل هذا التمثال الكامل بلاعيب ولا نقص تقريبا لأبي الهول وبحجم كبير.. يتصدر بمفرده المدخل إلي القسم المصري.. بجلاله وجماله، ورسوخه وثباته، وحضوره ووثوقه، وهو يعبر القرون والأزمان السحيقة.. قويا، متينا، راسخا، شامخا.. متناسق القسمات، ودود السمات.. بابتسامة حضارية ذكية محسوبة ملؤها الرحمة والود والحنان والثقة والحضارة.. نعم ابتسامة مليئة بالحضارة.. وبالضمير، ولم استغرب مسارعة الجميع إلي التقاط الصور أمامه ومعه وبجواره في أوضاع فرحة ومعتزة وفخورة.. وعلي فكرة.. أدهشني تماما في مجمل زيارتي للوڤر.. أنهم - إطلاقا - لا يمنعون التصوير وبمختلف أنواع الكاميرات وآلات التصوير العادية والرقمية... إلخ وبالمحمول وغيره من الأجهزة المستخدمة بأنواعها لروائع متحف اللوڤر.. وبكل الأوضاع التي يريدها الناس ويحبونها، فهم أحرار في ذلك.. المنع فقط ينسحب علي لمس المعروضات والأعمال الفنية المختلفة من تصوير أو نحت خصوصا ما هو معروض منها في الهواء الطلق.. أو ما هو مجسمات أو منحوتات بمعني آخر، وبرغم أن هذه الأعمال معروضة بحرية وبلا حواجز في معظم الأحيان تحدد النطاق وتمنع الاقتراب.. إلا أن الناس بوعي متحفي رصين وثقافة فنية راقية وحرص ذاتي.. لا يفعلون ذلك في العادة، وأن أفلت الأطفال أحيانا من الرقابة وقاموا بلمس هذا وذاك من التماثيل التي تغري حتي الكبار بذلك في الحقيقة.. من فرط حضورها، وتأثيرها، ومشابهتها، وقربها، وصدقها، وطبيعيتها، وحيويتها.. التي توشك علي الحركة والنطق.. وحتي إذا فعل الأطفال ذلك أحيانا خلسة عن الحراس والكبار.. لا تنهد الدنيا، ولا يقوم الأمن ويقعد... إلخ، فهناك مرونة حضارية تشعر بها في تعامل المتحف مع المواطنين والزائرين من كل الدنيا. المهم.. شعرت بسعادة غامرة.. وفخر داخلي.. وأنا أري هذا الاقبال الأممي اللافت علي القسم المصري.. وهالني في نفس الوقت حجم الموجود من آثارنا في هذا القسم.. وأشك في وجود ما يماثله في متاحفنا نفسها، ثم تصورت كيف أن متاحف الدنيا جميعا بها أقسام كاملة للفن المصري القديم.. ومن ثم كان لابد أن استهول حجم النهب الذي وقع علي مدي تاريخنا الحديث والمعاصر علي آثارنا الفرعونية بالذات حتي أنها تشغل أقساما كاملة في كل متاحف الدنيا الكبيرة والشهيرة والمحترمة. وحينما استكملت جولتي في هذا القسم الرائع من اللوڤر الذي أعادني - في لحظة - إلي بلادي.. نسيت لبرهة أنني في اللوڤر.. وخيل لي وكأنني أمضي في بعض ربوع بلادي في الجنوب وبين مظانها الأثرية في الصعيد وظللت أفكر في هذا السؤال الذي لم أجد له إجابة شافية.. خصوصا وأنا ألاحظ عظمة العرض لآثارنا، وحجم الاعتناء بإبراز جمالياتها وقيمتها وإفراد المساحات اللائقة لكل قطعة منها.. هل أحزن لغيابها وابتعادها عن موطنها الأصلي.. بكل هذا الحجم والكم الهائل منها.. أم أسعد بهذه العناية وبهذا العرض الحساس الذي يعطي لكل قطعة قيمتها ومكانها ومكانتها.. وحينما أرصد ما تدره آثار بلادي - هي وغيرها من آثار الحضارات القديمة - من أموال وملايين علي فرنسا.. أتأسي علي الأوضاع المتحفية في بلادي، وعلي مخازن - وليس متاحف - الآثار عندنا.. وعلي النهب المستمر حتي هذه اللحظة لآثارنا من كل من هب ودب، وعلي النكسة التي تعانيها السياحة الآن.. برغم ما يقال عن اننا نملك نسبة كبيرة من آثار الدنيا في بلادنا.. وهكذا لم أمنع نفسي من امتزاج شعور بالأسي والاشفاق علي أوضاعنا الخاص منها والعام.. مع شعور مؤكد أيضا بالفخر والاعتزاز!