الشعر الحديث - كما يقول الشاعر الفرنسي رينيه شار - يعني بالكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلي الكشف، إذ إنه كشف واستجلاء لما هو منفلت فيما وراء العالم أو مكبوت في اللاوعي، أو مقيم في الظل منزو عن الضوء، وحالة الكشف هذه تعبير عن إرادة معرفة تصبو نحو رؤية العالم، واستكناه الوجود، واستبصار الجوهر الإنساني (1) ولذا فالشعر في إحدي إمكاناته واختياراته الكبري مساءلة حيوية للوجود وهو ما نجده في ديوان صحراء حتياطية للشاعر أشرف العناني، والعنوان حداثي، صيغة جد مختلفة للكتابة، تعكس وعيا وإدراكا مغايرين، يمثلان نزوحا نحو إعادة صياغة العالم أو إعادة إنتاج الحياة، إن طاقة الإدهاش التي يفيض بها العنوان تزج بالمتلقي دفعة واحدة في فضاء الشعر، فهو إذ يستنفر الخيال، يستفز كمون الروح، فتتخلق فعالية جمالية عميقة تبحث عن الإجابة أو تكرس للتساؤل . العنوان .. والدلالة الشعرية العنوان هو عتبة النص، ولذا فإنه أول ما سينّصب اهتمام وتركيز المتلقي عليه، فبقدر ما يحمل من طاقة شعرية ، ستنشط حركة الذات للتأويل ما بين العنوان والعالم الخارجي من جهة، والعنوان وارتباطه بالتجربة الشعرية في الديوان من جهة أخري، وهنا يبرز السؤال: كيف يتسني لنا إنتاج الدلالات الشعرية لهذا العنوان ومدي ارتباطها بالرؤية الشعرية في قصائد الديوان ؟. في اللغة الشعرية - كما يري الدكتور محمد فكري الجزارس - ننتقل من الاتصال النفعي الذي يفرض احترام وحدة عنصري العلامة ( الدال والمدلول ) وتطابقهما، إلي الاتصال الجمالي، حيث تتراجع أهمية هذا التطابق وتلك الوحدة، ويكون للإبداع الشعري أن يعمل علي أي من العنصرين علي الدال أو علي المدلولس .. تقوم الشعرية إذن- بواحدة من الممارستين هاتين، فإما ممارسة علي المدلول فتتم إزاحته وإدخال داله في شبكة من العلاقات تقترح له مدلولا جديدا ليس متطابقا هذه المرة ولكنه احتمالي الي أبعد حد، وإما ممارسة علي الدال تزيحه عن تطابقه مع مدلوله محتفظة بهذا الأخير معيارا لاختيار الدال /الدلائل التي ستشغل لأدائه بحسب الرؤية الإبداعية له، لا حسب الخطاب السائد عنه ... (2) هنا إذن يمكننا أن نستولد دلالات عديدة فالصحراء تمثل ( الفضاء / الحرية، الجدب / العقم، العراء / الانكشاف / الانتهاك /العُري، وأيضا الترحال، الصمت، الوسم أو الأثر، التيه، الأبدية، وغيرها) .. علي أننا سوف نقرن ذلك بالدال الثاني في العنوان احتياطية فنكون إزاء حرية احتياطية أو عقم احتياطي أو انتهاك احتياطي وهكذا .. والملاحظ أن الرؤية الشعرية في القصائد حملت هذه الدلالات في عديد منها مثل تجربب إلي أنديس ضمادات قد تفيد تشبهين نفسك ز زتعليقا علي حب عامر مزايا أن أيأس سهرات اضطرارية وغيرها بيد أننا سوف نعطي أمثلة لثلاث منها فقط .. حرية احتياطية كل ليلة - تقريبا قبل أن تنام تملأ الشباك البعيد بنصف جسدها الذي يوشك أن يختفي، وتمنّي نفسها بعبور رجل، أي رجل فقط ليلمحها وهي تمشط شعرها فيرتبك المشط وتتنهد هي مثل عمال المناجم وهم يتخيلون الساعات الطويلة التي اهدروها في الظلام ..(3) يعمد الراوي إلي إخفاء الطبيعة النوعية للشخصية، فلم يشر إلي كونها فتاة أم امرأة وبالتالي إسقاط الشروط والمحددات الاجتماعية، ليُبقي علي طبيعة راسخة وهي الأنثي، وبذا تصبح الحرية حاجة إنسانية أصيلة ، كما أن زمن القصيدة هو الليل حيث السكون والهدوء والستر وهي حالات تهيئ مناخا نفسيا لممارسة الحرية، غير أن مفردات الحدث الشعري ( نصف جسدها الشباك البعيد يوشك أن تمني نفسها أي رجل فقط ليلمحها فيرتبك المشط ) تشي بعدم اكتمال الظهور وكذا عدم إتمام الفعل، نحن هنا أمام حرية تمارس ولا تمارس، هي إذن حرية ناقصة، غير مشبعة أو معطل جانب كبير منها . عُقم احتياطي تحت نخلة يحالفها الحظ كل قيلولة، لأنني لن أرسمها طويلة هكذا في منامي ربما كذراع يسند ظهري بينما تركنين فوق ركبتيّ كلمتين أو ثلاث عن الشيب والحروب البعيدة . (4). تمثل النخلة قيمة حياتية كبيرة عند أهل الصحراء، بالإضافة إلي كونها رمزاً تاريخيا للهوية، فهي إذن تجمع بين الحضور المادي الطاغي والرمز الثقافي العريق، وهي في النص الشعري تستعر بالضوء /الشهرة ( يحالفها الحظ كل قيلولة )، لكن أنا الشاعر تمارس عليها فعلا تعجيزيا عقما مقصودا - ( لن أرسمها طويلة هكذا )، فيسلبها هو الرمز، كما ينتزع منها الحضور الحياتي الطاغي ( ربما كذراع يسند ظهري )، .. كما تتبادل الشخصية الثانية الأنثي في النص الشعري ذات الفعل ( العقم المقصود ) فتمارسه علي ذات الشاعر سواء أكان ذلك علي المستوي الفردي / الشخصي فتسلبه عنفوان الشباب ( الشيب )، أو علي المستوي الجمعي ( الحروب البعيدة ) .. انتهاك احتياطي بائعة الهوي ودون أن تدخل سن اليأس لم تعد تعتب علي عجينة السكر بالليمون ولا حتي علي المرآة التي صدئت حوافها ثديها الذي أُحرقت وفي حرب غير جادة مراكبه يعرف سر ذلك المُشرد الصغير الذي قلبه يسقط أسفل قدميه كلما مر شرطي لم يعد يسأل صديقته وهو يأخذ بيدها لتتشرد بين مخاطر جسده عن موضع قلبه أساسا لم يعد له قلب .. (5) الشخصيتان الرئيستان في النص هما بائعة الهوي و المُشرد الصغير فالأولي هي نموذج لانتهاك) الجسد / الآخر ) والثانية هي نموذج لانتهاك ( الجسد / المكان )، وتُبرز مفردات الحدث الشعري ما هو عينيات مرتبطة بالشخصيات أو أفعال معبرة عنها، ففي المقطع الأول نجد عينيات الشخصية ( عجينة السكر - الجسد )، و ( المرآة الآخر )، بينما تأتي الأفعال بصيغة النفي علي طريقة التعطيل أو الإرجاء ( دون أن تدخل سن اليأس، لم تعد تعتب علي عجينة السكر .. ولا حتي المرآة )، أما في المقطع الثاني الخاص بشخصية المُشرد الصغير فنجد ( الصديقة الجسد )، و (الشرطي الآخر ) ويأتي الفعل بصيغة النفي أيضا علي طريقة التعطيل ( لم يعد يسأل وهو يأخذ بيدها لتتشرد بين مخاطر جسده ) . بنية الظن، الريبة، المساءلة هل يحق لنا أن نبحث عن دلالة التيه في الصحراء إزاء تجربة الاشتغال الجمالي بهذا النص الشعري ؟! .. فالشاعر لا يخضع أو يستسلم لإكراه الحقيقة، فتارة تسود نزعة المساءلة والتي تعمد إلي كشف تعارضات العالم ومفارقاته التي لا نهاية لها، وأخري تسيطر النزعة الريبية التي تهدف الي تهشيم اليقين، بغية تأسيس مشروع إقامة جوهري بالظن الشامل، حيث إسقاط المعرفة الوثوقية، لصالح شكية مخلخلة ومنتجة في الآن ذاته، مخلخلة لنظام المعلوم، ومنتجة لأبجدية شعرية تقرأ المجاهيل اللابثة في الغور في المسكوت عنه، في اللاوعي الباطني للكينونة .. (6) في قصيدة علي قيد الحياة رجل افتراضي توهم امرأة افتراضية كيف أمكنه إذن أن يغضب ؟؟ وكيف أمكنها أن تتكلم بفصاحة عن غيابه ؟؟ في قصيدة كائنات كائن ُ وورقة بيضاء أمامه ..، أي فزع هذا ..؟؟ أي ولادة ..؟؟ أي موت ....؟؟ في قصيدة قاطع طريقس ربما وعْلُ ذات شتاء قديم ربما غيمةُ أكل الظلام سَرتها فمُ لا يكف عن النميمة أو هي الخسارة علمته أن يمهل الليل كي تنمو ذراعاه أطول وأطول . في قصيدة سلالة هذه حياتي يقول للحسرة التي أجلسها ذات شتاء فوق ركبتيه أي بطولة ؟؟!! لو يطْعمُ الطيرٌ لو كان للمسافر قلبان أو ثلاثة ..، لو كانت الصحراء تنتهي هنا ..، لو كانت الصحراء تنتهي هنا ..، ويشير إلي ظله .. وتكشف هذه النماذج في جدلية الواقع /الرمز علي تباين في الدرجة عن حالات من التوتر، الصراع، المعاناة التي تكابدها الذات في مواجهة العالم بكل مفرداته، كما تلقي في روع المتلقي بحمولات نفسية وعاطفية وإنسانية عميقة .. وأخيراً يتجلي في قصائد الديوان هذا الالتحام بين اللغة والتجربة علي نحو يجعل لكل جزئية من جزئيات الوجود، أي كل تجربة جزئية لهذا الوجود، لغتها الخاصة .. الهوامش : 1عبد العزيز بومسهولي : الشعر الوجود والزمان ص15 2 الدكتور محمد فكري الجزار :العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي 3ديوان صحراء احتياطية أشرف العناني ص 37 4 نفسه ص 25 - 5نفسه ص 44 6الشعر الوجود والزمان عبد العزيز بومسهولي 7ديوان صحراء احتياطية أشرف العناني ص 62 8نفسه ص 30 9نفسه ص 85 10 نفسه ص 87