صبحى فحماوى الذكري الخامسة والستون للنكبة الفلسطينية في مايو عام ثمانية وأربعين ما تزال صادمة مزلزلة للشعب العربي الفلسطيني، وللوطن العربي، إن لم نقل للعالم كله بلا استثناء، الذي يغلي اليوم بمرجل تبعات احتلال الكيان الصهيوني لقلب الوطن العربي فلسطين، والتي احتفل الاحتلال مؤخراً بتوحيد قدسها تحت باب عاصمة إسرائيل الموحدة، بينما تبقي الشعوب العربية تعتبرها عاصمة فلسطين العربية الموحدة، وفيما يخص الأدب العربي الفلسطيني ، يوسم هذا العام باسم شاعر المقاومة الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود بمناسبة مئوية مولده في عام ألف وتسعمائة وثلاثة عشر. وقبل أن نذكر شيئاً عن شخصيته، نسجل بعضاً من أشعاره، والتي يقول فيها: سأحمل روحي علي راحتي...وألقي بها في مهاوي الردي... فإما حياةٌ تسر الصديق...وإما ممات يغيظ العدا..ونفس الشريف لها غايتان...ورود المنايا ونيلُ المني...لعمرك إني أري مصرعي...ولكن أَغُذُّ إليه الخطي...أري مقتلي دون حقي السليب...ودون بلادي هو المُبتغي...يَلَذُّ لأذني سماع الصليل... يُهَيِّجُ نَفْسِي مَسِيلُ الدِّما...وجسمٌ تَجَدَّلَ فوق الهضاب...تُنَأوِشُه جَارِحات الفَلا...فمنه نصيبٌ لِأُسِْد السَّماء..ومنه نصيب لأسد الثَّرَي...كسا دَمُهُ الأرضَ بالأُرْجُوَان...وأثقل بالعطر رِيْحَ الصَّبا...وعَفَّر منه بَهِيَّ الجَِبين...ولكن عُفارًا يزيد البَها...وبَانَ علي شَفَتَْيه ابْتسام...مَعانِيْهِ هُزْءٌ بِهذِي الدُّنا...ونام حْلُمَ حُلْمَ الخُلودِ...ويَهْنََأ فيه بِأحْلَي الرُّؤي...لَعَمْرُكَ هذا ممات الرجال...ومن رَامَ موتًا شريفًا فَذَا. ذلك الشاعر الذي التحق بثورة عز الدين القسام التي ابتدأها مع رفاقه بإضراب ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، ثم استمروا حتي يومنا هذا. ولكن عبد الرحيم محمود ترجّل واستشهد شاباً في صيف عام النكبة، عن عمر قارب خمسة وثلاثين عاماً حيث أصابته قذيفة في عنقه. الأمر الذي يميز الشاعر عبد الرحيم محمود هو الثورة، إذ كان »شاعرا ثائر«» ومشاركاً مشاركةً فعلية في النضال ضد العدوان الغاشم علي وطنه فلسطين، وإن هذه المشاعر جعلت الشعر يخرج من أحشائه الملتهبة ليؤثر علي كل الحواس، وإن الحسّي لديه تحول إلي عمليّ، وهي ميزة لا تتوفر عند غيره من الشعراء. ولقد خلّف لنا عبد الرحيم محمود عددًا من القصائد، كتبها بين عامي خمسة وثلاثين وثمانية وأربعين، جمعتها له بعد وفاته بعشر سنوات لجنة من الأدباء، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية. وصدر ديوانه في عَمَّان عام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف، وهو يضم سبعًا وعشرين قصيدة، هي أهم ما كتبه في عمره القصير المليء بالكفاح. ولقد زار »الأمير سعود بن عد العزيز« ولي عهد المملكة العربية السعودية (الملك سعود فيما بعد) قريته الفلسطينية عنبتا، قضاء طولكرم، فألقي عبد الرحيم محمود بين يديه قصيدة، وكان عمره اثنين وعشرين عامًا، قال فيها: يا ذا الأمير أمام عَيْنِك شاعرٌ ضُمَّت علي الشَّكوي المريرة أَضْلُعُهْ المَسجد الأقصي أَجِئْتَ تَزُورُه؟ أم جئت من قِبَلِ الضِّبَاع تُوَدِّعُهْ؟ حََرمٌ مُباحُ لكل أَوْكَعَ آبقٍ ولكلِّ أَفَّاقٍ شَرِيدٍ، أَرْبُعُه وغدًا وما أدناه، لا يبقي سوي دَمْعٍ لنا يَهْمَي وَسِنٍّ نَقْرَعُه وهذا يوضح بُعْدُ نظر الشاعر الشاب يومها، ورؤيته الواقعية للظروف العربية التي نعيشها اليوم. وفي قصيدته (دعوة إلي الجهاد) يقول مستهترًا بالموت فداء للوطن: دعا الوطنُ الذبيحُ إلي الجهادِ...فَخَفَّ لِفَرْطِ فَرْحَتِه فؤادي....وَسابَقْتُ النَّسِيمَ ولا افتخارٌ... أَلَيْسَ عليّ أن أَفْدِي بِلادِي.... حَمَلْتُ عَلَي يَدِيْ رُوحي وقلبي...وما حَمَّلتُها إلا عتادي...فسِيْرُوا للنِّضَالِ الحقِّ نارًا... تَصُبُّ علي العِدَا في كل وادِ... فليس أَحَطُّ من شَعْبٍ قَعِيْد...عن الجَلَّي وموطنه ينادي.. لم يختلف عبد الرحيم محمود عن شاعر تونس العربية أبو القاسم الشابي، الذي كلنا يحفظ قصيدته: إذا الشعب يوماً أراد الحياة...فلا بد أن يستجيب القدر....وإن هذين الشاعرين، وهذه الأشعار، لتؤكد في مشاعرنا وحدة الهم العربي، ووحدة نضاله نحو الخروج من ربقة المستعمر، وإن اختلفت أشكال استعمار بلادنا، واختلفت معها أشكال المقاومة..