كانت الرائحة فظيعة فعلا، وخانقة، حريفة، ونفاذة، وتلطم الأنف، ولولا الظروف التي أضطرتني للعبور من هذا المكان، لما ارغمت علي استنشاق كل هذا القبح المعلن، والفائح برائحة ربما آلاف البشر - يوميا - الذين يتخذون من هذا الحائط أسفل الكوبري العلوي في وسط البلد مكانا للتبول! حتي ان الجدار قد اسوّد سوادا خاصا مقبضا قذرا، واختلطت السوائل الحمضية المتتالية بأكوام الأتربة الصغيرة أسفل الحائط لتصنع عجينة عجيبة أبدية الوجود، ومتفاقمة الحدود، كل يوم، من الروائح البشعة، والبرك الصغيرة الآسنة العفنة!.. لحظات هي الجحيم بعينه، ودهشت للعادية الشديدة التي يمارس بها الناس - الذكور منهم طبعا - علانية هذا الطقس المؤذي، وبلا أي خجل أو استحياء قطعا!.. خصوصا والنساء والفتيات يعبرن بهم جيئة ذهابا طيلة الوقت (ودول ولا علي بالهم!).. وشعرت - للحظات - انني إزاء معهد سريالي بامتياز، لعله لم يخطر، بهذا الشكل، وبهذا الحجم، وبهذه الكثافة، علي ذهن أجعص خيال لفنان سريالي كبير كسلفادور دالي أو ماكس ارنست، وما إن عثرت علي التاكسي الذي وافق مشكورا علي الذهاب بي إلي المكان الذي أقصده، حتي ارتميت في المقعد الخلفي (متنفسا) الصعداء، أو متنفسا الهواء الذي برغم تلوثه بالعوادم ودخان سيجارة السائق -، إلا انه بدا نعيما بالقياس إلي حائط اللعنة الذي عبرته لتوي وقلب كل كياني، ويبدو أن منظري كان ناطقا بالإشمئزاز والقرف مما دفع السائق - لسؤالي فحكيت له، وإذ به يقول، وربما يكون معه بعض الحق (أو كله): - الناس معذورة يا أستاذ!.. حيعملوا أيه طيب؟.. مدينة زي القاهرة.. شوف فيها كام مليون نسمة، وعاصمة كبري في المنطقة، ولاتجد فيها مراحيض عامة كفاية، مفروض في كل حتة، وكل شارع، وكل ميدان.. ربما حتلاقي كام واحد في كام مكان.. ومن زمان.. وطبعا ما بيكفوش حد.. وحالتهم تلاقيها بالبلا.. استهلكوا ع الآخر.. الناس تعمل إيه بس يا أستاذ،.. دا كمان الله يكون في عون الستات! ووجدت كلام الرجل منطقيا فعلا، الناس معذورة، ماذا يفعلون إذا (زنقوا) في أي مكان، في أثناء سعيهم ليل نهار علي شئون معاشهم، وفي خضم حركتهم اليومية الواسعة.. ماذا يفعلون؟! وانهي السائق أخيرا سيجارته التي عبأت السيارة بالدخان، ثم إذ به يلقيها بعزم ذراعه من شباك السيارة إلي الشارع، مشتعلة، ومتوهجة، لتسقط بجوار كومة صغيرة من القمامة المليئة بالورق والجرائد والمخلفات المختلفة، ومن الممكن ببساطة أن ينشب حريق صغير فجأة نتيجة لتصرف من هذا النوع، ولم أمنع نفسي من قول ذلك للسائق، فإذا بالرجل يبتسم ابتسامة عريضة مستهترة: - قول ياباسط يا أستاذ، وايه يعني، طب ياريت تولع حريقة في جبال الزبالة الموجودة في كل حتة!.. علي الأقل، ح تنضف الشوارع من الزبالة اللي مش عاوزين يشيلوها دي! وفعلا، أكوام الزبالة في كل مكان، خصوصا، بجوار التجمعات الجماهيرية- الطبيعية، المساكن، والأحياء الشعبية، المدارس.. المصانع.. وأخذت أترحم علي شوارع قاهرة الثلاثينيات والأربعينيات التي كانت تبدو في الأفلام السينمائية زي الفل نظاما ونظافة.. أصبحت الآن، نموذجا للفوضي والقذارة ومليئة بالمخلفات في كل شبر.. ولا أنسي في الأيام الخماسينية الأخيرة الماضية، وكنت في وسط المدينة، حينما حملت الزوبعة عاليا في سماء المدينة آلاف القصاصات الورقية من الجرائد والمجلات وغيرهما إلي أعلي مخلوطة بالأتربة وعناصر القمامة الخفيفة.. علب سجائر فارعة.. علب عصير كرتونية.. أكياس سندويتشات.. الخ، ليبدو الأمر مع الغبار، وكأنني في مهرجان شيطاني ما.. حيث امتلأت السماء فوقنا بتنويعات من الزبالة الراقصة المتصاعدة إلي أعلي في رقصة تعبيرية علوية دالة علي حالة القذارة التي صارت تعيشها شوارعنا، ليس في منتصف المدينة فقط، وإنما في أرقي أحيائنا، فما بالك بالأحياء الشعبية، وكانت المفارقة في هذا اليوم الخماسيني، انه إذا هدأت الرياح والزعابيب أو ابتعدت عن المكان، شرعت الزبالة المزركشة المعلقة بين السماء والأرض في الانهمار كالمطر علي رؤوس الناس والسابلة في الطرقات والشوارع، ليصبح المشهد مصداقا حيا للقول الحكيم البليغ "من أعمالكم سلط عليكم" أو من زبالتكم سلط عليكم، أو أسقط عليكم! ولا أدري - حقيقة - ما هو السر في عجزنا عن حل مشكلة النظافة، كنت تلمح من مدة ليست بالبعيدة، صناديق القمامة الرسمية، بمختلف أحجامها، بتاعة الحكومة في كل الأحياء والمربعات السكنية، الآن، انقشعت هذه الظاهرة، ولم يعد هناك - إلا فيما ندر - هذه الصناديق، وإذا كان ثمة صندوق هنا وصندوق هناك تراه بين الحين والحين.. فهو في مكانه وبمفرده لايغني ولايسمن، تجده ممتلئا عن آخره بالزبالة، بل والزبالة تفيض منه علي جوانبه حتي تصل إلي الأرض، والأصل في هذه الصناديق لدي بلدان الدنيا كلها، أن يتم تفريغها يوميا علي الأكثر، لأنه في كثير من البلاد التي عشت بها، ولاتعاني من اكتظاظنا السكاني، ومخلفاتنا الكبيرة، كان يتم تفريغ هذه الصناديق ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد، ولكن لا أدري أولا لماذا انقشعت هذه الصناديق من أحياء القاهرة الكبري، وما بقي منها له وجود رمزي لايكفي ضغط السكان في الحي، بالإضافة إلي انه لايتم تفريغ هذه الصناديق بشكل يومي، ومن ثم صرت تجد أكوام الزبالة الرهيبة تعلو في معظم المناطق، وفي قلب أرقي الأحياء، وبجوار دور العلم والمصانع والمدارس، ويؤدي هذا الوضع المتفاقم إلي حلول أكثر تلوثا للبيئة يلجأ إليها - مثلا- بعض فراشين وخفراء المدارس لحل المشكلة.. إذ يجمعون ما تخلف عن أولادهم وتلاميذهم، من بقايا ونفايات في وسط حوش المدرسة ويشعلون فيها النار، وتتصاعد في المنطقة كلها، ربما لعدة ساعات، أدخنة خانقة للمربع السكني كله، تقتحم الشقق والعمارات حتي الأدوار العليا، ومن ثم نعالج مشكلة بيئية ضاغطة (وهي الزبالة والقاذورات وأكوام القمامة) بمشكلة بيئية أخري، حيث ننشر الدخان الخانق والملوث بكل المعاني في سماء المنطقة!... بل اننا، وحتي الآن، نصادف أحيانا، هؤلاء الكناسين المساكين الذين يواجهون الطوفان المكتسح بمقشاتهم التقليدية الطويلة الغلبانة والمعمولة من سعف النخيل!.. في بدايات الألفية الثالثة في تاريخ الانسان المعاصر، حيث أصبحت هذه المسائل تتم بوسائل تكنولوجية متقدمة جدا وسريعة للغاية! وأفقت من خواطري، علي مجموعة من الشباب يركبون سيارة حديثة بجوارنا يضغطون علي نفير سيارتهم الرفيع الحاد المزعج بإيقاع منتظم وخارق للأذن وحينما لاحظ سائق التاكسي اشمئناطيء ابتسم قائلا: - أصل مصر غلبت النهاردة يا أستاذ! فأرد أنا: - وهل هذا يعني إزعاج الناس بهذا الشكل؟ السائق مبتسما: - قول يا باسط يا أستاذ! الضوضاء بجواري تزيد وتخف تبعا لاقترابنا أو ابتعادنا عن السيارة، الشباب يملأونها بأكثر من سعتها، ويجلس بعضهم علي حافة النوافذ، يصفقون ويهرجون ويشربون المياه الغازية ويأكلون السندويتشات، يطوحون بالفوارغ بملء أيديهم هكذا في قلب الشارع، سائق التاكسي، مبتسما، ومتعاطفا، باعتبار انه يشجع فريقنا القومي أيضا، ويحيي إنتصاره مع هؤلاء الشباب، الذين سبقتنا سياراتهم الآن، أحدهم وضع بقايا سندويتشاته في الكيس، ثم طوح به من النافذة مستهترا، يطير الكيس المحمل ببقايا الطرشي والأكل ليتجه كالصاروخ باتجاه سيارتنا ليصطدم بزجاج الواجهة الأمامية خبط لزق محدثا ما يشبه انفجارا صغيرا، وتنتشر الشظايا اللزجة كالبؤر الصغيرة علي زجاج السيارة الأمامي، ويضغط سائق التاكسي الفرامل، ويقف فجأة، سابا ولاعنا، وقد غاضت الابتسامة المشجعة من وجهه، واكتست ملامحه بغضب عارم، وهو يسب ويلعن، بينما انطلق الشباب بعيدا في هرجهم ومرجهم المستهتر العابث، لا مرور يوقفهم، ولا شرطة تعترضهم، ولا رجال أمن يخالفونهم علي امتطاء شبابيك السيارات، وإنما يمضون بهذا الشكل العبثي، وكأنهم يحظون بموافقة جماعية اجتماعية علي هذا السلوك الشائن الخطر!.. وبينما السائق يقف علي جنب ليمسح مخلفات السندويتشات اللزجة من سيارته، وينظف الزجاج لتتضح الرؤية أمامه، وهو في حالة بالغة من الاستياء والغضب، نظرت إليه مليا، مهونا من ثورته، قائلا له: - ولايهمك يا أسطي.. قول ياباسط! ولم يعلق الرجل، ولا أدري هل أدرك المفارقة أم لا، المهم انه انتهي من مهمته الطارئة، وشرعنا في رحلتنا، واستعاد الرجل مرحه بعد دقائق، ثم فجأة، سعل وتمخط وأصدر زمجرة معينة يعرفها المدخنون للجوزة والشيشة جيدا، وشد شيئا عميقا من داخل حنجرته، واتخذ وضعا خاصا، حيث ألقي برأسه إلي الخلف ثم اندفع إلي الأمام، مطلقا بصقة جبارة عابرة للنافذة إلي قلب الشارع، مخلفة بقعة قبيحة ولزجة علي الأرض، ومفعمة بالمرض والقرف والبذاءة والتلوث، وتداعت في ذاكرتي - فورا - مئات وآلاف البصقات التي أصادفها في كل مكان، في الشوارع، وعلي الأرصفة، بل وعلي سلالم المصالح والهيئات والعمارات السكنية، حتي انني أوشكت علي الاعتقاد اننا أكبر شعب باصق في التاريخ، واستغربت لهذا الفعل الفادح الفاضح البذيء جدا بما يصاحبه من موسيقي تصويرية نابية تصدر من الزور والحنجرة، ومن استعداد وتجميع ودفع وإطلاق في النهاية، لنلطع تلك البصقات كاللعنات علي الجدران والأرض والشوارع والسلالم.. في كل مكان.. كل مكان! ويبدو أن هذه الخواطر المقرفة انعكست علي وجهي، ورمقني السائق من المرآة بابتسامة خفيفة مستهترة تلوح علي وجهه، وبدأ كأنه - تقريبا - يعرف ما يجول في خاطري من أفكار بعد بصقته الجبارة أرض/ أرض التي أطلقها بكل همة وكفاءة، ولم أملك إلا أن أقول له: - منديل ورق يحل هذه المشكلة يا ريس، بدلا من هذا السلوك الغريب! - يعني هي جت علي أنا يا بيه.. ما الناس في كل حته بتعمل كده.. طب دا أنا مرة معدي، ولقيت جنب مني واحد تف في الشارع في اللحظة اللي انا عديت فيها، والتفة - لا مؤاخذة- جت في وشي، والراجل اعتذر، وأنا مسحت التفة وخلاص.. حنعمل إيه يا بيه.. أهي تفه وعدت.. وقول... وقاطعته بحدة: - أوعي تقول.. قول يا باسط! الرجل يضحك ملء فمه ويقول: - بلاش قول يا باسط يا بيه.. خلي البساط أحمدي ولم أملك إلا أن أرد علي الرجل.. ربما يائسا، ربما عابئا، ربما بخليط من الشعورين، ولكن بهدوء وجدية: - قصدك.. خلي (البصاق) أحمدي! وانفجر الرجل في ضحكة مجلجلة إعجابا (بالقافية) أو بالمفارقة اللفظية! وغرقت أنا في خواطر وهواجس وكوابيس لعلي لم أفق منها حتي الآن!